حتميّة التنافس: أمريكا، الصين ومأساة سياسة القوى العظمى

ترجمة لمقال المنظر جون ميرشايمر :

The Inevitable Rivalry. America, China, and the Tragedy of Great-Power Politics.2021


ترجمة: الباحث جلال خشيب


يُحاجج ميرشايمر في هذا المقال[1] بأنّ العالم مُتَّجِهٌ نحو حربٍ باردةٍ ثانيةٍ خطيرةٍ بين الولايات المتحدّة والصين، قد تتحوّل إلى حربٍ ساخنةٍ في المستقبل المنظور، وبأنّ التنافس بين هاتَيْنِ القوّتَيْنِ العُظْمَيَيْن أمرٌ حتميٌّ لا مفّر منه بسبب الضغوط الّتي تُشكّلها بنية النظام الدولي على سياسات القوى العظمى، كما سيزداد خطر الحرب كلّما واصلت الصين نموّها الاقتصاديّ السّريع، بعدها ستعمل الصين على الاستفادة من مكاسبها الاقتصادية والتكنولوجية في بناء قوّةٍ عسكريةٍ تتحدّى القوة الأمريكية، كما ستعمل على تقليد الولايات المتَّحدة تمامًا، حيث ستحرص على الهيمنة التامّة على محيطها الإقليمي بالقسم الشرقي من العالم في مقابل طرد أيّ قوّةٍ خارجيةٍ تُحاول الهيمنة عليه، بعدها ستتجوَّل بِحريّةٍ أكبر في القسم الغربي من العالم وتتحدّى النفوذ الأمريكي-الغربي هناك أيضاً. لا يُعَدُّ هذا الأسلوب مفاجئًا، فالصين تتصرّف بالضبط كما يتوقع المنظور الواقعي ولا أحد بإمكانه أنْ يلوم الصينيّين في سعيهم للسيطرة على آسيا وجعل الصين أقوى دولةٍ في العالم. لقد اتّبعت الولايات المتحدة ذاتها أجندةً مماثلةً ارتقت عبرها لتصير قوةً مهيمنةً في منطقتها، ثمّ الدولة الأكثر أمانًا وتأثيرًا في العالم في نهاية المطاف.

تتصرّف واشنطن اليوم بمنطقٍ واقعي، فقد عارضت منذ فترةٍ طويلةٍ بروز دولٍ إقليميةٍ أخرى مهيمنة، فهي ترى بأنّ طموحات الصين تُمثّل تهديدًا مباشرًا، كما أنّها مُصمّمة على كبح الصعود المستمر لبيجين. هكذا فإنّ النتيجة التّي لا مفّر منها هي المنافسة والصراع. هذه هي مأساة سياسة القوى العظمى. على ضوء هذه الحقيقة، لا يُمكن للولايات المتحدّة سوى أنْ تُبطِّئَ سرعة هذا الصعود الاستثنائي للصين، وذلك عبر التخلّي عن “سياسة الانخراط/المشاركة” الليبرالية الفاشلة التّي يعتبرها ميرشايمر بمثابة “أسوأ خطأٍ استراتيجيٍّ ارتكبته أيُّ دولةٍ في التاريخ الحديث”، فلا يُوجد مثالٌ مُشابهٌ لقوة عظمى تعمل بنشاطٍ على تعزيز صعود منافسٍ نظيرٍ مثلما فعلت الولايات المتحدة مع الصين حينما تبنّت منذ عقودٍ سياسة الانخراط. أمّا اليوم، فقد فات الأوان لأجل مُعالجة هذا الخطأ والقيام بالكثير حياله، وليس أمام الولايات المتحدة سوى تبنّي المنطق الواقعي القائم على سياسة احتواء الصين.

1. الواقعية:

يشرح ميرشايمر في القسم الأول من المقال السبب الّذي يجعل القوى العظمى محكومًا عليها بالمنافسة مُستندًا إلى منطلقاتِ نظريته الشهيرة (الواقعية الهجومية)[2] الّتي تجعل من الفوضى الدولية -الّتي يتّسم بها النظام الدولي- سببًا بنيويًا رئيسيًا لذلك.

أثناء الحرب الباردة رأى القادة الأمريكيُّونَ أنّ دمج الصين في النظام الغربي ومساعدتها على النمو اقتصاديًا سيُساعد على احتواء الاتحاد السوفياتي. مع انهيار الاتحاد السوفياتي أُثير سؤالٌ من طرف هؤلاء القادة بخصوص كيفية التعامل مع الصين. كان نصيب الفرد من الناتج المحلّي الاجمالي في الصين واحدًا على 75 من حجم نظيره في الولايات المتحدة. لكن نظرًا للميزة السكانية للصين فقد يتفوّق اقتصادها على نظيره الأمريكي من حيث القوة الاقتصادية المحضة إذا نما بسرعةٍ في العقود القادمة. لقد كانت آثار زيادة ثراء الصين على توازن القوى العالمي هائلة. يُحاجج ميرشايمر بأنّ صعود الصين يعني نهايةً للقطبية الأحادية حيث ستبني الصين الثريّة جيشًا هائلاً، كما ستقوم بتحويل قوّتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية كغيرها من الدول الغنيّة بالسكان. من شبه المؤكّد بأنّ الصين ستستخدم هذا الجيش للسعي إلى الهيمنة على آسيا وإبراز قوتها في مناطق أخرى من العالم، بمجرّد أن تفعل ذلك فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيارٌ سوى الاحتواء، إن لم يكن دحر القوة الصينية، ممّا سيُحفّز على منافسةٍ أمنيةٍ خطيرةٍ.

يُحاجج الكاتب بأنّ الصين ستتصرّف بذات المنطق الواقعي الّذي تصرّفت به الولايات المتحدّة منذ نهاية القرن التاسع عشر، حيث عمل قادتها على جعل الولايات المتحدة أقوى دولةٍ في النصف الغربي من العالم. بعد أن تمّ لها ذلك، لعبت واشنطن دورًا رئيسيًا في منع أربع قوى عظمى من الهيمنة على آسيا وأوروبا، وهي: ألمانيا الامبراطورية خلال الحرب العالمية الأولى، ألمانيا النازية واليابان العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، هذا ما مكّنها من فرض نفوذها عالميًا، فلم تكن الولايات المتحدة تخشى في الحقيقة أن يصير هؤلاء المهيمنون الإقليميون أقوياء بما يكفي للتجوّل في النصف الغربي من العالم فحسب، بل سيجعل ذلك من الصعب على واشنطن أن تُبرز قوّتها عالميًا أيضًا. لذلك، ستعمل الصين على تقليد الولايات المتحدة، أي الهيمنة على حديقتها الخلفية قبل أن تبدأَ بفرض نفوذها العالمي. تريد بيجين إنشاء نظامٍ دوليٍ أكثر مُلاءمةً لمصالحها وسيكون من الحماقة أن تُفوّت الصين القويّة متابعة هذه الأهداف. لن يكون مهمًّا هنا إن كانت الدولة ديمقراطيةً أم استبدادية، فكلُّ الدول الكبرى تتصرّف بنفس الطريقة في السياسة الدولية.

يبدو بأنّ هناك مؤشّراتٍ كثيرة تُشير إلى أنّ الصين تتجه للتصرّف على هذا النحو، لقد سعت بيجين منذ مدّةٍ طويلةٍ لتسوية نزاعها الحدودي مع الهند بشروطٍ مناسبةٍ لها، كما أنّ لديها أهدافًا تعديليةً واسعةَ النطاق في شرق آسيا، فقد أعرب صنّاع السياسات الصينيّون باستمرار عن رغبتهم في إعادة دمج تايوان واستعادة جزر دياوْيُو من اليابان (أو سينكاكو كما يُسمّيها اليابانيون) والسيطرة على معظم بحر الصين الجنوبي. ستجد هذه الأهداف مقاومةً شديدةً من جيران الصين فضلاً عن الولايات المتحدة طبعًا، فلطالما كان للصين أهدافٌ تعديليةٌ كما يُحاجج الكاتب.

2. الطريق الذي لم يُسلك:

في القسم الثاني يؤكّد ميرشايمر بأنّ المنطق الواقعي في التعامل مع الصين كان سيُمكّن الولايات المتحدّة من إبطاء نموّ الصين والحفاظ على فجوة الثروة بين القوتيّن. ففي أوائل التسعينيات كان الاقتصاد الصيني متخلّفًا بشكلٍ مؤسف وكان نموّه المستقبلي يعتمد بشدّةٍ على الوصول إلى الأسواق ورأسمال والتكنولوجيا الأمريكية. كانت الولايات المتحدة في وضعٍ مثاليٍّ لعرقلة صعود الصين. يتحدّث الكاتب عن بعض الإجراءات الّتي كان على الولايات المتحدة القيام بها لأجل تحقيق ذلك وعن أخرى كان ينبغي تجنّبها والمرتبطة أساسًا بإدماج الصين في النظام الدولي الليبرالي كمنح الصين وضع الدولة الأكثر تفضيلاً في التعاملات الاقتصادية والتجارية، الأمر الذّي قلّل من نفوذ واشنطن على بيجين بشكلٍ كبيرٍ مع نمو الاقتصاد والشركات الصينية وتوسّعها. كان ينبغي على الولايات المتحدة أيضًا أن تُسيطر بصرامةٍ على تصدير التقنيات الأمريكية المتطورة، فقد أدّى ذلك إلى تحدّي الصين للهيمنة الأمريكية في مجال الابتكارات الحاسمة. أخطأت واشنطن أيضًا في خفض الحواجز أمام الاستثمار الأمريكي المباشر في الصين. وكجزءٍ من محاولة تقييد دور الصين في التجارة العالمية، كان بإمكان الولايات المتحدة تجنيد حلفاءٍ مثل اليابان وتايوان، مُذكّرةً إيّاهم بأنّ صينًا قويّةً ستُشكّل تهديدًا وجوديًا لهم.

ونظرًا لإصلاحات السوق التي باشرتها، وإمكانيات قوتها الكامنة، كانت الصين ستستمر في الصعود رغم هذه السياسات، لكنّها كانت ستصبح قوةً عظمى في وقتٍ لاحق، وعندما يحدث ذلك، كانت ستظلّ أضعف بكثيرٍ من الولايات المتحدة وبالتالي لن تكون في موضعٍ يسمح لها بالسعي إلى الهيمنة الإقليمية. لذلك يجب على صنّاع السياسات الأمريكيّين، وفقًا لميرشايمر، بأن يضاعفوا الآن من جهودهم لإبطاء نمو الصين، كأن تستثمر الحكومة بكثافةٍ في جهود البحث والتطوير وتمويل أنماط الابتكار المطلوب للحفاظ على التفوّق الأمريكي في التقنيات المتطوّرة.

3. تفكيرٌ واهم:

إنّ أكبر خطأٍ استراتيجيٍّ ارتكبته واشنطن هو متابعتها “لسياسة المشاركة/الانخراط” الليبرالية (Engagement Policy) اتجاه الصين منذ نهاية الحرب الباردة، والقائمة أساسًا على إدماج الصين في النظام الدولي الليبرالي وتشجيع نموّها بهدف جعلها دولةً ديمقراطيةً ليبراليةً مُحبّةً للسلام، وفاعلاً مسؤولاً في نظامٍ دوليٍّ تقوده الولايات المتحدّة. هذا بالضبط ما يصفه الكاتب في القسم الثالث من المقال “بالتفكير الواهم” والذي ظلّ مسيطرًا على الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ حقبة الرئيس جورج بوش الأب إلى غاية الرئيس باراك أوباما.

فمنذ نهاية الحرب الباردة ساد منطق النزعة الليبرالية في واشنطن التي افترضت بأنّ السلام والازدهار العالميّين سيتم تعظيمهما من خلال نشر الديمقراطية وتعزيز اقتصادٍ دوليٍ مفتوحٍ وتقوية المؤسّسات الدولية. عند تطبيق هذا المنطق على الصين، اعتمدت واشنطن سياسة المشاركة عبر دمج الصين في الاقتصاد العالمي على أمل أن تصبح أكثر ازدهارًا، كان يُعتقد بأنّ الصين ستُصبح ديمقراطيةً تحترم الحقوق وفاعلاً عالميًا مسؤولاً، كما رحّبت هذه السياسة الليبرالية بنمو الصين، خلافًا للواقعية التي كانت تخشى منه. امتدّت هذه السياسة إلى أربع إداراتٍ متتاليةٍ منذ نهاية الحرب الباردة منذ إدارة الرئيس بوش الأب إلى إدارة أوباما. فيما يتعلّق بإدارة أوباما، يُحاجج ميرشايمر بأنّ سياسة تحوّل الارتكاز نحو آسيا (Pivot to Asia) التي كشفت عنها كاتبة الدولة للشؤون الخارجية هيلاري كلينتون آنذاك لا تُمثّل تحوّلاً يبتعد عن سياسة الانخراط ويتجه نحو تبنّي سياسة الاحتواء كما هو مُتصوّر، إنّه لتصوّرٌ خاطئ، فلقد كان مقال هيلاري كلينتون الذي تحدّثت فيه عن هذه السياسة بمجلة السياسة الخارجية مليئًا بالخطاب الليبرالي حول فضائل الأسواق المفتوحة، قالت فيه بأنّ “الصين المزدهرة أمرٌ جيّدٌ لأمريكا”. باستثناء وضع 2500 من مشاة البحرية الأمريكية في أستراليا، لم يتم اتّخاذ خطواتٍ أخرى ذات مغزى لتجسيد استراتيجيةِ احتواءٍ جادّة.

لم يقتصر هذا التفكير الليبرالي الواهم على الإدارات الأمريكية وحسب، بل احتضنه رجالُ أعمالٍ أمريكيُّونَ كثر، ووسائل إعلامٍ، وصحفيّون بارزون من أمثال توماس فريدمان، بل وامتدّ هذا التفاؤل إلى شخصياتٍ أكاديميةٍ مرموقةٍ مثل زبيغنيو بريجانسكي وهنري كيسنجر اللّذان آمَانا بسياسة الانخراط. كان ذلك أفضل مؤشّرٍ على الالتزام الحاسم لمؤسّسة الخارجية الأمريكية باستراتيجية الانخراط. لم يتوقّع دُعاة الانخراط التداعيات الكارثية لفشل هذه السياسة، يبدو بأنّهم لم يضعوا في حساباتهم أنْ تصير الصين -بفضل هذه السياسة- أكثر قوةً من الولايات المتحدّة، فضلاً أنّهم كانوا يَرون في السياسة الواقعية تفكيراً قديمًا.

يدعو بعض دعاة الانخراط اليوم، مثل جوزيف ناي، أن تجمع الولايات المتحدة بين هذه السياسة وسياسة الاحتواء أثناء تعاملها مع الصين في حالة عدم ازدهار العلاقة معها. يُنكر ميرشايمر هذا الرأي ويرى بأنّ سياسة الانخراط قد قوّضت أيّ جهودٍ حاليّةٍ لاحتواء الصين حتّى ولو حاول صنّاعُ السياسة الأمريكيّون احتواء الصين بهدوء، فقد حوّلت هذه السياسة في نهاية المطاف ميزان القوى العالمي لصالح بيجين.

4. تجربةٌ فاشلة:

يصف القسم الرابع سياسة الانخراط الليبرالية بالتجربة الفاشلة الّتي مُنِحت حظًّا كافيًا لتُثبت وعودَها، فقد استفادت بيجين من مزايا النظام الدولي الليبرالي وتشجيع واشنطن على انخراطها فيه لكنّها لم تتحوّل إلى دولةٍ ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ وفاعلاً مسؤولاً في النظام. على العكس من ذلك، ينظر القادة الصينيّون إلى القيم الليبرالية بكونها تهديدًا لاستقرار بلادهم وينتهجون سياسةً خارجيةً عدوانيةً على نحوٍ متزايدٍ مثلما يفعل حُكّام القوى الصاعدة عادةً. لا يُوجد طريقةٌ ما لتجاوز ذلك، لقد كان الانخراط خطأً استراتيجيًا فادحًا.

يرى الكاتب بأنّ الرئيس دونالد ترامب أحدث قطيعةً مع سياسة الانخراط وشرع في تبنّي سياسة الاحتواء ضدّ الصين بدلاً عنها بشنّه حربًا تجاريةً عليها سنة 2018 عازمًا على منع الصين من تحقيق النجاح. حاول ترامب تقويض شركة التكنولوجيا العملاقة “هواوي” وغيرها من الشركات الصينية التّي هدّدت الهيمنة التكنولوجية للولايات المتحدة، كما طوّرت إدارته علاقاتٍ أوثق مع تايوان وتحدّى ادّعاءات بيجين في بحر الصين الجنوبي، لقد كانت حربًا باردةً ثانيةً جاريةً في فترته. أمّا الرئيس جو بايدن فقد استمر في تبنّيه لسياسة الاحتواء رغم تأييده لسياسة الانخراط في حقبة أوباما. أبدى بايدن تشدّدًا تُجاه الصين وتعهّد “بالمنافسة الشديدة” معها. يُلاحظ الكاتب وجود تحوّلٍ ملحوظٍ داخل الكونغرس والرأي العام الأمريكي نحو سياسة الاحتواء على حساب الانخراط. على سبيل المثال، فقد مرّ مشروع قانون الابتكار والمنافسة الأمريكي عبر مجلس الشيوخ بدعم الحزبين شهر يوليو 2021، حيث وصف مشروع القانون الصين بأنّها “أكبر تحدٍّ جيوبوليتيكي وجيواقتصادي للسياسة الخارجية الأمريكية”، كما يدعو المشروع بشكلٍ مثيرٍ للجدل الولايات المتحدة إلى معاملة تايوان باعتبارها دولةً ذات سيادة وذات أهميّة استراتيجية “حيوية”. أمّا الجمهور الأمريكي فيبدو بأنّه يشارك هذا الرأي، حيث أظهر استطلاعٌ للرأي أجراه (مركز بيو للأبحاث Pew Research Center) سنة 2020 بأنّ هناك تسعة من كلّ عشرة أمريكيّين يعتبرون الصين تهديدًا.

ختامًا لهذا العنصر يُحاجج ميرشايمر بأنّ التنافس الجديد بين الولايات المتحدّة والصين لن ينتهي في وقتٍ قريب. في الواقع من المرجّح أن يزداد حدّةً بغضّ النظر عمّن يحكم البيت الأبيض.

5. خطرُ حربٍ ساخنة:

يُجادل القسم الخامس بدخول العالم حقبةَ حربٍ باردةٍ ثانيةٍ من المعقول أن تتحوّل إلى حربٍ ساخنةٍ بين القوتيّن العظمَيَيْن، خلافًا لما يُصوّره المدافعون المُتبقّون عن سياسة الانخراط الّذين يُعْزُون الانحدار القائم في العلاقات الأمريكية الصينية إلى مجرّد عمل أفرادٍ عازمين على خلق مواجهة بين القوتين على شاكلة المواجهة الأمريكية السوفياتية. من وجهة نظر دعاة الانخراط فإنّ الحوافز لبلوغ مزيدٍ من التعاون الاقتصادي بين واشنطن وبيجين تفوق الحاجة إلى التنافس على القوة، كما أنّ المصالح المتبادلة تتفوّق على المصالح المتضاربة بينهما.

يُحاجج ميرشايمر بأنّ دعواتٍ كهذه لا معنى لها، فالحرب الباردة الثانية صارت جاريةً بالفعل. عند المقارنة بين الحربين الباردتيْن سيُصبح من الواضح بأنّ التنافس بين الولايات المتحدة والصين مرجّحٌ له بأن يؤدّي إلى حربِ إطلاقِ نارٍ أكثر ممّا شهده التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لسبب رئيسيٍ وهو أنّ الصين المعاصرة لا تُشبه الاتّحاد السوفياتي في قوّته، بل تتفوّق عليه بكثير. لإثبات ذلك، يُجري ميرشايمر مقارنةً بين القوّتيْن من حيث نقاط القوة والضعف، إذ أنّ هناك نقاط اختلافٍ كثيرةٍ بين الحربيْن الباردتيْن.

تتعلّق أولى الاختلافات بمسألة القدرات. تُعتبر الصين أقرب للولايات المتحدة من حيث القوة الكامنة ممّا كان عليه الاتحاد السوفياتي في أيّ وقتٍ مضى، سواءً من حيث عدد السكان أو من حيث الثراء المادّي. يُقدّر حجم عدد سكان الصين اليوم بأربعة أضعاف نظيره في الولايات المتحدة، أمّا الاقتصاد الصيني فإذا استمر في النمو بمعدّل 5% فسيكون له في النهاية قوة كامنة أكبر من قوة الولايات المتحدة. يُقدّم الكاتب إحصائياتٍ أخرى مقارِنَة تُثبت بأنّ الصين ستكون بحلول سنة 2025 أكثر قوةً من الولايات المتحدة على صعيد القوة الاقتصادية والسكانية. مع هذه القوة الكامنة يُمكن لبيجين بناء جيشٍ أقوى بكثيرٍ من جيش الولايات المتحدة.

علاوةً على ذلك، لم يكن الاتحاد السوفياتي أفقر من الولايات المتحدة وحسب، بل وكان أيضًا خلال ذروة الحرب الباردة في طور التعافي من الدمار المُروّع الذي ألحقته به ألمانيا النازية، حيث فقدَ خلال الحرب العالمية الثانية 24 مليون مواطن، 70 ألف مدينة وقرية، 32 ألف مؤسّسة صناعية، 40 ألف ميل من خطوط السكك الحديدية وغيرها. لم يكن في وضعٍ يُمكّنه من محاربة الولايات المتحدة. في المقابل، فإنّ آخر حرب خاضتها الصين كانت سنة 1979 (ضدّ فيتنام)، وصارت في العقود التالية قوةً اقتصاديةً طاغية.

هناك نقطةُ اختلافٍ أخرى تتعلّق بطبيعة حلفاء كلّ من الاتحاد السوفياتي والصين؛ كان للاتحاد السوفياتي حلفاء مشاغبون، حيث حافظ بسبب ذلك على وجودٍ عسكريٍ ضخم في أوروبا الشرقية وكان منخرطًا بعمق في سياسات كلّ دولةٍ تقريبًا في تلك المنطقة. كان عليه أن يتعامل مع التمرّدات الحاصلة هناك وكانت كلّ دولةٍ منها تتحدّى سياسات موسكو الاقتصادية والأمنية مثل رومانيا وألبانيا ويوغسلافيا وغيرها، حتّى حليفه الصين آنذاك غيّر من وجهته خلال الحرب الباردة. أدّى وجود هذا النمط من الحلفاء إلى تشتيت انتباه القادة السوفيات عن خصمهم الرئيسي: الولايات المتحدة الأمريكية. أمّا الصين فلديها حلفاءُ قليلون، وهي أقلُّ ارتباطًا بأصدقائها مُقارنةً بالسوفيات وأصدقائه، باستثناء علاقتها المتميّزة بكوريا الشمالية. تتمتّع الصين بمرونةٍ أكبر لإحداث مشاكلَ في الخارج.

ماذا عن الدوافع الأيديولوجية؟ يرى ميرشايمر أنّه من الخطأ تصوير الصين اليوم على أنّها تهديدٌ إيديولوجيٌّ. حتّى السوفيات في السابق لم تتأثّر سياستهم الخارجية بالتفكير الشيوعي إلّا على الهوامش فقط. كان ستالين واقعيًا متشدّدًا وكذلك خُلفاؤه. للشيوعية أهميّة ضئيلة في الصين المعاصرة، ومن الأفضل فهم الصين بكونها دولةً استبدادية تحتضن الرأسمالية. علاوةً على ذلك يؤكّد ميرشايمر على نقطةٍ مهمّةٍ تُميّز الصين المعاصرة والمتمثّلة في النزعة القومية (Nationalism) الّتي تُعتبر عقيدةً قويّةً داخل الصين ومن المحتمل أن تؤدّي إلى تفاقم تنافسها مع الولايات المتحدة، كما تُشكّل دافعًا أيديولوجيًا قويًّا لها في متابعة سياساتها الحازمة تُجاه بعض القضايا الإقليمية كقضية تايوان، ومطالب بيجين في بحر الصين الجنوبي الّتي ترى فيها حقًّا طبيعيًا مُقدّسًا حُرمت منه تاريخيًا بسبب الغرب (اليابان والولايات المتحدّة) حينما كانت ضعيفةً أو ما يُعرف لدى الصينيّين “بقرن الإذلال الوطني”، فالنزعة القومية تُعدُّ أقوى أيديولوجيا سياسية في العالم. هكذا يرى الكاتب بأنّ المنافسة الأمنية المتزايدة في شرق آسيا ستزيد في السنوات القادمة من العداء الصيني تُجاه اليابان والولايات المتحدة ممّا يزيد من احتمالية نشوب حربٍ ساخنة.

تزيد طموحات الصين الإقليمية من احتمالية نشوب الحرب، حيث تلتزم الصين بأجندةٍ توسعية في شرق آسيا. من المؤكّد أنّ للأهداف الاقليمية الرئيسية التي تشتهيها الصين قيمةٌ استراتيجيةٌ بالنسبة لها، لكنّها تُعتبر أيضًا أراضٍ مُقدّسة، الأمر الذي يعني أنّ مصيرها مرتبطٌ بالنزعة القومية الصينية. على سبيل المثال وخلافًا للسوفيات، فإنّ تايوان التي يشعر الصينيّون بارتباطٍ عاطفيٍ تجاهها، لم يشعر السوفيات أبدًا بشيءٍ كهذا تجاه برلين، ممّا يجعل التزام واشنطن بالدفاع عن تايوان أمرًا محفوفًا بالمخاطر. لذا فالحرب الباردة الجديدة أكثر عُرضةً لنشوب الحرب بين القوتيْن مقارنةً بالحرب الباردة القديمة.

أخيرًا فإنّ جغرافيا الحرب الباردة الجديدة أكثر عُرضةً للحرب من جغرافيا الحرب الباردة القديمة. على الرغم من أنّ التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كان عالميًا من حيث نطاقه، إلّا أنّ مركز ثقله كان بمنطقة الستار الحديدي في أوروبا، حيث كانت للطرفين جيوشٌ ضخمةٌ وقواتٌ جويةٌ مُجهّزةٌ بآلاف الأسلحة النووية. كانت هناك فرصة ضئيلة لوقوع حربٍ بين القوى العظمى في أوروبا لأنّ صانعي السياسات من كلا الجانبين كانوا مدركين للمخاطر المخيفة للتصعيد النووي. لم يكن أيُّ زعيمٍ على استعدادٍ لبدء صراعٍ من المحتمل أن يُدمّر بلده.

أمّا في آسيا فلا يوجد خطٌّ فاصلٌ واضحٌ كالستار الحديدي لترسيخ الاستقرار. بدلاً من ذلك هناك عددٌ قليلٌ من النزاعات المحتملة التي قد تكون محدودةً وستشمل أسلحةً تقليديةً، ممّا يجعل الحرب قابلةَ التفكير. إنّها تشتمل على معارك للسيطرة على تايوان وبحر الصين الجنوبي وجزر دياويو/سينكاكو والطرق البحرية التي تمتدّ بين الصين والخليج الفارسي.

سيتم خوض هذه النزاعات بشكلٍ رئيسيٍّ في المياه المفتوحة بين القوات الجويّة والبحريّة المتنافسة. وفي تلك الحالات التي كانت فيها السيطرة على جزيرةٍ ما تلعب دورًا معيّنًا فمن المحتمل أن تُشارك القوات البحريّة صغيرة الحجم. حتّى بالنسبة للقتال من أجل تايوان الذي قد يجذب القوات البرمائية الصينية فلن يشمل جيوشًا ضخمةً مزوّدةً بمعدّاتٍ نوويةٍ تصطدم ببعضها البعض. لذلك، فسيناريوهات الحرب المحدودة معقولة أكثر مقارنةً بسيناريوهات وقوع حربٍ كبرى بين حلف الناتو وحلف وارسو.

إلّا أنّ ميرشايمر لا يستبعد افتراض التصعيد النووي إذا تقاتلت بيجين وواشنطن على تايوان أو بحر الصين الجنوبي. في الحقيقة، إذا كان أحد الأطراف سيخسر خسارةً فادحةً فإنّه سيفكّر على الأقلّ في استخدام الأسلحة النووية لإنقاذ الموقف، فقد يرى صنّاع القرار إمكانيةً في استخدام الأسلحة النووية من دون وجود خطر تصعيدٍ غير مقبول، شريطة أن تقع الهجمات في أعالي البحار وتتجنّب أراضي الصين والولايات المتحدة وحلفائها. لذا لا يقتصر الأمر في الحرب الباردة الجديدة على احتمال نشوب حربٍ بين القوى العظمى فحسب، بل يُرجَّح استخدام الأسلحة النووية أيضًا.

6. مُنافسٌ من صنع أمريكا:

في القسم الأخير من المقال يؤكّد ميرشايمر بأنّ المنافسة بين القوّتَين ستستمر رغم استمرار وجود بعض دُعاة سياسة الانخراط والتعاون من كلا الطرفيْن الذين يعتقدون بإمكانية إيجاد مساحةٍ مشتركةٍ للتعاون والمصالح المتبادلة، ذلك لأنّ التنافس مرتبطٌ هنا بمنطق القوى العظمى في السياسة الدولية والذي تتحكّم فيه الطبيعة الفوضوية لبنية النظام الدولي، فلا توجد قوةٌ عظمى مستعدّةٌ للسماح لقوى عظمى أخرى بأن تصبح أقوى على حسابها، ممّا يعني عدم إمكانية القضاء على المشكلة من خلال صنع سياسات ذكيّة.

إنّ الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يُغيّر من هذه الديناميكية الأساسية سيكون حدوث أزمةٍ كبيرةٍ تُوقف صعود الصين، وهو احتمالٌ غير مُرجّحٍ بالنظر إلى سِجل البلاد الطويل من الاستقرار والكفاءة والنمو الاقتصادي. لذا فإنّ المنافسة الأمنية الخطيرة أمرٌ لا مفر منه. في أحسن الأحوال يُمكن إدارة هذا التنافس على أمل تجنّب الحرب. سيتطلّب ذلك من واشنطن الاحتفاظ بقواتٍ تقليديةٍ هائلةٍ في شرق آسيا لإقناع بيجين بأنّ صدامًا بالأسلحة سيؤدّي في أحسن الأحوال إلى نصرٍ باهض الثمن. إنّ إقناع الخصوم بعدم قدرتهم على تحقيق انتصاراتٍ سريعةٍ وحاسمةٍ لهُوَ أمرٌ من شأنه أن يردع الحروب. علاوةً على ذلك، يجب على صانعي السياسات في الولايات المتحدة تذكير أنفسهم باستمرار –والقادة الصينيّين- بالاحتمال الدائم للتصعيد النووي في زمن الحرب، فالأسلحة النووية قبل كلّ شيءٍ هي الرادع النهائي.

يُمكن للولايات المتحدة أن تعمل أيضًا على وضع قواعد طريقٍ واضحة من أجل شنّ هذه المنافسة الأمنية. على سبيل المثال، إبرام اتفاقياتٍ لتجنّب وقوع حوادثَ في البحر أو غيرها من الاشتباكات العسكرية العَرَضِيّة. إذا فهم كلّ طرفٍ ما قد يعنيه تجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها الطرف الآخر فإنّ احتمالية الحرب تصير أقلّ. لا يُمكن لهذه الإجراءات إلا أن تُخفّض قليلاً من المخاطر الكامنة للمنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين. لكن هذا هو الثمن الذي يجب أن تدفعه الولايات المتحدة لتجاهلها المنطق الواقعي عبر عقودٍ سابقةٍ من الزمن، وتحويل الصين إلى دولةٍ قويّةٍ مُصَمِّمةٍ على تحدّيها على كلّ الجبهات.


[1] – هذا المحور عبارة عن تلخيصٍ مُوسّعٍ للمقال وليس ترجمةً حرفيّةً له. للاطلاع على المقال الأصلي أنظر:

John J. Mearsheimer, The Inevitable Rivalry: America, China, and the Tragedy of Great-Power Politics, Foreign Affairs, November/December 2021, USA.

https://www.foreignaffairs.com/articles/china/2021-10-19/inevitable-rivalry-cold-war

منتدى السياسات العربية

وحدة الأبحاث والسياسات
زر الذهاب إلى الأعلى