(صفقة القرن): السيناريوهات في ظل المخاطر والتحديات

اقرأ في هذا المقال
  • التحدي الجوهري أمام الصفقة هو توحّد الموقف الفلسطيني على إجهاضها، ولذلك يجب ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل.

 

مثل إعلان الإدارة الأمريكية عن تفاصيل خطتها لسلام الشرق الأوسط، تحد للوعي والفعل السياسي العربي والفلسطيني، بما اكتنفه مشهد الإعلان من بعد احتفالي، يوحي بثقة كبيرة من الادارة الأمريكية وحليفها الاحتلال الإسرائيلي، بعدم وجود قدرة لدى الفلسطينيين واصدقائهم على معارضة او تعطيل إنفاذ الصفقة.

وبغض النظر عن هذا الإيحاء الأمريكي -الإسرائيلي- المشترك، تبحث الورقة السيناريوهات المحتملة لتنفيذ الخطة المذكورة في ظل الرفض الفلسطيني لها، وفي ضوء مواقف القوى المعنية الاقليمية والدولية، كما تقدم الورقة قراءة للمخاطر والتحديات التي تحملها هذه الخطة وتلك المصاحبة للسيناريوهات المختلفة لمحاولة تطبيقها.

السياق التاريخي للصفقة:

جاءت صفقة القرن ثمرة لجهود مستمرة امتدت منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه، إذ لم تأتِ الخطة من فراغ، بل جاءت في سياق عملي مخطط له، منذ أن كشفت (هآرتس) بتاريخ 29 مارس/آذار 2017 أن ترامب بعث برسالة إلى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بواسطة المحامي الأميركي اليهودي ألن درشوفيتش، المقرب من اليمين الإسرائيلي، وقال في الرسالة إنه بالإمكان التوصل إلى اتفاق إسرائيلي-فلسطيني الآن، وإنه يريد تحقيق صفقة بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين.

لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي كان أول من كشف عن خطة أمريكية ستكون بمنزلة «صفقة القرن» بعد لقائه الرئيس ترامب في يوم 4 أبريل/نيسان 2017، أي بعد أسبوع من قمة البحر الميت في الأردن يوم 28 مارس/آذار 2017. وقد حضر تلك القمة المبعوث الأمريكي الخاص جيسون غرينبلات مراقبًا، فاجتمع مع عدد من وزراء الخارجية العرب، ضاغطًا لصالح «برنامج عمل مختلف» يخص عملية السلام، يتباين مع ما قرره الاجتماع الوزاري العربي، بهدف أن تُستبدل بعبارة «حل الدولتين» عبارة «حل يتوصل له الطرفان»، والحديث مجددًا عن «مفاوضات مفتوحة»، وأخيرًا الضغط باتجاه «مؤتمر إقليمي يفتتح المفاوضات مجددًا» بدلًا من الاستناد إلى المبادرة العربية.

أهم معالم الصفقة:

من استقراء الخطة؛ هي قفزة في تلك الجهود الساعية لتصفية القضية الفلسطينية دون منح الفلسطينيين حقوقهم، تتجاوز بذلك النمط المعتاد من الانحياز الأمريكي الذي ساد على امتداد مسار طويل من المبادرات والمفاوضات، والتي لم تخرج عن كونها تسعى بالجملة إلى تأمين المصالح الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، ولم توفر ضمانات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على ترابها وعلى أجوائها، وتسعى لتقسيم القدس وتنتقص من حق العودة للاجئين.

فقد جاءت الخطة كامتداد لخطط الاحتلال الإسرائيلي الساعية لتصفية الحقوق الفلسطينية   – ابتداء من خطة آلوان- أكثر من كونها امتداد للموقف الأمريكي المنحاز للاحتلال الإسرائيلي،  وتجاوزت في إجحافها بحق الفلسطينيين  اتفاق الحكم الذاتي للفلسطينيين حسب اتفاق كامب ديفيد 1978، واتفاقية أوسلو1993 ، وعبرّت بوضوح عن تجاوزها -ابتداءً- لدور أي طرف فلسطيني في الموافقة او الرفض، وطرحت حل غير تفاوضي، يقوم على تصفية الحقوق الفلسطينية والقضايا الصراعية بمجموعة من الاجراءات الأحادية للاحتلال الإسرائيلي المغطاة بدعم أمريكي.

فقد نصت الخطة على ضمان الحاجات الأساسية لأمن الاحتلال الإسرائيلي بسيطرته على غور الأردن، وترك المواقع الاستراتيجية في يده؛ مع استمرار سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على المجالين الجوي والكهرومغناطيسي؛ لتجريد أي دولة فلسطينية في المستقبل من السلاح؛ وحرية الحركة لجيش الاحتلال الإسرائيلي بمحاربة “الإرهاب” في المنطقة بأكملها غرب نهر الأردن. في هذا السياق، سيكون لدولة الاحتلال الإسرائيلي سيطرة أمنية على المنطقة بأكملها المحيطة بالدولة الفلسطينية وجميع المعابر الحدودية.

ونصت الخطة على إقامة دولة فلسطينية بعد أربع سنوات، مع مراعاة الوفاء بالعديد من الشروط السابقة وهي تشمل: الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، عاصمتها القدس، وتفكيك جميع البنى التحتية والقدرات العسكرية لحماس، لا تعترف الخطة بـ “حق العودة” للفلسطينيين إلى الأراضي الإسرائيلية، ولن يتم إخلاء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية .

ردود الأفعال:

الموقف الفلسطيني: الموقف الرسمي الفلسطيني المتمثل بالسلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح، وموقف حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وباقي الفصائل، كان موقفًا رافضًا للصفقة، لكن من دون أن تنجح قُواه -حتى الآن- في تشكيل جبهة موحدة لمواجهة الصفقة وانعكاساتها السلبية على القضية الفلسطينية.

المواقف العربية: بتجاوز الدول الثلاث التي أرسلت مندوبين لها لحضور الاحتفال بالإعلان عن الصفقة، فقد أظهرت بعض الدول العربية تفهمًا للموقف الأمريكي، ودعت الفلسطينيين إلى التفاوض بشأنه مع التمسك بالحقوق الفلسطينية، وهذا ما عبرت عنه دول الخليج كلها، وإن كان بصيغة مختلفة، وكذلك مصر والأردن، وهي الدول المنخرطة بشكل كبير بالقضية الفلسطينية، في حين أبدت باقي الدول العرية رفضها للصفقة، وقد أعلنت كذلك منظمة التعاون الإسلامي، والتي تضم 56 دولة من بينها دول الجامعة العربية- رفضها للصفقة، لكن الصوت الأبرز في الرفض كان للموقف التركي والإيراني والماليزي.

المواقف الدولية: شككت معظم الردود الدولية في أن تكون هذه الخطة هي المخرج والطريق إلى تسوية دائمة للصراع في المنطقة، وقد عبر عن ذلك موقف الاتحاد الأوروبي، حليف واشنطن وروسيا والصين.

والأهم الموقف الأمريكي:وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس ترامب يحظى بدعم واسع في الحزب الجمهوري بصورة غير مسبوقة، وما إخفاق محاولة محاكمته في مجلس الشيوخ إلا دليل على قوته، فالحزب الجمهوري يلتف من خلفه لأنه يُعد قضية القاعدة الأساسية في الحزب، ويحظى بدعم واسع من الجمهور الأمريكي، أي إنه يحظى بدعم من الحزبين الكبيرين. فبخصوص النواب الديمقراطيين، وعلى الرغم من معارضة عدد منهم، فإن عددًا آخر منهم كذلك -على رأسهم رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي- يدعمون الخطة، على الرغم من تحفظهم على بعض جوانبها.

بيئة الإعلان عن الصفقة:

إسرائيليًّا: أُعلن عن الصفقة في وقت يحتاج إليه كل من طرفي الصفقة ترامب ونتنياهو، فترامب من جهته يريد أن يُحدث اختراقًا سياسيًّا على جبهتين: الأولى الجبهة الأمريكية، وهنا يهدف إلى ضمان أصوات حلفائه الإنجيليين في الولايات المتحدة بما يملكون من قوة تصويتية، ودعم مالي لحملته الانتخابية، وضمان حشد اليمين الأمريكي له. أما الجبهة الأخرى فتقديم هدية انتخابية لصديقه نتنياهو، في ظل حالة انسداد الأفق السياسي، وغياب إمكانية الحسم لصالح نتنياهو. وهو هنا يتوافق مع الحاجة الدعائية لنتنياهو إلى توظيف هذا الإنجاز التاريخي له، الأمر الذي دفع زعيم حزب أزرق أبيض، بني غانتس، إلى الإعلان عن تأييده للصفقة، ومن ثم تحولت الصفقة إلى نقطة إجماع قومي، إذ حظيت بدعم 99 صوتًا في الكنيست من أصل 120 مقعدًا، ولم تعارضها إلا 9 أصوات يهودية تشمل حزب العمل والتحالف الديمقراطي، إلى جانب القائمة العربية بـ12 مقعدًا.

فلسطينيًّا: ساهمت حالة الانقسام الفلسطيني بين حماس وفتح، والانقسام الداخلي في فتح حول مسألة الخلافة ما بعد أبو مازن، في تبلور حالة من الضعف غير المسبوق على المشهد الفلسطيني، فقد أدت سيطرة حماس على قطاع غزة إلى اتخاذها ذريعة لحصار غزة وإنهاك المواطن الفلسطيني هناك، وكان أشدها قسوة هو إجراءات السلطة بعد قمة البحر الأحمر، التي بدأت بتقليص فاتورة الرواتب وضخ المال إلى قطاع غزة، مما حوّل الحياة فيه إلى حالة مأساوية. أما في الضفة الغربية، فإن الصراع مع حماس والتنافس الداخلي في صفوف حركة فتح على خلافة الرئيس، حوّل الوضع في الضفة إلى حالة أمنية، وانشغل قطاع واسع من الجمهور هناك بالمصالح الخاصة بعيدًا عن المشاركة السياسية، خاصة في ظل تعطيل المؤسسات الدستورية المنتخبة. ولهذا فقد تراجعت المناعة الوطنية بسبب الحالة القائمة، سواءٌ في غزة وفي الضفة الغربية. وقد شكلت كل محاولات المصالحة بين السلطة وحماس، نقطة ضعف كبيرة في الموقف الفلسطيني، وإضعافًا لقدرته على التعامل مع القضية الوطنية.

السيناريوهات المحتملة لتنفيذ الصفقة:

السيناريو الأول: فشل تنفيذ الصفقة:

فشل الاحتلال الإسرائيلي في فرض الصفقة على الفلسطينيين نتيجةً لامتناع الأطراف الفلسطينية -حتى في ظل حالة الانقسام- عن المشاركة في تنفيذ الصفقة، أو الاستعداد للتفاوض على بنودها. كذلك في ظل رفض عالمي للصفقة، وتذبذب لمواقف الدول المؤيدة لها، في مقابل الرفض الشعبي الذي ينتظر تحرك طرف فلسطيني يكون بوابة للولوج من خلالها. ولذلك فما دام الموقف الفلسطيني متماسكًا في رفض الصفقة، فإن فرص تطبيقها على الأرض ستكون ضعيفة، لكن المشكوك فيه هل تنجح الفصائل والقُوى الفلسطينية على المدى البعيد -في ظل حالة الانقسام- في أن تواجه الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والعربية للشروع في تنفيذ الصفقة.

شروط نجاح هذا السيناريو:

نجاح القُوى الفلسطينية بتوحيد مواقفها، وتعطيل السلطة الفلسطينية عملية التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي. لكن المشكلة أن ما تراه السلطة -كما قال توفيق الطيراوي- من تجرِبة أبو عمار في انتفاضة الأقصى، أنه لا يمكن توقيف التنسيق الأمني. ولذلك يبقى الخِيار أمام السلطة إما وقف التنسيق بشكل كامل، وهذا أمر صعب في ظل البنية التي أنشئت عليها السلطة، وإما أن تجد السلطة آلية لتنسيق أمني محدود ومقيد، يعطيها فرصة المناورة لاجتياز المرحلة الحالية، عبر تخفيض مستوى التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، وخفض جودة المعلومات الأمنية، بحيث توازن بين فرصة بقاء السلطة وحاجات المقاومة إلى مشروع الصفقة.

النتائج المترتبة على هذا السيناريو:

فشل الاحتلال الإسرائيلي، وممارسة ضغوطه على الفلسطينيين سيؤدي إلى اندلاع مواجهات في الضفة الغربية، لكنها لن تكون بمستوى الانتفاضة الثالثة، وهنا يجب أن يكون تنسيق بين فصائل العمل الوطني من أجل تحديد مستوى المواجهة مع قوات الاحتلال خاصة أن السلطة لا تزال تعيش هاجس انقسام 2007.

أما على صعيد غزة، فإن التوتر سيكون سيد الموقف، وقد تتصاعد المواجهة إلى مستويات مسبوقة، وهذا يتطلب من قيادة المقاومة في غزة أن تعمل على تجنب المواجهة الشاملة، لأن أي مواجهة شاملة في ظل الظروف الحالية ستخدم الاحتلال أكثر من المقاومة، وستعطيه فرصة لتنفيذ الصفقة تحت ضجيج القصف، والأخطر هنا هو ملف المسجد الأقصى.

السيناريو الثاني: التطبيق من طرف واحد

نتيجة لغياب طرف فلسطيني أو عربي يأخذ على عاتقه تنفيذ الصفقة، فإنّ ما يحتاج إليه الاحتلال الإسرائيلي هو الحصول على غطاء أمريكي لموقفهم السياسي، لتنفيذ بعض الإجراء على الأرض؛ أهمها ضم المستوطنات ومنطقة غور الأردن من جانب واحد بعيدًا عن أي اتفاق. وتنفيذ مثل هذه الإجراءات قد يُواجَه بضغوط، خاصة من الدول الأوروبية، الشريك التجاري الأكبر للاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم فإن توفير الغطاء الأمريكي هنا ضروري لتنفيذ هذه الخطوات، تجنبًا للتعرض لضغوط مفترضة في هذا المجال من دول الاتحاد الأوروبي، ومن بعض الدول الأخرى التي تدور في الفلك الغربي وتقيم علاقات اقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي.

ولذلك فقد لا يكون الاحتلال الإسرائيلي في حاجة إلى وجود طرف فلسطيني أو عربي، بل تكتفي بتحقيق ما تريد من فرض الوقائع على الأرض، كما فعلت حين ضمت الجولان. هذا إضافةً إلى أنها لا تخشى المواقف العربية -خاصة من الدول الفعالة في القضية الفلسطينية- سواءٌ مصر والأردن ودول الخليج، بسبب العلاقات الخاصة مع بعض هذه الدول من جانب، وضعف هذه الدول أمام الضغوط الأمريكية، وظهور توجهات فيها إلى تغليب المصالح الوطنية على المصالح القومية العامة من جانب آخر.

أما تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى من خلال فرض التقسيم الزماني والمكاني، فسيكون إجراءً مرتبطًا بطبيعة ردة الفعل على الخطوات التي يمكن أن تقدم عليها، فإن نُفّذت دون أن يدفع الاحتلال الإسرائيلي تكلفة كبيرة في هذا المجال، فقد تذهب نحو تغيير التقسيم الزماني أو المكاني أو كليهما بأي شكل كان، وهذا سيكون مرتبطًا بردة الفعل على الأرض.

وفي هذا السيناريو أيضًا، سيكون من الصعب إيجاد آلية لتنفيذ جزء مهم من خطة تبادل الأراضي في مناطق المثلث، والتخلص من العبء الديموغرافي حين يقترب عدد السكان من 400 ألف عربي داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا إلى عدم وجود طرف يتولى المسؤولية عن هذه المناطق.

وهنا يمكن الإشارة إلى أن ما ورد في بنود الصفقة من مكاسب للاحتلال الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين، هو أمر محسوب مسبقًا بهدف دفع الفلسطينيين إلى رفض الصفقة، ووضعهم في وضع يستحيل على أي جهة وطنية أن تفكر بقبول الصفقة فيه، ومن ثم تنفيذ نتنياهو للصفقة بالطريقة التي تناسبه، وهو بذلك قد يحقق إنجازًا كبيرًا على قاعدة أنّ رفض الصفقة قد يمكّنه من ضم عدد أكبر من الأراضي، يفوق ما سمحت به الصفقة إغراءً للفلسطينيين، وربما يذهب إلى ضم المنطقة (ج) كلها، والتي تبلغ 60% من مساحة الضفة، وليس 30% فقط كما هو معلن. وهذا يعيد إلى الذاكرة مقولة بن غوريون للتيار الصهيوني المتشدد، حين احتج عليه بسبب قبوله قرار التقسيم 181 في نوفمبر/تشرين الآخر 1947، بأنه يقبل لأنها أول وثيقة دولية تعطي شرعية لوجود الاحتلال الإسرائيلي، ولأن العرب سيرفضون، فإن إسرائيل لن تكون مُلزَمة بتنفيذ كل ما ورد في القرار.

السيناريو الثالث: التنفيذ بالاتفاق مع طرف أو أطراف فلسطينية:

وهو الوضع المثالي الذي تبحث عنه إسرائيل. أمَّا عن إمكانيته، وعن كيف يمكن تحقيقه في ظل المعطيات الحالية من رفض القيادة الفلسطينية بقيادة أبو مازن: فالجواب عن ذلك أن هذا الأمر ممكن الحدوث بتوافر بعض المعطيات، والتي يمكن أن تحدث في القريب العاجل، على رأسها إمكانية غياب أبو مازن عن المشهد.

وفي ظل عدم وجود ترتيب واضح للانتقال السلمي للسلطة من القيادة الحالية إلى قيادة جديدة، وهذه الضبابية في حالة غياب شخصية محورية مثل أبو مازن لسبب ما؛ فإن صراعًا على السلطة قد يندلع فورًا بين مراكز الثقل الرئيسية فيها، على أسس مناطقية أو وظيفية أو اقتصادية. وفي ظل الهيمنة الأمنية المطلقة للاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية، ومع وجود تنافس حقيقي على وراثة أبو مازن، فإن فرصة الانقسام الداخلي في الضفة الغربية ستكون أمرًا غير مستبعد، بل محتملًا بدرجة كبيرة، وقد نُوقش هذا الأمر في يوم دراسي في مركز بيغن السادات -التابع لجامعة بن غرويون- ونُشر في حينه، في عام 2016.

ولا يقتصر الأمر على مركز بيغن السادات، بل هناك الكثير من الدراسات التي تتحدث عن هذه الصورة السوداوية للضفة الغربية، وقد تكون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تتحضر لهذا السيناريو إن لم تكن تدفع باتجاهه، ذلك السيناريو الذي يقوم على تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث كانتونات جغرافية، تتحكم فيها قُوًى فلسطينية متنافسة ومتصارعة فيما بينها، ومنعزلة بعضها عن الأخرى، مما يجعلها جميعًا في حاجة إلى التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم يمكن أن تكون هذه الأطراف بيادق لتنفيذ الخطة الإسرائيلية للحفاظ على سلطتها، وسيكون هناك وضع نموذجي لتطبيق الخطة، لا سيما أن الخطة الأمريكية لم تُشِر لا من قريب ولا من بعيد إلى طبيعة نظام الحكم في الدولة الفلسطينية، مع أنها أشارت إلى جوانب كثيرة في بنية الدولة الفلسطينية المقترحة.

وفي ظل هذه الحالة، سيتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع أربع مناطق من فلسطين منقسمة على نفسها، وهي غزة، ومناطق الشمال من الضفة الغربية، والوسط والجنوب. وهو وضع مثالي سيتمكن الاحتلال في ظله من الاستمرار في ممارسة سياسته تجاه قطاع غزة، ولن يكون هناك اعتراض إسرائيلي على شكل الحكم في هذه المناطق، لأن أيًّا منها لن يستطيع تشكيل دولة أو ادّعاء شرعية كاملة لإدارة الشأن الفلسطيني.

في هذا السيناريو، يمكن لإسرائيل أن تجد طرفًا يتحمل مسؤولية نقل منطقة المثلث إلى الجانب الفلسطيني. لكن هذه الخطة قد تواجه انتقادات دولية واسعة، حتى من أصدقاء إسرائيل في العالم، خاصة في الولايات المتحدة، وقد تردع إسرائيل عن المضي قدمًا في ظل عدم وجود دولة فلسطينية معترف بها رسميًّا. وهذا يفسر تصريحات ديفيد فريدمان، التي قالت -في إيجاز- لصحافيين: «لا أحد سيفقد مواطنته»، وإن الحديث يدور حول مقترح نظري وحسب. كذلك فقد نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مسؤولين في مكتب نتنياهو، قولهم إن هذا مقترح «غير واقعي» ولن يُطبق، لأن الخطة الأميركية لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية.

السيناريو الرابع: القبول بالصفقة وتقويضها من الداخل:

فقد طرح عدد من الأطراف العربية فكرة القبول بالمفاوضات على الصفقة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصفقة هي خطة عمل، ونسبة المرونة فيها محدودة جدًّا للطرف الفلسطيني، كما أنها قد أُعدّت -على غير العادة- من طرف الاحتلال الإسرائيلي. وكما صرح صائب عريقات، فإن هذه الصفقة نسخة مكررة من دون تعديلات لخطّةٍ قدمها وفد الاحتلال الإسرائيلي له عام 2012، وعليه فإن هذه الخطة -بخلاف أوسلو- ليس فيها مساحة للمناورة، أو مواضيع مؤجلة للتفاوض عليها بانتظار تغير الأحوال، أو استغلال نقاط الضعف فيها لتطوير الموقف الفلسطيني، فالملفات مغلقة، والنقاش هنا سيدور فقط حول طريقة التنفيذ، ولا مجال للحذف أو التغيير في البنود، ولو أراد الطرف الأمريكي الرأي الفلسطيني، لما خرجت الصفقة بهذه الصورة القطعية.

وهنا يمكن الإشارة إلى نقطة مهمة، هي أنه حتى لو قبل الفلسطينيون الصفقة على قاعدة الانتقال من مرحلة المقاومة لكنس الاحتلال في الضفة الغربية، إلى مرحلة إسقاط النظام العنصري، فإن الخطة قد أُعدت لمواجهة هذه الحالة، ولذلك فإن شكل الدولة المقترحة هو شكل المعازل السكانية، التي هي أشبه بنمط بتسونات جنوب إفريقيا، والتي كان يطلق عليها ممالك، ولذلك أُعطيت صفة دولة وهي لا تمتلك خصائص الدولة، بهدف منع فكرة تحول الاحتلال الإسرائيلي إلى دولة عنصرية ثنائية القومية، ويتحول النضال الفلسطيني إلى إسقاط النظام العنصري، والذي من المتوقع أيضًا أن يحظى بدعم دولي وإنساني واسع حتى في داخل أمريكا نفسها، وفي قطاع من المجتمع الإسرائيلي كذلك. لكنّ نجاح الفلسطينيين في تحقيق هذا السيناريو، يعتمد على استشراف المستقبل بإمكانية حدوث تغيير في الواقع المحلي والدولي، من أجل إعادة النموذج النضالي في جنوب إفريقيا، لإسقاط الكِيان العنصري.

الخلاصة:

  • يتضح مما سبق أن الخطة إما أن يقبلها العرب، وهو الوضع المثالي، وإما ان يرفضوها، وهو خِيار لا يُعد سيئًا لنتنياهو، لأنه يطلق يده للسيطرة على كل ما يريد.
  • التحدي الجوهري أمام الصفقة هو توحّد الموقف الفلسطيني على إجهاضها، ولذلك يجب ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، وإعادة ترتيب هيئة قيادة موحدة لمنظمة التحرير، والإسراع في التحضير لانتخاب قيادة جديدة تتحمل المسؤولية التاريخية، خاصة السلطة الفلسطينية في الضفة، وإلا فإن الفلسطينيين سيكونون أمام انقسام لا يقل سوءًا عن انقسام 2007.
  • الموقف الدولي يمكن أن يتحول إلى قوة ضغط فاعلة إذا نجح الفلسطينيون في ترتيب بيتهم الفلسطيني، وتجرِبة إفشال مشروع تصفية وكالة الغوث الدولية (الأونروا) بسبب الموقف الدولي مبشّرة.
  • يمكن أن يحدث تصاعد للنزعة العنصرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتحوّل لأفكار أفيغادور ليبرمان -التي كانت مستهجنة في لحظة معينة- إلى مطلب سياسي بالتخلي عن السكان العرب، وإخراجهم من كامل المناطق التي يسكنونها من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يعني أن التوجهات العنصرية ضد الشعب الفلسطيني ستتعزز في هذا المجتمع أكثر وأكثر.
  • في ظل التأييد المطلق للخطة في الساحة السياسية الأمريكية، فإنه من المتوقع أن تبقى خطةَ عمل الإدارات الأمريكية القادمة، إلا في حالة بروز رئيس أمريكي جديد قوي، يمتلك رؤية مخالفة.

نتج تقدير الموقف ” (صفقة القرن) السيناريوهات في ظل المخاطر والتحديات” إثر ورشة نظمها منتدى السياسات العربية شارك فيها عدد من الباحثين والخبراء العرب، وخلصت النقاشات في هذه الورقة التي أعدها مستشار المنتدى د. مأمون أبو عامر

منتدى السياسات العربية

وحدة الأبحاث والسياسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى