العلاقة بين سلطنة عمان وجماعة الحوثي.. المحددات وآفاق التقارب المستقبلي

اقرأ في هذا المقال
  • تفترض هذه الورقة أن العلاقة بين جماعة الحوثيين وسلطنة عمان تتجه نحو الإبقاء على المستوى الحالي من التقارب كلما استمرت وتيرة الحرب وذلك على الرغم من المحاذير والتعقيدات التي تحيط بالعلاقة، وتجلب لمسقط الكثير من الشكوك وسوء الفهم.

تثير علاقة سلطنة عمان مع جماعة الحوثي اليمنية تساؤلات عدة بشأن طبيعة واتجاهات تلك العلاقة والغرض منها، وتبحث هذه الورقة ما إذا كانت سمات الحياد والتوازن المعروفة في السياسة الخارجية العمانية تجاه قضايا المنطقة ككل كافية لتفسير علاقة مسقط بجماعة الحوثي، ومن ثم القول بأن تلك العلاقة تعد جزءا من سياسة الانفتاح على جميع الأطراف التي تنتهجها عمان لتسهيل دور الوساطة الذي تقوم به في ملف الحرب في اليمن، أم أن تلك العلاقة تستبطن كذلك قدرا من المصالح المشتركة والحسابات بعيدة المدى لدى طرفيها؟ ما هي تلك المصالح في هذه الحالة؟
وتفترض هذه الورقة أن العلاقة بين جماعة الحوثيين وسلطنة عمان تتجه نحو الإبقاء على المستوى الحالي من التقارب كلما استمرت وتيرة الحرب وذلك على الرغم من المحاذير والتعقيدات التي تحيط بالعلاقة، وتجلب لمسقط الكثير من الشكوك وسوء الفهم.


وتناولت هذه الدراسة موضوعها في خمسة أقسام:
تضمن الأول: نبذة عامة عن السياسة الخارجية العمانية وسماتها الأساسية.
واستعرض الثاني: موقف عمان الثابت من الحرب الراهنة في اليمن.
أما القسم الثالث: ركز على تحليل محددات العلاقة بين سلطنة عمان وجماعة الحوثي.
والقسم الرابع: تناول أوجه العلاقة والمنافع المشتركة.
فيما القسم الخامس والأخير: أعطى قراءة استشرافية موجزة لآفاق العلاقة المستقبلية بين السلطنة وجماعة الحوثي.

أولاً: السياسة الخارجية العمانية

تعد السياسة الخارجية العمانية نتاجا لمجموعة من المرتكزات المتصلة بالموقع الجغرافي الإستراتيجي، والتركيبة الديمغرافية القبلية، والتكوين المذهبي الإباضي المتمايز عقديا عن المذاهب السائدة في شبه الجزيرة ومنطقة الخليج العربي. وتلعب شخصية صانع القرار (سلطان عمان) وما يعتنقه من منظومة قيم وأفكار -علاوة على محدودية الموارد الاقتصادية- دورا محوريا في رسم توجهات السياسة الخارجية العمانية، وإضفاء طابع الخصوصية على الكثير من مواقفها تجاه القضايا العربية والإقليمية ((

للمزيد انظر: حمود بن عبدالله الوهيبي, أثر الموقع الجغرافي على السياسة الخارجية لسلطنة عمان(1970-2011)، رسالة ماجستير: قسم العلوم السياسية, جامعة الشرق الأوسط 2012م.

)).


كما يمكن تفسير اتجاهات ومواقف السياسية الخارجية العمانية في محيطها الخليجي والعربي والإقليمي بالعودة إلى عامل الخبرة التاريخية الطويلة للسلطنة مع حالات عدم الاستقرار الداخلي، ومع التدخلات الخارجية من بعض النظم العربية والخليجية المجاورة ضد “نظام السلطنة” في فترات مختلفة من تاريخه السياسي الحديث.
فعمان -البلد المنقسم قبليا إلى تكتلين كبيرين هما “القبائل الغافرية” ذات الأصول اليمنية، و”القبائل الهناوية” المنحدرة من وسط شبه الجزيرة العربية ((إبراهيم محمد إبراهيم شهداد، الصراع الداخلي في عمان خلال القرن العشرين 1913- 1975م، ط1، بيروت: دار الأوزاعي، 1989، ص18.)) – مرت بمرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة للصراعات القبلية المتداخلة بالصراع التاريخي الأساسي بين الزعامة الدينية الإباضية (الإمامة)، والتي حظيت بدعم الحركة الوهابية في نجد والحجاز، ثم بتأييد الأنظمة العربية التقدمية في مصر وسوريا والعراق طوال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبين الزعامة السياسية ممثلة بسلطنة مسقط التي اعتمدت بدرجة حاسمة على قوة الظهير البريطاني في مواجهة التدخلات الخارجية الرامية إلى القضاء عليها ((المرجع السابق، ص198)) .
لقد شكل الصراع الذي نشب بين “الإمامة” و “السلطنة” منذ عام 1850 تقريبا واستمر حتى عام 1975 (تاريخ انهيار الإمامة وتأكيد طابع السلطنة في الدولة بصفة رسمية ونهائية) المجرى العام الذي صبت فيه التدخلات الإقليمية والعربية وحتى الدولية، وانتعشت في مجراه الانتفاضات القبلية والدينية وحروب العصابات والأفكار الراديكالية اليسارية والقومية جنبا إلى جنب مع النزعة لتكوين دولة تجمع بين التقليد والحداثة كنوع من الاستجابة الضرورية لتاريخها الجدلي، لكنها –وهذا هو المهم- تقف على أنقاض الانقسامات الداخلية، وتتبنى الحياد وتوخي الحذر في علاقتها مع الخارج، وفي نهاية المطاف قيض لهذه النزعة أن تنتصر.
مرت السياسة الخارجية العمانية بمرحلتين -على الأقل- كان لهما الدور الأكبر في بلورة معالمها العامة:
الأولى: والتي تعود إلى ما قبل عام 1970م وتسمى عادة بمرحلة “العزلة”((مصطفى شفيق علام، سياسة عمان الخارجية في سياقات إقليمية استقصائية, مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية, 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، على الرابط: https://rawabetcenter.com/archives/13449))، شهدت نجاح سلطان مسقط سعيد بن تيمور بالسيطرة على جميع أنحاء البلاد وتوحيدها تحت حكمه بعد القضاء على الإمامة الإباضية في مدينة نزوى سنة 1955، ثم إخماده ثورة الجبل الأخضر والمنطقة الشرقية 1957 بمساعدة بريطانيا. لكن عمان استمرت خلال هذه المرحلة ساحة لعدم الاستقرار ومسرحا للتدخلات العربية التي كان من أبرزها التغلغل السعودي العسكري في واحة البريمي الواقعة في ساحل عمان شمال شرق، ومواصلة السعودية سياسة دعم الإمام غالب بن علي الذي انتقل إلى الإقامة في الدمام تحت رعاية الملك سعود بن عبدالعزيز عقب خروجه من عمان، وقد اختط سلطان عمان لبلده في هذه المرحلة سياسة العزلة الداخلية المحكمة على مختلف الأصعدة، واقتصرت علاقاته الخارجية على بريطانيا وحدها تقريبا ((شهداد، مرجع سابق، ص141.))، وضعف كثيرا اهتمام عمان بالتفاعلات والقضايا العربية.
بتولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم في يوليو/ تموز 1970م عقب انقلابه الأبيض على والده بمساعدة بريطانيا، دخلت عمان مرحلة مختلفة شرع فيها السلطان الجديد بالعمل على إخراج بلده من العزلة الداخلية، وتأسيس أجهزة دولة عصرية ومواتية للنهوض بمستوى معيشة المواطنين والخروج من حالة الفقر المدقع، وقد سميت هذه المرحلة بمرحلة “التحول والانفتاح”((محمد حمد القطاطشة وعمر حمدان الحضرمي, الثوابت والمرتكزات في السياسة الخارجية العمانية, المنارة, المجلد13, العدد 4, 2007م، ص 378.))، حيث تمكن السلطان قابوس من القضاء بشكل نهائي على جبهة تحرير ظفار اليسارية المدعومة من النظام الماركسي الحاكم في جنوب اليمن، وذلك بعد تلقيه مساعدة عسكرية من شاه إيران شملت إرسال قوات برية وعشرات الطائرات العمودية، على إثر رفض الدول العربية والخليجية تقديم العون لعمان((شهداد، مرجع سابق، ص302 .))، كما أنهى السلطان قابوس بروية مشاكله الحدودية مع السعودية، وتبادل معها الاعتراف في أكتوبر/تشرين الأول 1971، بعد انضمام السلطنة رسميا للجامعة العربية في سبتمبر/ أيلول 1970.
لقد شهدت المرحلة الثانية وضع اللبنات الأساسية للسياسة الخارجية العمانية الممتدة حتى الوقت الحاضر((انظر حول ذلك: حاتم بن سعيد مسن, مرتكزات السياسة الخارجية العمانية في ظل المتغيرات الإقليمية (2005-2016), رسالة ماجستير: قسم العلوم السياسة جامعة الشرق الأوسط, 2017, ص34.))، لكن يلاحظ أن سياسة عمان الخارجية ظلت محكومة أيضا بخبرة الماضي وبتاريخ السلطنة الحافل بالتقلبات السياسية، على الرغم من الانفتاح الخارجي الذي جاء على قاعدة الاستقرار والنهضة التنموية التي تحققت في الداخل على عهد السلطان قابوس، وعليه فقد تجاذبت السياسة الخارجية العمانية في هذه المرحلة نزعتان متعاكستان نوعا ما:
الأولى: تدفع نحو التفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي الخلاق مع محيطها الخليجي والعربي دونما تحفظات تستلهم خبرة الماضي المريرة.
والثانية: تميل باتجاه المحافظة على المحلية والخصوصية وكبح الانفتاح الزائد كاستراتيجية مثلى للاستقرار والحفاظ على الذات في خضم منطقة تمور بصراعات لا تنتهي.
ومن التفاعل بين هاتين النزعتين توّلد فيما يبدو نهج ثالث وسطي وأكثر وضوحا وفاعلية في السياسة الخارجية العمانية، يقوم على الحياد وعدم التدخل ورفض سياسة المحاور من جهة، وعلى بناء أدوار الوساطة السياسية المتزنة في الأزمات والملفات الشائكة في البيئة المحيطة، بموازاة الدعوة إلى الحوار والتعايش وتشجيع البحث عن الحلول السلمية لتحقيق الاستقرار في المنطقة والخليج العربي، وفي هذا الإطار اكتسبت السياسة الخارجية العمانية فاعلية وتأثيرا كبيرا على المستويين الإقليمي والدولي, ما جعلها موضع احترام كثير من دول العالم، لكن هذا النهج جلب لها في المقابل الكثير أيضا من سوء الفهم من دول الإقليم التي تنظر بعين الريبة لمبدأ الحياد العماني ولطبيعة دور عمان وأهدافها، وتلك واحدة من المعضلات الحقيقية التي تواجه السياسة الخارجية العمانية في الكثير من الملفات، بما في ذلك ملف الحرب في اليمن، وعلى وجه التحديد: علاقتها بجماعة الحوثي اليمنية.

ثانياً: موقف السلطنة من الحرب الراهنة في اليمن

أيدت عمان جهود دول مجلس التعاون الخليجي لحل الأزمة في اليمن بموجب المبادرة الخليجية (أبريل/ نيسان 2011) وآليتها التنفيذية، لكن الدور العماني ظل دون النشاط المعهود في الكثير من الأزمات التي واجهت مسار الانتقال السياسي بعد الثورة الشعبية (فبراير/ شباط 2011) قبل أن يصل هذا المسار إلى نقطة الحرب، فاكتفت مسقط بدعم الوساطة الأممية ومباركة الجهد الخليجي بقيادة السعودية وفعاليات مؤتمر الحوار الوطني الشامل. وبعد استيلاء جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014 وتوقيعها اتفاق السلم والشراكة مع بقية القوى السياسية اليمنية في التاريخ نفسه رحبت عمان بالاتفاق دون إبداء موقف علني معارض أو مؤيد للحركة الانقلابية، غير أنها عادت وأعربت في مناسبات لاحقة عن تأييدها شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته((سلطنة عمان تجدد موقفها الداعم لوحدة واستقرار اليمن وقيادته الشرعية، 12 سبتمبر/أيلول 2019، على الرابط: https://cutt.us/19NPf)).


وعمان هي الدولة الخليجية الوحيدة التي رفضت المشاركة في عملية عاصفة الحزم بقيادة السعودية عند انطلاقتها في مارس/ آذار 2015، واتضح موقفها المعارض للتدخل العسكري الإقليمي في اليمن من خلال الدعوة التي وجهتها حينها لليمنيين كي يتفقوا فيما بينهم “لإخراج اليمن من أزمته الطاحنة”، وتأكيدها “استعداد السلطنة للتعامل مع كل اليمنيين على مقياس واحد، ودعم أي جهد من قبل الأشقاء في مجلس الجامعة العربية، في سبيل استقرار اليمن((لماذا توقف هادي في عمان قبل توجهه للرياض بطريقه إلى شرم الشيخ؟ 27 مارس/ آذار 2015، على الرابط: https://arabic.cnn.com/middleeast/2015/03/27/hadi-oman-arab-summit)).

” وقد استمر موقف مسقط من التدخل العسكري للتحالف بقيادة السعودية والإمارات ثابتا طوال سنوات الحرب، وعدت طول أمد الحرب مؤكداً وجهة نظرها وأنها كانت صائبة منذ البداية، وفي هذا الخصوص قال وزير الشؤون الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي في يناير/كانون الثاني 2020: إن “الحقيقة باتت واضحة للجميع، وهي أن الحرب في اليمن لا تصلح شيئًا وكانت نتيجة حسابات خاطئة” ((مسؤول يمني: العمانيون نزهاء، 2 يناير/ كانون الثاني 2020، على الرابط https://cutt.us/3j2tE)).


ويعود رفض السلطنة المشاركة في “عاصفة الحزم” إلى عدة أسباب؛ من بينها: التزام مسقط بسياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين، وتجنب الصراعات الإقليمية والدولية، وسعيها لتأسيس علاقات وثيقة مع جميع الأطراف اليمنية؛ كي تتمكن من القيام بدور الوسيط لإنهاء الحرب في اليمن((مسن, مرجع سابق, ص54-55)).
واجهت عمان الكثير من الضغوط لثنيها عن موقفها المعارض لـ “عاصفة الحزم”، إلا أنها تمسكت بخياراتها متجنبة في الوقت نفسه خوض معارك جانبية إعلامية وسياسية مع وجهات النظر الخليجية المؤيدة للتدخل العسكري في اليمن، وحينما اتخذ مجلس التعاون الخليجي قرارا بنقل بعثاته الدبلوماسية من العاصمة صنعاء الى العاصمة المؤقتة عدن, أبقت السلطنة سفارتها في صنعاء لاعتقادها بأن عملية نقل البعثات الدبلوماسية لن تفيد الحوار والحل السلمي((في محاولة فهم الدور الحقيقي لسلطنة عمان في المنطقة, 1 أغسطس/ آب 2015، على الرابط: https://www.noonpost.com/content/7734))، واستمر الحال على ذلك، إلى أن أقدم التحالف بقيادة السعودية والإمارات على قصف السفارة العمانية في صنعاء سبتمبر/ أيلول 2015، لتقوم عمان بعدها مباشرة بإخلاء سفارتها دون تصعيد كلامي مضر بالعلاقة مع السعودية، وبعد فترة وجيزة كانت عمان تواصل جهودها لتحرير معتقلين سعوديين من سجون جماعة الحوثي((آلان غريش، دبلوماسية سلطنة عمان المتروية في خليج هائج، على الرابط:  https://180post.com/archives/7729)).


في الواقع، تجدد عمان تمسكها الرسمي بالقيادة الشرعية لليمن وبوحدة أراضيه، لكنها تتمسك في المقابل بعلاقات جيدة مع جماعة الحوثي، كما تسعى على ذات الصعيد لموازنة علاقتها بإيران بعلاقات مستقرة وبعيدة عن التوتر مع السعودية، ومن هذا المنطلق انضمت إلى التحالف العسكري الإسلامي في الرياض لمحاربة الإرهاب ديسمبر/ كانون الأول 2015، لتقول – فيما يبدو- إن سياساتها المستقلة في المنطقة ومنها اليمن لا تهدف إلى معارضة الدور السعودي في المنطقة عندما لا تتوفر أسباب قوية لذلك. واللافت في هذا السياق هو موقفها المعارض بشدة للتدخل الإماراتي في اليمن، والذي عادة ما يجري التعبير عنه بصراحة غير معهودة، ففي فبراير/شباط 2019 قال وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي: إن عمان لا تتفق مع سياسة الإمارات تجاه اليمن؛ لأنها “لا تحب تغذية الحروب والنزاعات”((لماذا تعارض السعودية والإمارات الوساطة العمانية في اليمن، 3 أبريل/ نيسان 2019، على الرابط: https://cutt.us/tpRJq))، في إشارة واضحة لدور الإمارات في تأجيج الحرب ودعمها فصائل مسلحة تتبنى أجندات متعارضة مع مساعي السلام((لا ينفصل موقف السلطنة الصريح من الدور الذي تقوم به الإمارات في اليمن عن التوتر الذي نشب في العلاقة بين البلدين بعد اتهام مسقط لأبوظبي  بمحاولة قلب نظام الحكم في عمان نهاية العام 2010، بل ربما يعود بجذوره إلى تاريخ انفصال الإمارات عن السلطنة أواخر ستينيات القرن الماضي.)).


وبحثا عن نقطة التوازن في سياسات الحرب الداخلية والإقليمية في اليمن مارست عمان أدوارا متنوعة أرادت من خلالها أيضا رسم ملامح سياسة متوازنة وغير منحازة تجاه مجمل الأطراف، فقد سهلت مرور الرئيس عبدربه منصور هادي عبر أراضيها إلى الرياض عقب استهداف قصره الرئاسي في عدن بطائرات تابعة للحوثيين وحليفهم آنذاك الرئيس السابق ” علي عبدالله صالح” بداية الحرب، وقامت في فبراير/ شباط 2015م بإخلاء كادر السفارة الأمريكية من صنعاء، ثم قادت سلسلة من العمليات الناجحة للإفراج عن معتقلين أمريكيين وسعوديين من سجون الحوثيين، كما عززت سياسة المرور الآمن لليمنيين من مختلف الأطراف بأراضيها والإقامة المؤقتة فيها لمن أراد، وعقب مقتل الرئيس السابق “صالح” على يد الحوثيين في ديسمبر/ كانون الأول 2017 استقبلت مسقط أكثر من عشرين فرداً من عائلة صالح المطاردين من قبل جماعة الحوثي، علاوة -بطبيعة الحال- على دورها المحوري كوسيط مقبول من جميع الأطراف اليمنية، وقناة خلفية ومفتوحة لتمرير الأفكار وطرح المبادرات المتصلة بالتسوية السياسية وإنهاء الحرب، ودعمها جهود الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في الحديدة.
قادت تلك الأدوار -التي تبدو متعارضة في الشكل- التحالف بقيادة السعودية والإمارات إلى التحول عن سياسة الضغط على عمان من أجل تغيير مواقفها، إلى الاقتناع بحيوية الدور العماني وأهميته لدفع الأوضاع في اليمن نحو انفراج سياسي محتمل((مصطفى شفيق علام. مصدر سابق.))، وما يقتضيه ذلك من الإبقاء على السلطنة بابا مفتوحا للمفاوضات، وتقبل دور الوسيط الذي تقوم به((مريم يوسف البلوشي, أثر العلاقات العمانية – الإيرانية في أمن دول مجلس التعاون الخليجي بعد الربيع العربي, مركز دراسات الوحدة العربية, 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020م, على الرابط: https://cutt.us/c07t4))، فالوساطة العمانية تمتلك العديد من العوامل التي يمكن أن تجعل منها مثمرة في الملف اليمني، أهمها العلاقات الجيدة مع إيران، وعمق العلاقات مع القوى الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) الراغبة في تسوية سياسية في اليمن، إضافة لثقة جماعة الحوثي بالوساطة العمانية والنابعة من موقف عمان المعارض للتدخل العسكري في اليمن((مسن, مرجع سابق, ص52.)).

ثالثاً: محددات العلاقة بين سلطنة عمان وجماعة الحوثي

تستجيب علاقة سلطنة عمان باليمن للعديد من المحددات المرتبطة بالجوار الجغرافي، وتشابه التركيبة الاجتماعية القبلية للبلدين، وشعورهما المعنوي بوجود تاريخ مشترك، وبعض هذه المحددات تحكم كذلك علاقة سلطنة عمان بالحوثيين الذين يسيطرون فعليا على جزء من الجغرافيا اليمنية الداخلية (ليست على حدود عمان) تضم كتلة هائلة من السكان، إضافة -بطبيعة الحال- إلى محددات أخرى ترتبط بمتغير السياسات الإقليمية في المنطقة والديناميكيات الخاصة بالحرب في اليمن. وبالإمكان هنا الحديث عن أهم المحددات التي تدفع سلطنة عمان وجماعة الحوثي إلى التقارب على النحو الآتي:


1- المحدد الجيوسياسي
لسلطنة عمان حدود جغرافية مع اليمن تمتد من سواحل بحر العرب جنوبا وحتى الحدود السعودية العمانية شمالا بمسافة تقدر بحوالي 300 كلم، وتربط محافظة المهرة الواقعة شرقي اليمن علاقات جوار وتداخل كثيفة بمحافظة ظفار العمانية المتاخمة لها، وتاريخيا شكلت هذه المحافظة التي تعد ثاني أكبر المحافظات اليمنية مساحةً (67 ألف كم2) عمقا إستراتيجيا لحرب العصابات التي شنتها جبهة تحرير ظفار ضد السلطنة (1965 – 1975)، لذا تَعُدُّ عمان تلك المناطق جزءا من أمنها القومي، ولديها درجة عالية من الحساسية للأوضاع القائمة في حدودها الغربية مع اليمن، ومنذ انتهاء الثورة في إقليم ظفار عملت عمان بالفعل على إرساء ترتيبات أمن محلية بالتفاهم مع السكان المحليين؛ لضمان استقرار مناطق الشريط الحدودي على الجانبين، وساعدت في حل النزاعات القبلية والعشائرية في محافظة المهرة اليمنية وخفض التوترات التي قد تنعكس سلبا على الأمن القومي العماني((يحيى السواري وريان بيلي (تحرير)، المهرة اليمنية: من العزلة إلى قلب عاصفة جيوسياسية، 15 يوليو/ تموز 2019، مركز صنعاء للدراسات، على الرابط: https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/7693)).

واعتمدت مسقط بموازاة ذلك مبدأ الحدود المرنة مع سكان المحافظة المحليين والذين أصبح بمقدور الكثير منهم اجتياز الحدود العمانية والقيام بأعمال التجارة ونقل البضائع عبر الحدود كمصدر رئيسٍ للرزق، كما أنشأت شبكات رعاية مالية بغرض كسب الولاء، شملت شيوخ قبائل ووجاهات محلية اعتادت تلقي إعانات مالية منتظمة من مسقط، وشملت سياساتها -لضمان أمن الحدود- تقديم مساعدات إنمائية وإغاثية لعموم سكان المهرة الذين لا يتجاوز تعدادهم 350 ألف نسمة تقريبا، ونتيجة لكل ذلك ظلت عمان طوال أكثر من أربعة عقود “القوة الأجنبية الأكثر نفوذا بين المهريين”((المصدر نفسه)).


أثناء الحرب، تحولت محافظة المهرة اليمنية إلى ساحة للوجود العسكري السعودي بذريعة مكافحة تهريب الأسلحة من الأراضي العمانية عبر المهرة إلى الحوثيين ((المصدر نفسه.)) ، لكن الحقيقة أن مطار المهرة وميناءها الرئيسي -وليس فقط المنافذ البرية الحدودية مع عمان- وقعا أيضا تحت سيطرة القوات السعودية والقوات المحلية الموالية لها التي أنشأت لنفسها قرابة عشرة قواعد عسكرية في محافظة المهرة((كيسي كوجيز، المهرة: حيث تحدد القوى الإقليمية السياسة المحلية، 20 ديسمبر/ كانون الأول 2020، مركز صنعاء للدراسات، على الرابط: https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/12323))، وقامت بتدريب ودعم قوات خفر السواحل بالأسلحة والإمدادات ونشرت معدات وأبراج مراقبة على طول ساحل المحافظة ((المصدر نفسه..))، وهذا أبعد بالطبع من مجرد إجراءات مؤقتة لمنع تهريب الأسلحة، ويمثل تهديدا جادا لعمان ذات النفوذ التقليدي الناعم في المهرة.


في الإطار نفسه، برز تحد آخر لعمان مصدره هذه المرة الوجود العسكري الإماراتي في أرخبيل جزيرة سقطرى اليمنية، عبر سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات على الجزيرة منذ يوليو/تموز 2020، وهي السيطرة التي حدثت على مرأى ومسمع من قوات الواجب السعودية المرابطة في الجزيرة ودون أن تحرك ساكنا. يبعث الوجود العسكري الإماراتي في الجزيرة الواقعة على مدخل خليج عدن من جهة المحيط الهندي، والتي كانت تتبع سلاطين المهرة حتى العام 1968، على الكثير من المخاوف العمانية، فالتمركز في الجزيرة يعطي الإمارات مزايا إستراتيجية بالإشراف على خطوط التجارة العالمية في المحيط الهندي، وقد يضع حدا للتطلعات الاقتصادية العمانية المرتبطة بميناء الدقم المطل على بحر العرب والمحيط الهندي في الساحل الجنوبي الشرقي لعمان.


لمواجهة هذه التحديات تغذي عمان معارضة مهرية مدنية لما أصبح يعرف في أوساط المهريين الوطنيين بـ “الاحتلال السعودي”، مستفيدة من المخاوف المحلية التي يثيرها الطموح السعودي لمد خط أنابيب من حقول النفط في الربع الخالي عبر صحراء المهرة إلى البحر العربي، وعزمها نشر جنود سعوديين لحماية الخط بصفة دائمة((المصدر نفسه…))، أما في مواجهة النفوذ الإماراتي في سقطرى فتقف عمان شبه عاجزة وبلا حراك. وعلى أية حال، تبدو عمان مدركة لحقيقة أن “إستراتيجيتها” لتقويض النفوذ العسكري السعودي في المهرة من خلال دعم آليات الاحتجاج المحلي غير فعالة، وتمثل سلاحا ذا حدين قد يهدد بالانزلاق نحو عنف منفلت وغير مرغوب به في حدودها مع اليمن
((تلعب عمان دورا أساسيا في ضبط إيقاع المعارضة المهرية المحلية للنفوذ السعودي في محافظة المهرة، وإبقائها دون مستوى المعارضة العنيفة والمسلحة، وهذا يعود لكون عمان تدرك الكلفة الباهظة لخيار العنف المنفلت على حدودها وإمكانية خروجه عن السيطرة، إضافة لمخاطر جرها لصداع بالوكالة مع السعودية. وفي نهاية فبراير /شباط 2020 عندما قتل خمسة جنود تابعين للقوة السعودية في المهرة إثر استهداف مسلح لعربتهم العسكرية قامت عمان باستخدام نفوذها التقليدي في المهرة للتهدئة عقب زيارة نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان لمسقط في مارس/آذار 2020. انظر: السعودية تختبر التوجهات الجديدة لسلطنة عمان تجاه ملف اليمن، 6 مارس/ آذار 2020، على الرابط: https://cutt.us/VhTwb))
، إضافة لإدراكها أن لدى السعودية خبرة طويلة في كسب معارك النفوذ من هذا النوع بالاعتماد على الوفرة المالية التي تفتقر إليها عمان((أعلنت مسقط في الأول من يناير/ كانون الثاني 2021 عن ميزانيتها، بعجز تجاوز الـ 3.3 مليارات ريال (الدولار 2.5 ريال تقريباً) .
انظر: https://arabic.sputniknews.com/arab_world/201801041028961181)) وأن وجودها العسكري في المهرة مدعم بغطاء رسمي من الشرعية اليمنية.


لكل تلك المعطيات لا تعتمد عمان في سعيها لتطويق المخاطر الجيوسياسية التي يشكلها الوجود السعودي والإماراتي في المهرة وجزيرة سقطرى على تحفيز المعارضات الموضعية ذات المرتكزات المحلية ومحدودة الأفق، وإنما تتجه -بموازاة ذلك- إلى بناء علاقات وازنة مع قوى معارضة للنفوذ الأجنبي في المشهد اليمني ككل، فهناك -أي على المستوى الكلي للسياسات اليمنية وتجاذباتها الداخلية والإقليمية القاتلة، وليس في الجغرافيا اللصيقة بعمان القلقة- سيتقرر في نهاية المطاف مستقبل النفوذ الإقليمي في اليمن.
في هذا الإطار تتموضع علاقة عمان بجماعة الحوثي على قاعدة التقارب في الرؤية “الجيوسياسية” لمستقبل “الوجود الأجنبي” – السعودي/ الإماراتي على وجه التحديد- في اليمن، ليغدو دعم بقاء الحوثيين أقوياء في إطار دولة واحدة تفرض سيطرتها على جميع أراضيها صمام أمان للسياسة العمانية في وجه المخاطر الجيوسياسية الراهنة والمستقبلية القادمة من اليمن، بل هي أقصر الطرق وأقلها كلفة لإضعاف النفوذ العسكري السعودي والإماراتي من وجهة نظر البلد الذي يحبذ تجنب المشكلات وتحاشي المواجهة الخشنة مع الآخرين، ولا يجد نفسه معنيا بالانخراط في لعبة تنافس جيوسياسي إقليمي محموم على اليمن طالما وأن مبادئ سياسته الخارجية تقوم على قاعدة “صفر مشاكل”((آلان غريش، مصدر سابق.))، وتبحث عن الأمن (الحدود الآمنة) لا عن التغلغل السياسي والاقتصادي في الدول المجاورة.


2- محدد العلاقة مع إيران
تتشارك عمان وإيران ضفتي مضيق هرمز الإستراتيجي الذي تمر عبره 90% من شحنات النفط الخليجي المصدر للعالم، وتتصل عمان بمضيق هرمز عبر شبه جزيرة مسندم التي تفصلها عن البر العماني أراض تابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا الموقع يملي على عمان تنسيق سياسات الأمن في مضيق هرمز مع إيران، والتعاون في المصالح المشتركة كاستخراج الغاز الطبيعي من بعض الحقول البحرية المشتركة قرب المضيق((مسن, مرجع سابق, ص87)).


وكانت إيران ثالث دولة تعترف بنظام السلطنة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولعبت دورا حاسما في القضاء على ثورة ظفار جنوب السلطنة كما سبقت الإشارة، وحتى مع التغيرات الجذرية التي حدثت لنظام الشاه في إيران، وقيام “نظام الثورة الإسلامية 1979م” بسحب الجنود الإيرانيين من عمان، ثم انضمام السلطنة لمجلس دول التعاون الخليجي في مايو/أيار 1981 حافظت العلاقات العمانية – الإيرانية على تميزها واستقراراها، حيث تبنت عمان على الدوام رؤية لتحقيق استقرار منطقة الخليج العربي تدعو إلى الانفتاح على مشاركة جميع الدول المجاورة بما فيها إيران((آلان غريش، مصدر سابق))، ومارست أدوارا إقليمية هامة صبت في خدمة تلك الرؤية للاستقرار في المنطقة، كما حدث حين نجحت منذ العام 2012 في استضافة مفاوضات سرية بين مسؤولين إيرانيين وأمريكيين أفضت في يوليو/تموز 2015 إلى التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) بين إيران والولايات المتحدة والدول الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا.


في الغالب لا يلقى دور عمان الإقليمي وعلاقاتها بإيران استحسان السعودية، لكن هناك الكثير من الاعتبارات التي تمنع السعودية من التعامل مع مسقط باعتبارها جزءا من المحور الإيراني في المنطقة، منها: إدراك القيادة السعودية الوزن الإقليمي والدولي للسياسة العمانية وأهمية الاستماع إليها وتفهُّمها قدر الإمكان((في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 التقى الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز نائب وزير الدفاع السعودي والمسؤول عن الملف اليمني مسقط السلطان الراحل قابوس بن سعيد، في زيارة اعتبر الهدف منها تهدئة مخاوف عمان من النفوذ السعودي في محافظة المهرة، والحصول على دعمها لاتفاق الرياض الذي كان قد تم توقيعه في الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي قبيل الزيارة بأيام، وفي هذه الزيارة قال الأمير السعودي الذي اصطحب معه السفير السعودي في اليمن ورئيس الاركان السعودي: ” إنه جاء للاستماع ورؤية حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حول الأوضاع في المنطقة”. انظر: وزارة الإعلام العمانية، البوابة الإعلامية، على الرابط: https://omaninfo.om/topics/78/show/288669)). كما أن عمان بدورها حريصة على تأكيد خصوصية سياستها الخارجية عبر تجنب استفزاز دول المنطقة، والنأي بنفسها عن المواقف الإيرانية المتشددة، فهي -على سبيل المثال- ترفض تهديدات إيران المتكررة بوقف الملاحة البحرية في مضيق هرمز، أو استخدامه في مناوراتها السياسية مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ولتأكيد ذلك تستضيف جزيرة “مصيرة” العمانية في بحر عمان منذ العام 2000 قاعدة عسكرية أمريكية تسمح للولايات المتحدة بمراقبة مضيق هرمز((انظر في ذلك:
https://www.bayancenter.org/2020/09/6301)) .


وتعد المواقف العمانية من الحوثيين ترجمة لعلاقتها الجيدة بإيران، فالحوثيون هم الجماعة المنظمة الوحيدة الموالية لإيران في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي، والتي ترى إيران أن وجودها أمر حيوي بالنسبة لسياساتها ومصالحها في المنطقة، ومن الواضح أن مسقط تدرك ذلك تماما(( راجت أواخر العام 2020م معلومات غير مؤكدة بأن السفير الإيراني في صنعاء حسن ایرلو قدم إلى اليمن على متن رحلة جوية من سلطنة عمان، ورغم عدم وجود ما يؤكد صحة هذه المعلومة، إلا أن عمان لم تنفها أيضا.)). كما أن تأكيد مكانة الحوثيين في اليمن يمكن أن يكون خطوة أساسية في الطريق إلى تحقيق التوازن الإقليمي في الخليج والمنطقة العربية، والذي يعني بالنسبة لعمان عدم انفراد قوة إقليمية كالسعودية بسياسات الأمن في المنطقة.


3- المحدد العقدي والديمغرافي
ينتمي غالبية سكان سلطنة عمان إلى العقيدة الإباضية التي ترجع جذورها لأفكار عبدالله بن إباض في القرن الثالث الهجري، وترفض الإباضية -التي هي امتداد طبيعي لفكر الخوارج الرواد بعد إعادة تنقيحه وصياغته وفق معطيات التاريخ الإسلامي في القرون اللاحقة- المبدأ السني التقليدي بحصر الخلافة في قريش ونظريتها في توريث الحكم، كما ترفض -بنفس القدر من الوضوح العقدي- مبدأ الإمامة في آل البيت الذي يعتنقه الشيعة؛ لأن الإمام الذي يجمع بين الدين والدنيا يجب أن تختاره الأمة عبر أهل الحل والعقد في كل زمان.


تقف العقيدة الإباضية إذن في موقع المعارضة للعقيدتين السنية والشيعية من منطلق عقدي خالص، أما الموقف التاريخي من كلا الطائفتين فمختلف بعض الشيء، ذلك أن عوامل تاريخية أهمها الانحسار الجغرافي للإباضية في أقصى عمان دون غيرها من البلدان المجاورة، وبعدها عن مراكز الحضارة الإسلامية طبَّعت علاقتها مع السنة بالتوجس، ومع كون الإباضية متسامحة مع اتباع المذهب السني داخل عمان وتحترم التنوع المذهبي؛ لكونها ،بخلاف جماعات الخوارج الأخرى، لا تكفر مخالفيها بما في ذلك مرتكب الكبيرة، إلا أن لديها خشية عميقة من الذوبان في المحيط السني الخارجي وفقدان الخصوصية، وترى أن الشيعة أقل خطرا على وجودها وعلى تماسكها الداخلي((بوزيدي يحيى, أثر العامل الديني على العلاقات العمانية الإيرانية, 21 أغسطس/ آب 2017م، على الرابط: https://alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=7918))،خاصة بعد ازدهار المد الوهابي السني الذي ترعاه المملكة العربية السعودية، ويرى فيه اتباع المذهب الإباضي تطرفا وتحريضا موجها لبقية الطوائف بما في ذلك طائفتهم، والواقع أنه من الصعب استبعاد تأثير التركيبة المذهبية ذات الأغلبية الإباضية (75% من السكان تقريبا) على سياسة عمان الخارجية، فعلاقتها بجماعة الحوثي التي تدعي تمثيل الطائفة الزيدية في اليمن تندرج بصورة من الصور تحت ما يصفه البعض بـ “تقارب الأقليات”((آلان غريش، مصدر سابق..))، كما أن مسقط قد تكون سعيدة بالتعبيرات السياسية للأقليات المذهبية التي تتمكن من الإفصاح عن نفسها في الدول المجاورة؛ لأن ذلك يخفف من تأثير الأحادية المذهبية السنية المحيطة بها.


علاوة على جميع ما سبق، تنعكس تطورات الصراع في اليمن سلبا على سلطنة عمان، نتيجة الجوار الجغرافي، فالحرب عقدت مهمة عمان في ضبط حدودها الطويلة مع اليمن، وهي إلى ذلك تنذر بخلق بيئة خصبة لعدم الاستقرار في محافظة المهرة الحدودية، واستمرار تدفق أعداد غير معروفة من اليمنيين على عمان نتيجة اتساع نطاق الكارثة الإنسانية وانهيار الوضع الاقتصادي.

رابعاً: أوجه العلاقة والمنافع المشتركة

تتسم العلاقة بين سلطنة عمان وجماعة الحوثي بالتنوع، ويحرص كلا الطرفين على استمرار هذه العلاقة من موقع الحاجات الآنية المتبادلة، وبالنظر أيضا إلى ما تحققه من منفعة مشتركة على المدى المتوسط تتمثل في تعديل ميزان القوة الإقليمية في منطقة الخليج وجنوب شبه الجزيرة العربية، وكبح الطموحات الإقليمية لكل من السعودية والإمارات في بحر العرب وخليج عدن والمحيط الهندي وباب المندب. وبصفة عامة تتركز العلاقات بين عمان وجماعة الحوثي في ثلاثة جوانب أساسية، مع احتمالات وجود أوجه أخرى للعلاقة لا تتوفر بشأنها معلومات موثوقة.


الجانب السياسي: من المعلوم أن سلطنة عمان لم تسحب سفارتها من صنعاء إلا لأسباب أمنية بعد قصف التحالف -بقيادة السعودية والإمارات- لها في سبتمبر/ أيلول 2015. ومنذ بداية العام 2018 تستضيف عمان ما يشبه من الناحية الفعلية “بعثة سياسية دائمة” لجماعة الحوثي في مسقط، حيث تقيم في العاصمة العمانية بصورة مستمرة قيادات سياسية حوثية، في مقدمتها محمد عبدالسلام الناطق باسم الجماعة، وتقدم عمان لتلك القيادات كافة التسهيلات، بما في ذلك إتاحة حرية التواصل السياسي الدولي لها، واللقاء بسفراء الدول المعنية بالشأن اليمني في مسقط، وعقد مباحثات سرية مع دبلوماسيين من دول مختلفة، ومغادرة الأراضي العمانية إلى طهران للقاء مسؤوليها ثم العودة إلى مسقط، وإصدار التصريحات والبيانات الصحفية التي تنطوي على تهديدات ومواقف سياسية متشنجة، إضافة لقيام تلك “البعثة” بتسهيل مصالح الحوثيين في الخارج؛ كاستقبال جرحى الجماعة في الحرب ونقلهم للعلاج في دول أخرى.
ورغم النظرة السائدة لعمان كوسيط محايد في ملف الحرب في اليمن، إلا أن الكثير من مواقفها تشي بأن ما تحمله من تصورات للسلام وإنهاء الحرب يقترب بشكل أو بآخر من التصورات التي لدى جماعة الحوثي، ويستبطن أفكارا من خارج دائرة المرجعيات الثلاث التي تتمسك بها الشرعية اليمنية، وهي المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بما فيها القرار 2216. لقد ظهر ذلك بوضوح عندما تقدم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في عهد إدارة الرئيس أوباما (جون كيري) بمبادرة لإنهاء الحرب في اليمن أواخر العام 2016 تقوم على تفويض الرئيس هادي صلاحياته لنائب توافقي دون اشتراط تنفيذ الحوثيين -على نحو تزامني- قرار مجلس الأمن المشار إليه آنفا، والذي نص على انسحاب الحوثيين من المناطق التي سيطروا عليها، وتسليم السلاح دون قيد أو شرط((هل تنجح مبادرة كيري في إنقاذ مشاورات السلام في اليمن؟ 27 أغسطس/آب 2016، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2016/08/160826_yemen_kerry_initiative)). ومن الواضح أن المبادرة التي تمخضت عن لقاءات سرية جمعت ممثلين عن جماعة الحوثي بمسؤولين أمريكيين في مسقط ودعمتها عمان((بن علوي ينفي وجود علاقة خاصة بين عمان والحوثيين، 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، على الرابط: https://thenewkhalij.news/article))، تسببت بتعقيد مسار الحل السياسي في اليمن، لكونها دفعت الحوثيين للتعنت في مسألة الترتيبات الأمنية والعسكرية، وهي المسألة التي قصمت ظهر المشاورات السياسية في الكويت (أبريل/ نيسان- أغسطس/آب 2016)، وفقا لما جاء بعد ذلك في الإحاطة الأخيرة التي تقدم بها المبعوث الأممي السابق إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ لمجلس الأمن (فبراير/شباط 2018) قبل مغادرة منصبه بأيام، حيث قال إنه “تبين في نهاية المشاورات أن الحوثيين ليسوا مستعدين في هذه المرحلة لتقديم التنازلات في الشق الأمني أو الدخول لخطة أمنية جامعة”((سلاح الحوثيين وجهود التسوية السياسية في اليمن، 23 يوليو/ تموز 2018، مركز الإمارات للسياسات، على الرابط: https://epc.ae/ar/brief/political-settlement-and-houthi-disarmament-in-yemen)).


من جهتهم يصف الحوثيون الدور العماني بالمحايد والنزيه، وهم مطمئنون عموما إلى ما ينطوي عليه الموقف العماني من تأكيد لتصوراتهم بشأن التسوية السياسية، فمسقط هي العاصمة الوحيدة التي يظهر فيها القادة الحوثيون كرجال سلام حقيقيين، الأمر الذي يساعدهم في امتصاص الضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي عليهم. وحتى فترة قريبة كانت صور السلطان قابوس المرفوعة على واجهات بعض مباني وشوارع العاصمة اليمنية صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، مؤشرا على الامتنان الذي يشعرون به تجاه السلطنة ودفء العلاقة معها، وأبدى الحوثيون برجماتية عالية في التعاطي مع سياسة السلطنة تجاه إسرائيل، فلم يهاجموا تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في حملاتهم الإعلامية كما فعلوا مع بعض دول تحالف دعم الشرعية في اليمن، وعندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسقط في أكتوبر/تشرين الأول 2018م خرج محمد علي الحوثي رئيس “اللجنة الثورية العليا” حينها بتغريدة خجولة على تويتر انتقد فيها موقف عمان، عادا أن الغرض من الزيارة هو “عزل عمان عن لعب أي دور إيجابي في المنطقة”((

هل تقوض زيارة نتنياهو للسلطنة علاقة مسقط بالحوثيين؟ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، على الرابط: https://www.alayyam.info/news/7KWOX2FT-4YYBU6

)).


الجانب المتعلق بالأسلحة التي تصل للحوثيين عبر الأراضي العمانية: توالت منذ سنوات تقارير صحفية واتهامات على لسان مسؤولين يمنيين بشأن وجود شبكات أسلحة ومعدات عسكرية إيرانية يجري تهريبها من عمان إلى الحوثيين في صنعاء عبر محافظة المهرة الحدودية، وفي حين تذكر بعض التقارير أن بعضا من تلك الشبكات مرتبطة بالسلطات العمانية، تعزو أخرى تهريب الأسلحة إلى عجز السلطات العمانية عن فرض رقابة كاملة على حدودها مع اليمن((

أشرف الفلاحي، الحياد العماني في الصراع اليمني إلى أين؟، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2016، على الرابط: https://www.al-monitor.com/pulse/ar/originals/2016/10/oman-neutral-saudi-war-iran-houthis.html

))، أما عمان فنفت مطلقا مرور أي أسلحة من أراضيها متجهة إلى الحوثيين((

جاي سولومون، هل سترغم إدارة تراب سلطنة عمان على الانحياز إلى جانب معين؟، 9 يناير/ كانون الثاني 2018، على الرابط: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/hl-starghm-adart-tramb-sltnt-uman-aly-alanhyaz-aly-janb-mywn

))، وقال بيان للخارجية العمانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016: إن جميع المزاعم بتهريب أسلحة عبر الأراضي العمانية قد تمت مناقشتها وتفنيدها مع عدد من دول التحالف ومع الولايات المتحدة وبريطانيا والتأكد من عدم صحتها((سلطنة عمان تنفي تهريب أسلحة عبر حدودها..، 12 اكتوبر/ تشرين الأول 2016، على الرابط:  https://cutt.us/rldbR       )).

وبصرف النظر عن النفي الرسمي العماني فإن قدرة الحوثيين على خوض الحرب لست سنوات متصلة، وحصولهم على أسلحة متطورة لم تكن موجودة في قوام تسليح الجيش اليمني مثل الطائرات المسيرة وأنواع جديدة من صواريخ كروز، ومباهاتهم بامتلاك برنامج “للتصنيع” وتطوير الأسلحة، يبرهن أن نظام حظر توريد الأسلحة للحوثيين بحسب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة يعاني من فجوات كبيرة ولا يتم احترامه.


الجانب الاقتصادي: مع تصاعد الحرب وفرض دول التحالف قيودا تجارية على جماعة الحوثي، بما في ذلك القيود المفروضة على ميناء الحديدة الواقع تحت سيطرة الجماعة، أصبحت الكثير من الواردات التجارية تصل إلى مناطق سيطرة الحوثيين عبر المنافذ البرية مع عمان وأهمها منفذي شحن وصرفيت الحدوديين((كيسي كوجيز, المهرة: حيث تحدد القوى الإقليمية السياسة المحلية, مصدر سابق.))، ورغم عدم وجود إحصائيات بحجم ونوع السلع الواردة إلى مناطق سيطرة الحوثيين فإن المؤكد هو أن الحدود اليمنية مع عمان باتت تمثل رئة اقتصادية هامة للحوثيين، كما تستفيد منها عمان في إنعاش منطقة التجارة الحرة العُمانية وميناء صلالة جنوب السلطنة((أحمد ناجي، اليمن صراع آخر بالوكالة، 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط، على الرابط: https://carnegie-mec.org/diwan/77544)).

خامساً: آفاق العلاقة المستقبلية بين عمان وجماعة الحوثي

في إطار القراءات المتداولة لتحليل اتجاهات السياسة العمانية – وبالتبعية- مستقبل علاقتها بجماعة الحوثي، تسود وجهتا نظر، لكل منهما مؤشراتها ومعطياتها الواقعية، وجهة النظر الأولى ترجح ابتعاد السياسة الخارجية العمانية مستقبلا عن حيادها التقليدي بشكل متدرج، وذلك بالنظر إلى تنامي التحدي الإماراتي – السعودي على حدودها مع اليمن من جهة، وبروز التحدي الاقتصادي الداخلي من جهة أخرى، فهذان العاملان سيقودان مسقط إلى إعادة النظر في دور الوساطة الدبلوماسية التي تقوم بها في ملفات كثيرة في المنطقة، ومنها الملف اليمني، لأن الوساطة تصبح في ظل التحديات الجيوسياسية والمخاطر الأمنية والاقتصادية المباشرة محدودة الأثر وربما قليلة الجدوى((

نهى خالد, السلطان هيثم وتحدي السياسة الخارجية, 20 فبراير/ شباط 2020، مركز الجزيرة للدراسات، على الرابط: https://studies.aljazeera.net/en/node/4574

)).
هذا الرأي قد يغدو أكثر وجاهة في حال نجح تنفيذ اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي عقب الخطوات الميدانية التي اتخذت على صعيد تنفيذ الشق العسكري – الأمني مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2020 ثم تشكيل “حكومة مناصفة” جديدة، إذ إن الاتفاق يكرس الوجود العسكري السعودي والإماراتي في المهرة وجزيرة سقطرى بتجاهله مسألة بسط سيطرة الحكومة على هاتين المحافظتين، وبالتالي يضاعف التحديات الخارجية المشار إليها، ويمكن أن يدفع مسقط إلى الخروج عن دورها الحيادي والاقتراب أكثر من جماعة الحوثي((

كانت مسقط قد رحبت باتفاق الرياض على مضض في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وقرنت ترحيبها بأن يكون الاتفاق خطوة في طريق إنهاء الحرب وتحقيق التسوية السياسية في اليمن.
)).


ترتكز وجهة النظر الثانية بصورة أساسية على التغيير الذي أجراه السلطان هيثم بن طارق في وزارة الخارجية العمانية بعد صعوده إلى الحكم بمدة وجيزة، وتحديدا “إطاحته” بأهم “أعمدة” سياسة عمان الخارجية التقليدية “ورمزها” الأبرز لأكثر من عشرين عاما، ألا وهو وزير الخارجية السابق يوسف بن علوي، ما يعد مؤشرا على رغبة السلطان الجديد في التقارب الخليجي “والتعاطي بطريقة صحية مع السعودية ودولة الإمارات”، يضاف إلى هذا التغيير تأثير الوضع الاقتصادي السيء الذي تمر به عمان، وبالنتيجة لن تعود السلطنة وفقا لهذا الرأي “الطائر الذي يغرد خارج السرب”((خير الله خير الله, تغيير صغير لكنه عميق في عمان, نشر بتاريخ 23 أغسطس/آب 2020م، على الرابط: https://cutt.us/tmAYJ)). وكما الحال في وجهة النظر الأولى، هناك أيضا من الوقائع ما يدعم هذا الرأي، أهمها انعقاد قمة دول مجلس التعاون الخليجي في مدينة العلا بالسعودية (يناير/كانون الثاني 2021) واحتمالات التحسن في العلاقات الخليجية- الخليجية بما في ذلك علاقات عمان بكل من السعودية والإمارات.


بخلاف وجهتَي النظر السابقتين ترى هذه الورقة أن السياسة العمانية في المنطقة عموما، وتجاه الملف اليمني على وجه الخصوص، ستحافظ على طابعها الحالي دونما تغييرات عميقة، وبدرجة أساسية ستواصل مسقط سياسات الوساطة الإقليمية التي تعد محور ارتكاز السياسة الخارجية العمانية ومجال فاعليتها السياسية، ومصدر رصيدها الرمزي الذي يصعب عليها التفريط به، كما أن البديل عن ذلك هو الوقوع في مصيدة الصراعات الإقليمية، ومضاعفة التحديات التي تواجهها عمان، والتي لايزال بمقدورها احتواؤها، وبالتالي فإن كل ما يضر بدور الوساطة ،بما في ذلك التقارب مع السعودية والإمارات خارج منظومة مجلس التعاون الخليجي، أو زيادة التقارب مع إيران ستميل السلطنة إلى الابتعاد عنه((رغم وطأة التحديات الجيوسياسية التي باتت تشعر بها مسقط نتيجة الوجود العسكري السعودي والإماراتي في اليمن إلا أنها تفضل عدم الاقتراب أكثر من إيران خاصة على الصعيد العسكري، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2018 أجرت عمان مناورات عسكرية مشتركة مع بريطانيا لترسل بذلك رسائل مزدوجة مفادها أنها ترفض النشاط العسكري للدولتين الخليجيتين على مقربة من حدودها في اليمن، لكن نهجها الحذر في العلاقة مع إيران لن يتغير بسبب ذلك.)).
إن التغيرات المحتملة في إستراتيجية الإدارة الأمريكية الديمقراطية تجاه إيران وملفها النووي تعد عاملا مشجعا لمواصلة سلطنة عمان دور الوساطة في المنطقة، كما أن تغيرا كهذا يقدّم فرصا أكبر لحراك دبلوماسي يمكن أن يشهده الملف اليمني في ظل إدارة ديمقراطية أكثر جدية بشأن إنهاء الحرب في اليمن، وكل ذلك يفتح آفاقا لأدوار منتظرة، ليس بمقدور دولة أخرى في المنطقة غير عمان القيام بها. في السياق ذاته، لا تعد المصالحة الخليجية – الخليجية مؤشرا على تقارب خليجي ينهي حياد السلطنة، ذلك أن علاقات عمان التقليدية مع إيران لم تكن أصلا محور الخلافات الخليجية – الخليجية، كما أن عمان قد حددت منذ زمن سقف علاقاتها الخليجية عن طريق رفض فكرة الاتحاد الخليجي أواخر العام 2013.


أما الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها عمان، والتي لا يتوقع أن تصل حافة الانهيار، فقد تكون دافعا للتشبث بما تبقى لمسقط من “قوة سياسية” متمثلة في أدوار الوساطة الإقليمية وليس العكس. وفيما يتعلق بالمخاطر الأمنية على حدود عمان الغربية مع اليمن، فإن المرجح سعي عمان لتخفيفها عبر قنوات العلاقات الثنائية المفتوحة مع المملكة العربية السعودية، وعن طريق ما تمتلكه من علاقات دولية عميقة ومؤثرة خاصة مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فعمان في التحليل الأخير ليس لديها شعور بالهشاشة الأمنية الداخلية في ظل نظام تعايشي يعمل في الداخل بشكل جيد، وهي إلى ذلك تثق بدورها العضوي في منطقة قلقة ومتوترة، وبالعلاقة بين أمنها كدولة صغيرة ومعتدلة وأمن مضيق هرمز الذي تكفله إرادة القوى العالمية، وعليه فليس هناك ما يضطر مسقط –أقله على المديين القصير والمتوسط- للخروج عن سياساتها الهادئة، أو الانخراط في سياسة المحاور الاستقطابية في المنطقة، أو المخاطرة بتصعيد الموقف على حدودها الغربية مع اليمن، وتغذية صراع بالوكالة ضد السعودية قد يحيل حدودها إلى خطوط ملتهبة لعشرات السنين.


في هذا السياق، من المرجح إبقاء مسقط علاقاتها مع الحوثيين في مستواها الراهن، سيما وأن هذا المستوى يحقق لعمان –كما لجماعة الحوثي أيضا- ما تريده من تلك العلاقة، فهو يؤمن لمسقط الانفتاح المطلوب من الجماعة لتسهيل القيام بدور الوساطة، ويساعد عمان تحت ستار الوساطة على ترسيخ الحضور السياسي لجماعة الحوثي وتحقيق تواصلها بالعالم وتعزيز مكانتها، والمهم أن كلا الطرفين لا يتحملان كلفة عالية لعلاقة من هذا النوع ، بالنظر إلى اقتناع المجتمع الدولي بأنها ضرورية ومطلوبة لإحراز تقدم في العملية السياسية. وطالما استمرت الحرب في اليمن بكل ما تفرضه من تحديات جيوسياسية على عمان، واستمر معها بالضرورة الطلب على السلام فإن الدور العماني سيظل مطلوبا، ولن تشهد العلاقة المدروسة جيدا بين عمان والحوثيين تراجعا، وعلى الرغم من أن قرار الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية قد يضع محاذير في وجه تلك العلاقة، إلا أن مسقط يمكن أن تتحول إلى بوابة رئيسة لحراك دبلوماسي يعمل من أجل رفع اسم الحوثيين من قائمة الإرهاب الأمريكية في إطار دور الوساطة الذي تقوم به، مسنودة في ذلك بطبيعة الحال بموقف داعم من الأمم المتحدة، وبإدارة ديمقراطية لا يبدو أنها من الناحية العملية ستكون معنية بمتابعة قرار لم تتخذه هي أو الدفاع عنه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى