الأقليّات الشيعية في السعودية: تعايشٌ أم خطر؟

اقرأ في هذا المقال
  • تتأثر العلاقة بين الأقليات الشيعية في المملكة وإيران بالعلاقات السعودية - الإيرانية، وتعدّ انعكاسًا لها في الكثير من الأحوال، وقد شهدت العلاقات السعودية – الإيرانية تقاربًا محدودًا خلال الفترة (1929-1979م)، شمل إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية بين البلدين، غير أن التوتر ظل السمة البارزة للعلاقة بينهما عقب ثورة الخميني في إيران (1979م).


تثير مسألة الأقليات الشيعية في السعودية، وطبيعة أدوارها وعلاقاتها بالنظام السعودي وبالخارج عدة تساؤلات؛ بشأن تداعيات استقرار المملكة ومستقبل أمنها القومي. وتناقش هذه الورقة موضوع الأقليات الشيعية في شرق وجنوب السعودية، من زاوية ما تمثله من تهديد استراتيجي مفترض لاستقرار المملكة، تحت سقف المطالب المتصلة بالحقوق، وإرساء التعايش، والإصلاح السياسي المتدرّج للنظام. وتفترض الورقة أن للأقليات الشيعية في السعودية مطامح سياسية وارتباطات خارجية تضعف ميولها للتعايش والاندماج المجتمعي، وتجعل منها بالنتيجة عنصر تهديد استراتيجي للاستقرار الداخلي السعودي حاليًا وفي المستقبل. وقد تناولت الدراسة هذا الموضوع في ثلاثة محاور: الأول هو علاقة الأقليات الشيعية بالنظام السعودي، وتتضمن نبذة موجزة عن الأقليات الشيعية ومطالبها وتحوّلات العلاقة بالسلطة السعودية، وتناول المحور الثاني علاقة الأقليات الشيعية في المملكة بإيران، أما المحور الثالث فيستشرف الاتجاهات المستقبلية لسلوك الأقليات الشيعية في السعودية، والتأثيرات المتوقعة على الاستقرار في المملكة.

أولًا: علاقة الأقليات بالنظام والمجتمع السعودي “عوامل التوتر ومؤشرات ضعف التعايش”.

  1. نبذة موجزة عن الأقليات الشيعية في السعودية.

تأسست المملكة العربية السعودية عام 1932ه من أربعة أقاليم واسعة المساحة، هي: الحجاز والأحساء ونجد وعسير، يقطنها سكان موزعون طائفيًا على السُّنة- وهم الأغلبية- والشيعة((مهند السماوي، مملكة الخوف: الأقليات نار تحت الرماد، شوهد في 1 أبريل 2021م على الرابط:  www.siironline.org. )). وتشكّل الأقلية الشيعية في السعودية بحسب إحصاءات غير رسمية نحو 10 إلى 15 % من السكان، تقع الغالبية منهم في المنطقة الشرقية (الأحساء والقطيف)((مكانة الشيعة والمستقبل الذي ينتظرهم، شوهد بتاريخ 12 أبريل 2021م على الرابط: www.tasnimnews.com.)). وتتكون الأقليات الشيعية في المملكة من ثلاث طوائف فرعية، هي الجعفرية الاثنا عشرية، والإسماعيلية، والزيدية، وينتشر المذهب الشيعي (الاثنا عشرية) في المنطقة الشرقية، إضافة لانتشار محدود في المدينة المنورة، فيما توجد الإسماعيلية في الجنوب؛ خاصة في نجران، مع انتشار محدود لأتباع المذهب الزيدي هناك.

        ويُعدّ الشيعة الاثنا عشرية الذين يقطنون المنطقة الشرقية، أكثر الطوائف الشيعية حضورًا وفاعلية في تشكيل ما يمكن تسميته بـ”المسألة الشيعية” في السعودية؛ ويعود ذلك إلى الموقع الجغرافي للمنطقة الشرقية التي يقطنونها، حيث تضم معظم مخزون المملكة من النفط، والذي يقدر بحوالي 25% من الاحتياطي العالمي، إضافة لقربها من دول يشكّل الشيعة جزءًا كبيرًا من سكانها، وهي: البحرين والعراق والكويت((نجيب الخنزيري، النشاط السياسي للشيعة في السعودية، شوهد بتاريخ 1 أبريل 2021م على الرابط: www.aljazeera.net)). وعانت مناطق الشيعة حرمانًا نسبيًا في جوانب البنية التحتية والخدمات العامة الأساسية مقارنة بغيرها من المناطق((مصطفى الحباب وآخرون، السعوديون الشيعة. الفكرة والإشكاليات، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، 2020م، ص 99، على الرابط: www.books.google.com.))، غير أن موجة الاحتجاجات التي عمّت المنطقة الشرقية إبان الثورة الإيرانية في العام 1979م، دفعت السلطات السعودية لرفع مستوى الإنفاق الحكومي الموجّه لتطوير مستوى الخدمات في تلك المناطق، وتحسين الظروف المعيشية لسكانها((المرجع السابق نفسه2.)). وواجه الإسماعيليون في نجران أوضاعًا مشابهة حتى العام 2006م على وجه التقريب؛ حين قام الملك السابق عبدالله بن عبدالعزيز بزيارة لنجران، تعدّ الأولى التي يقوم بها ملك سعودي للمنطقة، وجّه فيها بإنشاء جامعة ومعهد تقني، ومستشفى جديد ومراكز للرعاية الصحية، ومشروعات أخرى للبنية التحتية بقيمة 3.3 مليار ريال سعودي((انظر في ذلك: الإسماعيليون في نجران مواطنون سعوديون من الدرجة الثانية، منظمة هيومن رايتس ووتش، 22 سبتمبر/أيلول 2008م، على الرابط: https://www.hrw.org/ar/report/2008/09/22/223144 )).

تاريخيًا يتفق الشيعة الاثنا عشرية مع الإسماعيلية بشأن وجوب إمامة علي بن أبي طالب والأئمة من نسله، لكن الاختلاف وقع بينهم بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، إذ بايع الإسماعيليون ابنه الأكبر إسماعيل المبارك، فيما حصر الاثنا عشرية الإمامة في ابنه الأصغر موسى الكاظم((إبراهيم الجبين، الإسماعيليون امتلكوا جرأة التحولات من ثأر المظلومية إلى الفكر والتعايش، شوهد في 18 أبريل 2021م على الرابط: www.alarab.co.uk)). ولا تعدّ “الإمامة” مسألة تاريخية بالنسبة للاثنا عشرية والاسماعيلية على حد سواء، بل فكرة عقدية حيوية قادرة على الحضور في مختلف المراحل، فالإمامة تبدأ من الإمام علي بن أبي طالب، وتستمر حتى نهاية الزمان، ومع ذلك فإن الإمامة كعقيدة سياسية أكثر وضوحًا لدى الاثنا عشرية الذين تتملكهم نزعة قوية لتغيير الواقع وفق المعتقد السياسي/ الديني. وثمة مظاهر اختلاف أخرى في الجانب العقدي بين الطائفتين، فالإسماعيلية لا ترى في “استشهاد الحسين” ومظلوميته فعلًا محفزًا على الثأر والانتقام كما تفعل الاثنا عشرية، وإنما ترى فيه تضحية خلّاقة ينبغي استحضارها بعدم المشاركة في ظلم الآخرين، وهي فوق ذلك تدعو للتعايش((المرجع السابق.)).

  1. مراحل العلاقة بين الأقليات الشيعية والحكومة السعودية.

مرّت العلاقة بين الأقليات الشيعية والنظام السعودي بمراحل عدة، كان لكل منها سماتها ومظاهرها الخاصة، ويمكن تناول تلك المراحل بشيء من الإيجاز على النحو الآتي:

المرحلة الأولى: تعود إلى مرحلة تأسيس الدولة السعودية الثالثة، ففي مطلع القرن الماضي تمكّن الأمير عبدالعزيز آل سعود والحركة الوهابية من الاستيلاء على منطقتي القطيف والأحساء (حاضرتي الشيعة الاثنا عشرية) دون مقاومة تذكر، وعقب ذلك ساد انقسام في الآراء بين علماء الشيعة في المنطقة الشرقية، حول نهج التعامل مع السلطة الجديدة، وهل تجب مقاومتها أم إطاعتها والتسليم لها بحق الحكم، وذلك قبل أن يحسم الجدل سريعًا لمصلحة رفض مقاومة السلطة لاعتبارات شرعية تتعلق بحقن الدماء((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، شوهد في 1 أبريل 2021م على الرابط:  www.bbc.com))، ويبدو أن مرونة تعاطي الأمير عبدالعزيز آل سعود مع المسألة الشيعية آنذاك، واستعداده لكفالة الحرية الدينية للشيعة، ساعدت في ترجيح كفة ذلك الرأي في أوساط الشيعة، وربما شعر الشيعة بالحاجة إلى الانضواء تحت جناح سلطة قوية تمثّل لهم ملاذًا آمنًا من بعض المتعصبين الوهابيين، وفي هذا السياق، اُبرم في أبريل 1913م اتفاقٌ بين آل سعود ووجهاء الشيعة، كفَل للأهالي حرية العبادة الدينية، ودخولهم في أمان الدولة وعدلها، مقابل الولاء للسلطة((الشيعة في السعودية، شوهد في 7 أبريل 2021م على الرابط: www.m.marefa.org.)).

عملت السلطة السعودية خلال تلك المرحلة على تحسين صورتها في أوساط المواطنين الشيعة، وإظهار التزامها بإقرار نهج التعايش، فعيّنت، كتعبير عن ذلك، قاضيًا شيعيًا في المنطقة الشرقية، يحتكم إليه المواطنون سواء كانوا من الشيعة أو السنة، رغم مخالفة هذا النهج للفكر الوهابي الذي تتبناه الدولة بصورة رسمية((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، مرجع سابق2.))، مع ذلك فإن إجراءات السلطة لم تكن كافية لإنهاء شعور الشيعة بالتمييز والإقصاء. ومع تضخم جهاز الدولة الرسمي في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز (1953- 1964م)، إضافة للطفرة النفطية مع بداية عهد الملك خالد (1975- 1982م)، واختلال معايير التوزيع المتكافئ لعائدات الثروة، بدأت المطالب الخدمية بالظهور في أوساط الشيعة، وبرزت أمام الدولة “مشكلة جديدة مع الشيعة بعنوان التمييز الطائفي في الوظائف، والتهميش المناطقي في المشاريع الخدمية”((بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013م)، ص71.)).

المرحلة الثانية: وتعود إلى ما بعد الثورة في إيران (1979م) والتأثيرات التي أحدثتها في أوساط الشيعة، وكانت هذه المرحلة على خلاف سابقتها مشوبة “بالتوتر والمواجهة” بين النظام والأقلية الشيعية، وشهدت ما عرف في أوساط الشيعة بانتفاضة تشرين الثاني نوفمبر 1979م في المنطقة الشرقية، والتي يُعتقد أنها نجمت عن فشل الحكومة في الوفاء بعهودها، وشعور الشيعة بالمزيد من الإقصاء والتهميش، وتدني وضعهم الاقتصادي مقارنة بالثراء المتزايد للنخب السعودية في منطقة نجد((الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية، شوهد في 1 أبريل 2021م على الرابط:  www.carnegie.mec.org))، كما كانت الثورة في إيران محركًا قويًا للانتفاضة كما سيتضح لاحقًا.

كانت الاحتجاجات الشيعية قد انطلقت بالتزامن مع إحياء يوم عاشوراء، الذي يعدّ مناسبة دينية ذات مدلولات سياسية هامة لدى الشيعة، ونشبت مواجهات مع الحرس الوطني أسفرت عن مقتل العشرات من المتظاهرين. ويعدّ ذلك أول صدام واسع النطاق بين الشيعة والسلطات السعودية منذ تأسيس الدولة، على خلفية مطالب اجتماعية متنوعة، وغير مستقل عن تأثير حدث الثورة في إيران. واللافت أن علماء الشيعة التقليديين في المنطقة الشرقية عارضوا الانتفاضة ضد السلطات((بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة، مرجع سابق، ص22.))، لكنهم كانوا قليلي الحيلة فيما يبدو، أمام الشعور المتراكم بالحرمان الاجتماعي والاقتصادي لدى الشيعة، وأمام التأثير الحماسي لشعارات الثورة الإيرانية في الوسط الشيعي السعودي.

المرحلة الثالثة: واتسمت بميل متبادل من السلطات السعودية والقيادات الشيعية إلى التصالح، وقد أدى التواصل بين القيادات الشيعية في الخارج ومسؤولين رفيعين مقربين من الملك فهد بن عبدالعزيز بداية عقد التسعينيات إلى انخراط الشيعة في حوارات مع السلطة، وتقديم مطالبهم إلى السلطات مباشرة دون اللجوء للمظاهرات أو الضغط من خلال الشارع، مع تأكيد تمسكهم بالوحدة الوطنية، والولاء للدولة((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، مرجع سابق3.)). وقابلت السلطات هذا “الانفتاح الشيعي” على الحوار معها، بتأكيد أن المواطنين الشيعة في المملكة هم جزء لا يتجزأ من كيان الوطن. والتقى الملك فهد بن عبدالعزيز خلال العام 1993م بقيادات شيعية في إطار هذا الانفتاح المتبادل، وجرى التفاهم على وقف نشاط المعارضة الشيعية في الخارج، والسماح لأعضائها بالعودة إلى الداخل، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الشيعة((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، مرجع سابق4.)).

كان التقارب في حقيقته ثمرة للتغيرات الجيوسياسية التي نجمت عن حرب الخليج الثانية، وارتفاع مستوى المخاطر الخارجية والداخلية التي واجهتها المملكة، فقد هدد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالانتقام من السعودية نتيجة دورها المحوري في الحرب على بلاده، وأثارت استضافة المملكة مزيدًا من القوات الامريكية معارضة سلفية متزايدة، تزامنت مع ظهور “فتاوي” دينية في أوساط “المجاهدين العرب” السعوديين في أفغانستان، تدعوهم للعودة إلى البلاد من أجل تحرير أرض الحرمين الشريفين من الوجود الأجنبي((آيريس غلوزماير، الضوابط والتوازنات والتحول في النظام السياسي السعودي (في) بول ارتس وغيرد نونمان (محرران)، المملكة العربية السعودية في الميزان الاقتصاد السياسي والمجتمع والشؤون الخارجية، الطبعة الثانية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سبتمبر 2013م)، ص265.)). وفي مواجهة هذه التغيرات، علاوة على المشكلات الاقتصادية بعد حرب الخليج الثانية، اتجه النظام السعودي للانفتاح على مطالب الإصلاح بغرض تقوية وجوده في الداخل((تبنّى النظام السعودي في هذه المرحلة، وتحت ضغط المتغيرات المشار إليها في المتن، حزمة إصلاحات سياسية شملت إصدار النظام الأساسي للحكم، الذي يعد بمقام دستور دائم للبلاد، وتأسيس مجلس شورى بالتعيين في مارس 1992م. ومع ذلك كانت الإصلاحات محدودة وضعيفة للغاية، مقارنة بسقف المطالب الإصلاحية التي توالت على النظام في ذلك الوقت، في صورة عرائض ممهورة بتوقيعات علماء وقضاة وأساتذة جامعات ومثقفين من جميع التيارات الفكرية من السنة والشيعة.))، والتقليل من احتمال صدام ممكن مع الشيعة السعوديين لا تحتمله ظروف المملكة بالغة الحرج في ذلك الحين.

بموازاة ذلك، حدث تحوّل ملحوظ على تصورات عدد كبير من القيادات الشيعية المعارضة في الخارج بشأن طبيعة ما يجب أن تكون عليه العلاقة مع النظام، وهو تحوّل أنضجته الظروف المعقدة التي اكتنفت العمل السياسي للمعارضة الشيعية من الخارج((بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة، مرجع سابق، ص179.))، وتحديدًا الحركة الإصلاحية التي حُلّت على يد مؤسسيها عقب المصالحة مع النظام، إضافة لعدم اليقين بجدوى النتائج التي يمكن أن تفضي إليها المعارضة من الخارج، ووجود قدر واضح من التباعد شاب العلاقة بين القيادات الشيعية وإيران؛ نتيجة سعي الأخيرة لاستلحاق القيادات الشيعة السعودية، وتجاهل خصوصية نضالها السياسي، ومن ثم قناعة القيادات الشيعية المعارضة بعدم نجاعة خيار العنف المسلح المدعوم من إيران طيلة عقد الثمانينات((استمرت إيران بدعم هذا الخيار بعد المصالحة بين القيادات الشيعية والسلطات السعودية، ولكن من خلال فصيل غير وازن داخل الأقلية الشيعية في السعودية، هو “حزب الله- الحجاز”، الذي اتهم بالوقوف وراء تفجير الخبر في يونيو 1996م، كما تجدد الدعم الإيراني لخيار العنف من خلال حركة الشيخ نمر النمر في الفترة من 2011 إلى 2016م، وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقًا.)).

ولعل المثال الجيد لهذا التحول الذي مهد لعلاقة مغايرة بين الأقلية الشيعية والنظام السعودي في تلك الفترة، هو الشيخ حسن الصفار، الذي كان قائدًا تنظيميًا عمل تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني في الثمانينيات؛ من خلال ما كان يطلق عليه “منظمة الثورة الإسلامية”، ثم عاد إلى المملكة بداية التسعينيات معبّرًا عن توجه وطني رحب به النظام السعودي، حيث رفض العروض التي قدمها النظام العراقي للمعارضة الشيعية السعودية في الخارج بدعم كفاحها ضد النظام السعودي، وفتح مقرات لها في العراق، ودعا الشيعة السعوديين “للتعبئة والاستعداد للقتال دفاعًا عن حدود الوطن”((بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة، مرجع سابق، ص170.)).

كان “الصفّار” ضمن دائرة أوسع من القيادات الشيعية التي تخلّت عن “خطابها الخميني” مثل محمد المحفوظ وزكي الميلاد وجعفر الشايب((ستيفن لاكروا، السياسة بين الإسلاميين والليبراليين في المملكة العربية السعودية (في) بول ارتس وغيرد نونمان (محرران)، المملكة العربية السعودية في الميزان الاقتصاد السياسي والمجتمع والشؤون الخارجية، مرجع سابق، ص68.))، إضافة لتوفيق السيف وفؤاد إبراهيم وحمزة الحسن وغيرهم، وقد أصبح هؤلاء من دعاة التصالح مع النظام، والحوار مع السنة، والإصلاح المتدرج، لكن الشيخ حسن الصفار  يعدّ الأكثر تأثيرًا من بينهم، وهو الذي لعب الدور الأكبر في ضبط العلاقة بين شيعة السعودية والنظام على إيقاع التهدئة والمصالحة لفترة طويلة من الوقت.  

المرحلة الرابعة: عقب الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م، وتسلم شيعة العراق مقاليد السلطة، ونمو تأثيرهم السياسي في المعادلة العراقية، اكتسب شيعة السعودية ثقة متزايدة بوجود مناخ إقليمي مواتٍ لتحقيق بعض المطالب، وتحسين موقعهم في العلاقة مع السلطة، فرفعت قيادات شيعية عريضة بعنوان ” شركاء في الوطن”، وقّع عليها 450 من الشخصيات الشيعية البارزة، وقُدمت لولي العهد السعودي في حينه الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وجاء فيها “إنهم [الشيعة] جزء أصيل لا يتجزأ من كيان هذا الوطن، فهو وطنهم النهائي، لابديل لهم عنه ولا ولاء لهم لغيره”((رول مايل و بول آرتس، المملكة العربية السعودية بين المحافظة والتكيف والاصلاح، المعهد الهولندي للعلاقات الدولية “كليندال” ص29، على الرابط: http://www.clingendel.net .  )). ودعت الوثيقة لتحقيق المواطنة المتساوية، والاعتراف بحقوق الشيعة في المساواة مع أبناء الوطن الواحد، وإنهاء التحريض الطائفي، وأشكال العنف والكراهية ضدهم((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، مرجع سابق5.)).  وعلى نحو ذلك، تقدّم الشيعة الإسماعيليون في منطقة نجران (يونيو 2003م) بعريضة عنوانها “الوطن للجميع والجميع للوطن” طالبوا فيها بحقوق متساوية((آيريس غلوزماير، الضوابط والتوازنات والتحول في النظام السياسي السعودي، مرجع سابق، ص268.)).

وفي اتجاه آخر موازٍ، لكنه أقرب إلى التصعيد، أقدم ناشطون شيعة على تشكيل حركة معارضة، أطلقوا عليها اسم “خلاص”، بهدف تعبئة الجيل الجديد من الشيعة ضد نظام الحكم((مي يماني، الشيعة في السعودية: انتفاضة المهمشين على قبضة الوهابيين شوهد في22 أبريل 2021م على الرابط:))، وقد أعلن عن تشكيل الحركة في خضم احتجاجات محدودة شهدتها المدينة المنورة في العام 2003م. مع ذلك، استمر أسلوب المطالبة بالحقوق من خلال العرائض المرفوعة مباشرة للسلطة، نهجًا أساسيًا في علاقة الشيعة بالنظام حتى ذلك الوقت. وعقب تولي الملك عبدالله الحكم في العام 2005م، طالب عدد من المفكرين والزعامات الشيعية بالمصالحة الوطنية على أساس احترام جميع الطوائف، ودعوا الحكومة لتشجيع الدعاة على التركيز على الوحدة الوطنية في خطبهم من أجل تعزيز الروابط بين أبناء الوطن الواحد((رول مايل ، بول آرتس، مرجع سابق، ص30 .)). 

لقد أبدى النظام السعودي انفتاحًا ملحوظًا على الشيعة في ذلك الوقت بغرض تهدئة الانقسامات الطائفية، في ظل متغيرات إقليمية ناجمة عن الاحتلال الأمريكي للعراق، ونجاح إيران في تحقيق نفوذ واسع في العراق، غير أن العلاقة بين الأقلية الشيعية في المنطقة الشرقية والسلطة السعودية ظلت محكومة بالتوتر الحذر، ومشوبة بعوامل كثيرة قابلة للانفجار.

وعلى صعيد متصل، كانت مناطق الشيعة الإسماعيلية في نجران قد شهدت احتجاجات في العام 2000م، ثم في العام 2006م نتيجة ما اعتبره اتباع الطائفة محاولات سلطوية لتغيير البنية الديموغرافية والدينية لمنطقة نجران، عبر تسكين وتجنيس قبائل يمنية سنية، والسماح لها بحمل السلاح، واعتبر الاسماعيليون أن هدف السلطة من ذلك هو تذويبهم في الأغلبية السنية((الإسماعيلية والاثنا عشرية في السعودية شوهد في 1 أبريل 2021م على الرابط:  www.noonpost.com.)). ومع تصاعد المواجهات بين الإسماعيليين وأجهزة الشرطة والأمن، اتجهت السلطة لتنفيذ سياسة احتواء للحد من التوترات، عبر عدد من التدابير، شملت تنفيذ بعض مشروعات البنية التحتية، وإطلاق السجناء((الإسماعيلية والاثنا عشرية في السعودية، مرجع سابق.)).

في المحصلة، نجحت إجراءات السلطة في احتواء التوتر مع الإسماعيلية في نجران، ولكن دون تلبية المطالب المتعلقة بإنهاء التمييز الديني ضد الإسماعيلية، أو تقديم معالجات ناجعة لجذور المشكلة، أما بالنسبة للشيعة الاثنا عشرية فجاءت نتائج الانفتاح المتبادل بينهم وبين السلطات مخيبة للآمال بصورة كبيرة، لتندلع في العام 2009م احتجاجات شيعية واسعة النطاق، وذلك إثر احتكاك عارض بين الزوار الشيعة لمقبرة البقيع في المدينة المنورة وبين الشرطة، وتصاعدت مواجهات عنيفة خلّفت عشرات الضحايا((مي يماني، مرجع سابق.  )). كان رد السلطات على الاحتجاجات عنيفًا، ونظمت الشرطة حملات اعتقال واسعة لمن يشتبه مشاركتهم فيها، كما صدرت تصريحات عن الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود أسهمت في تعقيد الوضع، إذ جاء فيها “إن المملكة العربية السعودية تتبع مذهب أهل السنة، وهناك مواطنون يعتنقون مذاهب أخرى، يجب على عقلائهم أن يحترموا هذا المذهب”. أثارت تصريحات الأمير نايف حفيظة الشيعة، كما عكست الهوّة الواسعة بين السلطة والأقلية الشيعية، وعمق الانقسام في المجتمع السعودي((الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية، شوهد في 1 أبريل 2021م على الرابط: www.carnegie.mec.org)).

شكّلت احتجاجات البقيع منعطفًا حادًا في العلاقة بين الشيعة والنظام السعودي، وللمرة الأولى يطفو على السطح، “خطاب الانفصال” أو المطالبة بتقرير المصير، على يد أحد رموز الشيعة، الشيخ نمر النمر، في خطبته الشهيرة يوم الجمعة 2 فبراير 2009م، بمدينة العوامية، عقب أحداث البقيع((العلاقة بين شيعة السعودية وحكامهم، مرجع سابق6.)). حظي الشيخ النمر بنفوذ فاق نفوذ القيادات الشيعية التقليدية التي تتمتع باحترام واسع في المجتمع الشيعي((كان الشيخ الصفار قد نجح منذ عودته إلى المملكة وتصالحه مع النظام في تشكيل تيار موالٍ أصبح له النفوذ الأكبر في أوساط الشيعة، وتمكن من الفوز بمعظم مقاعد الشيعة في الانتخابات البلدية بالمنطقة الشرقية في العام 2005م، لكن هذا التيار وجد خصومة سياسية وعقدية ضارية من تيار شيعي آخر، ظل وفيًا للفكر الشيرازي الثوري وثيق الصلة بفكر الثورة الإسلامية في إيران، وكان على رأس هذا التيار المناوئ للصفار، والذي أخذ في التمدد على حساب المعتدلين من القيادات الشيعية، الشيخ نمر النمر والشيخ محمد حسن الحبيب. انظر في ذلك: بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة، مرجع سابق، ص219-221.))، بما فيها تيار الشيخ حسن الصفار، وانضمت إليه مجموعة من الشباب الشيعي المتحمس، لتبدأ في العام 2011م، وعلى وقع ثورات “الربيع العربي”، احتجاجات شيعية مسالمة ضد النظام السعودي، ثم ما لبثت أن شهدت الاحتجاجات الشيعية في منتصف العام 2012م بعض المظاهر المسلحة، واتجهت تدريجيًا نحو العنف، لتقوم السلطات السعودية باعتقال الشيخ النمر مع مجموعة من الناشطين الموالين له، بتهمة التحريض على العنف، والدعوة للانفصال بتوجيهات إيرانية((فريدريك ويري، هل تحمل الأقلية الشيعية التغيير في السعودية؟  نشر بتاريخ 12 فبراير 2012م شوهد في 12 أبريل 2021م على الرابط www.Carnegieendowment.org.  .)).

وفي منتصف العام 2014م ضربت موجة تفجيرات واسعة مساجد شيعية في المنطقة الشرقية، دون معرفة الجهة المنفذة لها، وإثر ذلك، سمحت السلطات السعودية للشيعة بإعادة إعمار المساجد المتضررة، ووصف الإعلام الرسمي ضحايا الانفجارات بالشهداء((منصور النقيدان، نمر النمر العنف السياسي ومستقبل الشيعة في السعودية، شوهد في 22 أبريل 2021م على الرابط: www.almesbar.net.  )). لقد أثار تصاعد الهجمات الارهابية على مساجد الشيعة في المنطقة الشرقية مخاوف السلطات من تغلغل الجماعات الجهادية السلفية في المجتمع السعودي، خاصة في مناطق الشيعة، وإلى حد بعيد نجحت السلطات في منع تغلغل “الجهاديين” في مناطق الشيعة، وأظهرت جدية في احتواء الوضع، لكن أسباب التوتر مع الشيعة ظلت آخذة في النمو.

أعاد إعدام الشيخ النمر مع 46 من أتباعه في يناير 2016م، الاحتجاجات الشيعية إلى الواجهة، فعمّت مناطق الشيعة مشاعر غضب عارمة لم يكترث لها النظام السعودي. لقد أراد النظام بإعدام الشيخ النمر وأد فكرة تقرير المصير، التي بدت له الفكرة الناظمة للاحتجاجات الشيعية، والتعبير الحقيقي عنها، بصرف النظر عن تغليفها بمطالب حقوقية واجتماعية، كما أراد القضاء على التيار الشيعي المتشدد الذي عبّر عنه الشيخ النمر بصورة صاخبة، وإرسال رسالة قوية للأقلية الشيعية بالحزم وعدم التهاون فيما يتعلق بالمطالب التي يستخدم فيها ضغط الشارع. أما الأقلية الشيعية، خاصة الشباب، فإن إعدام أحد رموزها قوّض تمامًا ثقتها بالدولة، ودفع بالعلاقة معها نحو المجهول.

  1. مطالب الأقليات الشيعية في السعودية ومدى استجابة النظام لها.

من وجهة النظر الشيعية، لا تتعدى مطالب المواطنين الشيعة حدود تطبيق إصلاحات سياسية واجتماعية تمنح أبناء الطائفة حقوقًا مساوية لتلك التي يتمتع بها أبناء السنة((مروان صادق، السعودية حقوق مسلوبة أم ادعاءات مبالغ فيها؟ نشر في 21 نوفمبر 2012م، وشوهد في 18 أبريل 2021م على الرابط: www.alhurra.com.   )). وتتركز أهم المطالب في القضاء على التمييز والتحريض الطائفي، وإجراء إصلاحات إدارية وسياسية، وإنهاء الفساد، والتحوّل لحكم ملكي دستوري((فريدريك ويري، مرجع سابق.)).

والواقع أن الأقليات الشيعية في المملكة تعاني نوعًا من الاستبعاد السياسي والإداري من أجهزة الدولة، فعلى سبيل المثال، لا يوجد شيعي في مرتبة وزير أو نائب وزير، ومن المحظور عليهم من الناحية الفعلية تولي مواقع في الأجهزة الحكومية الحساسة في وزارات الداخلية والدفاع، والحرس والوطني، والديوان الملكي، والسلك الدبلوماسي. وتعدّ أغلبية الموظفين في المنطقة الشرقية من غير أبناء الطائفة الشيعية، وبعضهم يستقدمون من مناطق أخرى من المملكة؛ لكونهم أكثر ولاءً للنظام((الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية، مرجع سابق.)). ويستأثر السنة بجميع المواقع الإدارية في محافظة الأحساء، التي تبلغ نسبة الشيعة فيها نحو 60% من إجمالي عدد السكان، وتوجد بها – على سبيل المثال- نحو 400 مدرسة، جميع مدرائها من غير الشيعة((رول مايل ، بول آرتس، مرجع سابق، ص70.)). ورغم أن الشيعة ممثلين على المستوى المحلي بستة مقاعد من أصل 11مقعدًا في المجالس البلدية، إلا أن السلطة الحقيقية ليست في يد تلك المجالس، وإنما تتركز في مستوى المحافظة الخاضعة لوزارة الداخلية((المرجع السابق نفسه.)).

أما على المستوى الديني فلا يستطيع الشيعة بناء مساجد جديدة أو حسينيات لممارسة الشعائر الدينية، ويمنعون من إحياء احتفالاتهم الدينية كيوم عاشوراء ويوم عيد الغدير، وبالرغم من عدم وجود قانون يحظر عليهم بناء المساجد، الا أن عملية الحصول على ترخيص حكومي لغرض بناء مسجد شيعي معقدة للغاية، مقارنة بالتسهيلات الممنوحة لأتباع المذاهب السنية، والتي تصل حد منحهم مساعدات مالية من السلطات لبناء المساجد. وإذا حصل أبناء الشيعة على ترخيص من الحكومة لبناء مساجد، فيجب عليهم الالتزام بجملة من الشروط، منها رفع الأذان بالصيغة المعتمدة لدى أهل السنة، في حال تم بناء المسجد في حي سكني يقطنه الشيعة والسنة((الشيعة في السعودية، شوهد في 18 أبريل 2021م على الرابط:www.fanack.com. .)).

وعلى مستوى القضاء تتوفر للشيعة في المنطقة الشرقية، خاصة في منطقتي القطيف والأحساء، محاكم أحوال مدنية، وأوقاف ومواريث، غير أن الشيعة الساكنين في المناطق الأخرى بالمملكة، بما فيها بعض المدن في المنطقة الشرقية، لا يستطيعون الوصول إلى هذه المحاكم. علاوة على أن سلطة المحاكم الشيعية مقيدة، ويحق للمحاكم الأخرى نقض أحكامها في مطلق الأحوال، فالمدعي الذي لا يرضى بحكم قاضٍ شيعي، بإمكانه أن يعيد النظر في قضيته أمام محكمة سنية((الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية، مرجع سابق.2)).

والحال نفسه بالنسبة للشيعة الإسماعيلية، الذين يعانون من الحرمان نفسه في الحقوق الدينية وفي التوظيف، لكن مع فارق أن صوت الإسماعيلية اخفض كثيرًا في التعبير عن الحرمان من أقرانهم الشيعة الاثنا عشرية في المنطقة الشرقية؛ وذلك نظرًا لقلة عددهم، وافتقارهم للمعارضة المنظمة، إضافة للعزلة الجغرافية لمنطقة نجران((الإسماعيليون في نجران مواطنون سعوديون من الدرجة الثانية، مرجع سابق.)).

في المجمل، يتأرجح النظام السعودي في تعاطيه مع المطالب الشيعة بين الاستجابة الشكلية، ومحاولة احتواء المطالب وتفريغها من مضمونها، فهو مثلًا يستجيب بدرجة ملحوظة لمطالب تحسين المستوى المعيشي والخدمات الأساسية العامة، ولكن من دون إجراءات جذرية لإنهاء التمييز الديني والسياسي والإداري، أو تبنّي سياسات واضحة لتحقيق التعايش، وتخفيف حدة المسألة الطائفية. ويبدو أن هذا النهج في التعاطي مع المطالب الشيعية أسهم في إعاقة اندماج الأقلية الشيعية في المجتمع، وزاد في توتير علاقتها بالسلطات، خاصة وأن الهدف من وراء الاستجابة الشكلية واحتواء بعض المطالب، كما يبدو للشيعة، هو إسكات بعض وسائل الإعلام في الخارج، واستمالة نشطاء المعارضة الشيعية، ووضعهم تحت مراقبة الأجهزة الأمنية، إضافة لمحاولة تقسيم المعارضة الشيعية وتفتيتها، من خلال تقريب بعض قادتها من النظام ومنحهم امتيازات شخصية((الشيعة في السعودية، مرجع سابق.)).

ويلجأ النظام في حالات كثيرة لاستخدام ورقة الطائفية بغرض إثارة وتأليب الرأي العام ضد المطالب الشيعية، وصرف أنظار المواطنين عن إخفاقات النظام، وإحباط إمكانية أي تعاون عابر للطوائف بين الناشطين داخل المملكة، وخاصة الناشطين السنة((الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية، مرجع سابق.3))، فيعمل مثلًا على نشر الخطب والكتابات المناهضة للشيعة، وإطلاق يد المؤسسة الدينية السلفية في ممارسة النقد دون هوادة ضد عقائد الشيعة، ونعتهم بنعوت تمييزية. علاوة على استخدام السلطات السعودية سياسة القمع المفرط ضد المظاهرات الشيعية، وتعقب الناشطين، وممارسة الاعتقال خارج إطار القانون.

ومن المرجح أن يكون إدراك النظام السعودي للمطالب الشيعية بوصفها ستارًا زائفًا لهدف سياسي كامن، قد عطّل تلبيته الكثير من تلك المطالب، ودفعه للتنفيس عن المطالب في حدود ضيقة، إضافة لضغوط المؤسسة الدينية السلفية، التي تعارض أي انفتاح حقيقي للنظام على الشيعة، وتحول دون التقارب الجدي بينهما.

 ثانيًا: علاقة الأقليات الشيعية في السعودية بإيران.

  1. نبذة موجزة عن العلاقة السعودية الإيرانية.

تتأثر العلاقة بين الأقليات الشيعية في المملكة وإيران بالعلاقات السعودية – الإيرانية، وتعدّ انعكاسًا لها في الكثير من الأحوال، وقد شهدت العلاقات السعودية – الإيرانية تقاربًا محدودًا خلال الفترة (1929-1979م)، شمل إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية بين البلدين((فداء يوسف أبو جزر، العلاقات الإيرانية السعودية وانعكاساتها على دول الجوار العربي (1997-2005م)، رسالة ماجستير، غزة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الأزهر، 2014م، ص15.))، غير أن التوتر ظل السمة البارزة للعلاقة بينهما عقب ثورة الخميني في إيران (1979م)، وتبنيه نهج تصدير الثورة إلى الخارج. وبرزت في الفترة (1979- 1989م) سلسلة من الأحداث والمواقف أفضت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أهمها المواجهات بين الحجاج الإيرانيين والشرطة السعودية في العام 1981م، ودعم إيران المعارضة الشيعية في المنطقة الشرقية، وموقف السعودية المؤيد للعراق في الحرب العراقية الإيرانية.

وعقب وفاة الخميني في يونيو 1989م، واعتماد الرئيس آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني نهجًا مغايرًا لسياسة تصدير الثورة((إيران والسعودية علاقات لا تقتصر على النزاع المذهبي فقط شوهد في 22 أبريل 2021م على الرابط:www.amp.dw.com.    ))، عاد التقارب للعلاقة بين طهران والرياض في حدود ضيقة، غير أن أحداث 11سبتمبر 2001م وضعت تحديات جديدة أمام تلك العلاقات؛ حيث استغلت إيران مشاركة سعوديين في استهداف برجي التجارة العالمية لإثبات وجود “إرهاب سنّي” منبعه السعودية؛ بهدف صرف الأنظار عن تمدد نفوذها في العراق، ونجم عن ذلك زيادة عوامل التوتر في العلاقة بين البلدين. ثم جاء حادث الهجوم على البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران (يناير 2016م) ليعيد العلاقة بينهما إلى نقطة الصفر، خاصة وأن السعودية كانت قد بدأت حملتها العسكرية (عاصفة الحزم) ضد جماعة الحوثي التي تعدّ ذراعًا إيرانيًا على الحدود الجنوبية للسعودية.

وباستمرار عمليات تحالف دعم الشرعية في اليمن أصبحت العلاقة بين البلدين عدائية بصورة واضحة، خاصة بعد استهداف الحوثيين شركة أرامكو السعودية (سبتمبر 2019م). وعلى هامش اجتماع الجلسة 74 للجمعية في الأمم المتحدة في الشهر نفسه، اتهمت السعودية إيران بتصفية حساباتها مع الرياض من خلال الحوثيين، ردًا على مواقف الرياض بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ لتقرر الرياض في نفس العام فرض عقوبات على كيانات تابعة للحرس الثوري الإيراني((مرفت زكريا، تهديدات المملكة العربية السعودية وسلوك إيران الإقليمي، شوهد في 6أبريل 2021م. على الرابط www.acrcg.org.)).

  1.  طبيعة العلاقة بين إيران والأقليات الشيعية في السعودية.

لفترة طويلة من الزمن انحصرت العلاقات العقدية لشيعة المملكة في حدود المنطقة العربية (البحرين، العراق، الكويت)، ولم تكن إيران تمثل أهمية لهم حتى قيام الثورة الإيرانية؛ إذ كان العراق يمثّل مركزًا علميًا ودينيًا للتشيّع، اتجه إليه أبناء الشيعة من السعودية لطلب العلم والزيارة الدينية، وبعد الثورة الإيرانية تغيّر الوضع نسبيًا، فبدأ طلاب العلم من الأقلية الشيعية السعودية بالتوجّه إلى إيران، كما وجد مبدأ ولاية الفقيه الذي نادى به الخميني رواجًا في أوساط شيعة المنطقة الشرقية، على يد الشيرازيين، وهم أتباع السيد محمد الحسني الشيرازي((محمد الحسني الشيرازي (1928-2001م) مرجع شيعي بارز، وأحد مؤسسي حزب الدعوة العراقي الذي يمثل تيارًا شيعيًا كبيرًا يتسم بالتطرف والغلو، وينشط في العراق وإيران ودول الخليج العربي، وقد كان الشيرازي على علاقة قوية بالخميني.))، مقرونًا بتوظيف “مظلومية” مقتل الحسين، وإسقاطها على أوضاع الشيعة في المملكة؛ باعتبارهم مظلومين ومضطهدين يواجهون عداوة النظام القائم، وعداوة مواطنيه السنة، وفي هذا السياق قام شيعة المملكة بإعادة قراءة تاريخ الحسين وكربلاء بشكل ثوري((أذرع حزب الله في السعودية والخليج المذهبية في خدمة المطامع الإيرانية، 10-12-2017م، شوهد في 25 أبريل 2021م على الرابط: www.hafryat.com.)).

لقد ظل الخطاب الشيعي في السعودية منذ تأسيس الدولة وحتى العام 1979م، عام الثورة الإيرانية، خاليًا من مطالب سياسية خاصة بالشيعة، وبعيدًا عن فكرة تقديم الشيعة كجماعة سياسية. ونظرًا للطبيعة الثورية للنظام الإيراني وطموحاته في المنطقة، فإن المبدأ الحاكم لعلاقاته الخارجية، هو مبدأ تصدير الثورة، الذي يستمد النظام الإيراني منه حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول((فؤاد عاطف العبادي، السياسة الخارجية الإيرانية وأثرها على أمن الخليج العربي (1991-2012م)، رسالة ماجستير، قسم العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، 2012م، ص34.)). ومن خلال الترويج لنبذ “الاستكبار” (أي النظم المعادية)، و”موالاة المستضعفين” ودعمهم على مستوى العالم، يعوّل المشروع الإيراني على الأقليات في البلدان المجاورة كعامل حاسم في تصدير الثورة، وقلب الأوضاع في تلك المجتمعات. كما تعدّ الأقليات أحد أهم أدوات القوة الناعمة التي تسعى من خلالها السياسة الإيرانية لإيجاد بيئة حاضنة لها، والتهيئة للهيمنة على الدول المجاورة((فراس إلياس، مستقبل مكانة إيران الإقليمية في الشرق الأوسط: [email protected])).  

        ومن المعلوم أن السعودية قابلت مبدأ تصدير الثورة الإيراني بالرفض، ونظرت إليه كمبدأ خطير وغير معهود في العلاقات بين دول المنطقة، ما دفع إيران للتعامل مع السياسة السعودية كواحدة من العقبات المعيقة لمشروعها، وتبنّي سياسة تحريض الأقليات الشيعية في المناطق الشرقية باستخدام مبدأ ” تحرير المستضعفين” كاستراتيجية جاذبة من أجل الاستقطاب((إيران والسعودية علاقات لا تقتصر على النزاع المذهبي فقط، مرجع سابق.)). كما عملت إيران على إيجاد متطرفين في أوساط الأقلية الشيعية، وتعزيز حضور عقيدة الولي الفقيه بينهم، إضافة لتعليم أعداد من أبناء الأقلية في مدارس المرجعيات الكبرى، وتسهيل الزيارات للمراقد الشيعية في العراق (السياحة الدينية)، وقد استخدمت بعض تلك الزيارات كغطاء لإلحاق شباب من الأقلية الشيعية السعودية بمعسكرات تدريب وتجنيد تابعة لإيران في سوريا والعراق((العناصر الشيعية المسلحة في الخليج ونيران التصعيد، تقدير موقف، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، شوهد في 21 أبريل 2021م على الرابط:www.fikercenter.com)).

إن ارتباط شيعة السعودية بعلماء إيران واضح، ويتجسد على وجه الخصوص بالعلاقة الوجدانية بالخميني، الذي يعدّ نموذجًا ينشّئ شيعة المملكة أبناءهم على الاقتداء به، والتسليم بأقواله وأطروحاته الفكرية والعقدية دون نقاش، إضافة لحرصهم على تزيين حيطان منازلهم بصوره، ورفعها في مظاهراتهم واحتجاجاتهم((الهيثم زعفان، العلاقات المتبادلة بين شيعة السعودية وإيران شوهد في   أبريل2021م على الرابط:  www.fnoor.com)). من جهة ثانية، يلتزم شيعة السعودية بإخراج “خُمس” أموالهم، لصالح علماء الشيعة في الداخل والخارج، وهناك أموال كثيرة من التبرعات والزكاة التي يجمعها شيعة المملكة، تصبّ في جيوب رجال الدين في إيران((المرجع السابق.2)).

وظهرت خلال فترات متفاوتة تنظيمات شيعية في المملكة متعصبة بشدة لأفكار الخميني، مثل “حزب الله الحجاز” الذي كان مرتبطًا بالحرس الثوري الإيراني، ونشط في نهاية الثمانينات وأوائل التسعينيات((عن مفهوم الراديكالية الشيعية والنفوذ الإيراني في السعودية، نشر في 9 أبريل 2021م على الرابط: www.qposts.com)). وقبل ذلك أسس السعوديون الشيعة الموجودون في سوريا، تنظيمًا سياسيًا معارضًا لنظام الحكم في السعودية عرف باسم حركة ” الطلائع الرساليين” في العام 1968م، قبل أن يصبح اسمه لاحقًا “منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية”((من المتعاون مع الحوثيين داخل السعودية؟ سؤال يبحث عن إجابة، شوهد في 25 أبريل 2021م على الرابط: www.alkhaeejonline.net.)).

ولم تتوقف مساعي إيران للتغلغل في أوساط شيعة المملكة، وتشجيع بعض رموزهم الدينية على التمرد ضد النظام السعودي حتى وقت قريب، ففي نوفمبر 1979م قاد الشيخ حسن الصفار انتفاضة شيعية في المنطقة الشرقية ضد نظام الحكم السعودي بدعم من إيران، لكنه اضطر بعد فشل “الانتفاضة” والتضييق عليه هو وأنصاره للهرب إلى إيران، وظل يعارض النظام السعودي من هناك ويحرض ضده حتى العام 1986م ((فداء أبو جزر، مرجع سابق، ص 26.)).

ويعدّ حزب الله- الحجاز الذي تأسس في العام 1987م، على يد ضابط مخابرات إيراني يدعى أحمد شريفي، من عدد من الشيعة السعوديين الذين درسوا في مدينة (قُم) الإيرانية، الجناح العسكري لمنظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، وقد جاء تأسيسه كتنظيم عسكري؛ بهدف شن عمليات انتقامية ضد النظام السعودي((أذرع حزب الله في السعودية والخليج المذهبية في خدمة المطامع الإيرانية، مرجع سابق.)). وقد نفّذ أول عملياته في السعودية في أغسطس 1987م، واستمرت هجماته حتى أواخر التسعينات، بعد أن تمكنت السلطات السعودية، عبر حملات أمنية مشددة، من تفكيك خلاياه وضرب قدراته والتضييق عليه؛ ما أدى لتوقف أنشطته العسكرية في العام 2000م، لكن أنشطته تواصلت من خلال إصدار النشرات التحريضية والدعوات للعنف ومقاومة الحكومة((من المتعاون مع الحوثيين داخل السعودية؟ سؤال يبحث عن إجابة، شوهد في 25 أبريل 2021م على الرابط: www.alkhaeejonline.net.)). ويرى تنظيم حزب الله في الولي الفقيه ممثلًا بالإمام الخميني قائدًا شرعيًا لعموم المسلمين، يجب عليهم طاعته في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، ويربط ذلك بوجوب احترام إيران، وعدم التطاول على مكانتها في العالم الإسلامي.

وتتبنى طهران على المستويين الإعلامي والسياسي مواقف المعارضة الشيعية في السعودية، بغرض تهييج الأحداث الداخلية، وتوظيف تداعيات الحراك الشيعي ضد المملكة في الخارج، ويقوم الإعلام الإيراني الرسمي بتغطية ونشر أخبار الاضطرابات والمظاهرات التي تحدث في السعودية، والتعبير عن مواقف معادية لأمن المملكة، ومشجعة على استمرار الاضطرابات((فداء أبو جزر، مرجع سابق، ص 22.)). وعادة ما تقوم الحوزات الدينية في قم ولبنان، عقب كل مظاهرة شيعية داخل المملكة، بإصدار بيانات منددة بالحكومة السعودية، ومطالبة بحماية أبناء الشيعة((فؤاد عاطف العبادي، مرجع سابق، ص43.)). وعقب إعدام السلطات السعودية الشيخ النمر صدرت عن جماعات موالية لإيران في المنطقة، خطابات عدة تدعو لإثارة العنف داخل السعودية كوسيلة انتقام، وتحريك الشارع الشيعي في البحرين((محمد الياسين، حصاد المواقف في هيكلة الاحداث “الأزمة السعودية- الإيرانية” ومتطلبات الرد العربي، نشر بتاريخ 5 يناير 2016م وشوهد في 23 أبريل 2021م على الرابط: www.rudaw.net.)). أما على المستوى الرسمي، فقد ندد الحرس الثوري الإيراني بإعدام الشيخ النمر، ووصف السلطة السعودية بالراعية للإرهاب والمعادية للإسلام((مع احتدام الحرب الباردة مع السعودية الحرس الثوري يوجّه تحذيرًا، شوهد بتاريخ 22 أبريل 2021م على الرابط:www.mobile.reuters.com.    )).

ويقود المزيد من التفحص للحالة الشيعية السعودية وعلاقاتها بإيران إلى نتيجة مفادها أن المحدّد العقدي، رغم تأثيره، ليس هو العامل الحاسم في علاقة الشيعة السعوديين بإيران، فمن الناحية العقدية ما يزال غالبية الشيعة في المنطقة الشرقية بالسعودية مرتبطين عقديًا وفقهيًا بمرجعية النجف في العراق، وهي المرجعية التي لا تحبذ الخوض في غمار السياسة إلا للضرورة، وتُعلي من شأن العمل الدعوي على السياسي كمبدأ عام، إضافة لعدد كبير من المقلدين للمرجعية الشيعية آية الله السيستاني في العراق، والذي لا تتفق آراؤه الفقهية مع نظرية الولي الفقيه، ومن ثم فإن أغلب الشيعة السعوديين لا ينظرون لإيران كمرجعية دينية((بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية تسييس المذهب ومذهبة السياسة، مرجع سابق، ص285. ويُستثنى من هؤلاء بطبيعة الحال، ما يُطلق عليه “خط الإمام” أو الشيرازيون بتعبيراتهم التاريخية والتنظيمية المتعددة (منظمة الثورة الإسلامية/ حزب الله – الحجاز/ الطلائع الرساليون/ المدرسيون وأتباع الشيخ النمر)، والذين نشطوا في أوساط الأقلية الشيعية السعودية في المنطقة الشرقية منذ الثورة الإيرانية في العام 1979م، ودفعوا بالعلاقة مع النظام السعودي إلى الصدام في مراحل مختلفة.)). وإنما يعتبرونها حالة سياسية مغايرة لواقع النظم السياسية “السنية”، جديرة بالتأييد، وبالاستفادة أيضًا من التأثير الذي تحدثه سياساتها في المنطقة. وعليه تندرج العلاقة في إطار السياسة الإيرانية التوسعية، التي تتخذ من الأقليات مطية لتنفيذ مشروعها في المنطقة، أكثر مما تتحدد بالعامل العقدي، وقد وضع بعض شيعة السعودية أنفسهم في هذا الإطار؛ “لتعويض التمييز والقمع الذي يتعرضون له في وطنهم” كما يرى البعض((مي يماني، مرجع سابق.)).

فيما يتعلق بالشيعة الإسماعيلية، فإن الصلات بينهم وبين إيران تبدو ضعيفة، سواء أكانت عقدية أم سياسية، فلا يوجد نشاط إيراني ملحوظ في أوساطهم، فهم لا يشعرون بأنهم غرباء عن مجتمعهم السعودي، ويعتقدون أن إيران تريد من خلال سياستها، جرّ المنطقة إلى صراع، لا ناقة لهم فيه ولا جمل((إبراهيم الجبين، الاسماعيليون امتلكوا جرأة التحولات من ثأر المظلومية إلى الفكر والتعايش، شوهد في 18 أبريل 2021م على الرابط: www.alarab.co.uk)).

  1. التمكين الشيعي والبعد الأمني في المنطقة: تهديدات غير مسبوقة للمملكة.

تُعدّ العلاقات بين شيعة السعودية وشيعة الدول الأخرى مصدر قلق عميق للنظام السعودي، خاصة مع اعتقاده أن بمقدوره ممارسة الاحتواء الداخلي للأقليات الشيعية، والسيطرة على أنشطتها في الداخل بشتى السبل، في حين أن السيطرة على علاقاتها مع الخارج مسألة صعبة ومعقدة، سيما وأن تلك العلاقات غامضة، ومتعددة المستويات، وتتطور بسرعة فائقة في اتجاهات غير مرغوبة. وعلى وجه التحديد ترى السعودية في شيعة البحرين خطرًا ينبغي التعامل معه بحزم؛ نظرًا للروابط القوية الممتدة عبر التاريخ بينهم وبين شيعة المنطقة الشرقية السعودية، فتزايد قوة الشيعة في البحرين، يقوّي بصورة تلقائية الطائفة الشيعية في المملكة، وبالتالي فإن إبقاء شيعة البحرين خارج دائرة النفوذ الإيراني، يعدّ عنصرًا جوهريًا في تمكين السعودية من السيطرة الداخلية على الأقلية الشيعية، وإضعاف علاقاتها بالمشروع الإيراني في المنطقة((المرجع السابق، ص64.)). في الإطار نفسه، تخشى السعودية من تأثير نفوذ الشيعة في العراق على أمن منطقة الخليج عامة، والأمن السعودي خاصة، وتقف هذه الخشية وراء تأييدها بقاء القوات الامريكية في المنطقة((فداء أبو جزر، مرجع سابق، ص 70.))؛ حيث يمكن لانسحاب القوات الامريكية من العراق، أن يمهد لمشاركة إيرانية فاعلة في الترتيبات المستقبلية لأمن المنطقة، وهذا ما تعارضه المملكة.

من جهة أخرى، يمثّل وجود حزب الله اللبناني كنموذج لنظام ولاية الفقيه خارج إيران، نجاحًا للمشروع الإيراني، يغري الأقلية الشيعية في المملكة بخوض تجربة التحوّل لنموذج شبيه، وتقديم نفسها كورقة ضغط على الحكومة السعودية((أذرع حزب الله في السعودية والخليج المذهبية في خدمة المطامع الإيرانية، مرجع سابق.2)). وقد تصاعد القلق السعودي من التمكين الشيعي وتحالفاته، بعد دخول جماعة الحوثي صنعاء واستيلائها على السلطة في عام 2014م، لتصبح واحدة من المشاكل الأمنية الكبيرة للسعودية، وبمثابة ذراع لإيران تستعمله في خدمة أجندتها التوسّعية، وتوظفه في مساومتها الإقليمية والدولية((فؤاد عاطف، مرجع سابق، ص.1.))). ولعل ما يزيد قلق السعودية من جماعة الحوثي، هو هجماتها المتكررة بالصواريخ والطائرات المسيّرة على العمق السعودي((السعودية تطالب بموقف دولي تجاه تهديدات إيران، نشر في 10 فبراير 2021م على الرابط:  www.o-al-ain.com)).

وتخشى السعودية من وصول النزعة العسكرية التوسعية لإيران إلى أقصاها، بدعم شيعة المملكة بالسلاح على غرار جماعة الحوثي. وفي سبتمبر2019م صرّح الناطق العسكري الرسمي لجماعة الحوثي، بأن استهداف بعض الأماكن الحساسة في السعودية حصل “بعد رصد دقيق وتعاون مع شرفاء داخل السعودية”، في إشارة لتعاون ما حصل عليه الحوثيون من شيعة المملكة في المنطقة الشرقية على ما يبدو، غير أنه لا يمكن الجزم بوجود مثل هذا التعاون لعدم توفر شواهد ملموسة، إضافة إلى أن الشيعة في المنطقة الشرقية لم يصدر عنهم حتى الآن ما يشير لتأييدهم جماعة الحوثي أو دفاعهم عنها((من المتعاون مع الحوثيين داخل السعودية؟ مرجع سابق.))، وهذا لا ينفي بالطبع، تعاطف شيعة السعودية مع الحوثيين وإمكانية حدوث تحولات مستقبلية في العلاقة معهم باتجاه التعاون.

في إطار ما سبق، يبدو أن السياسة السعودية تتعاطى مع الأقلية الشيعية كمسألة أمن قومي، وهذا ما يفسر حضور نهج التعامل الأمني في مواجهة أي حراك شيعي؛ حيث تفضّل السلطات السعودية خيار “القمع الأمني” على التأقلم مع المطالب((رويل ميجر، دورة النزاع وحدود الإرهاب في المملكة العربية السعودية (في) بول ارتس وغيرد نونمان (محرران)، المملكة العربية السعودية في الميزان الاقتصاد السياسي والمجتمع والشؤون الخارجية، مرجع سابق، ص322.)) ويعود ذلك بدرجة أساسية إلى تعارض المطالب الشيعية مع ما يصفه البعض “بشروط تشكّل الدولة السعودية”((لورنس لوير، الدولة والهويات الطائفية في منطقة الخليج البحرين والمملكة العربية السعودية والكويت في منظور مقارن (في) السياسة الطائفية في منطقة الخليج، تقرير موجز لمجموعة العمل، مركز الدراسات الدولية والإقليمية وكلية الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون في قطر، 2015، ص9.))، وتحديدًا طبعها المذهبي، وعلاقتها العضوية بالوهابية كأيديولوجيا راسخة تشكّل مصدر شرعية الحكم، كما يعود إلى الطبيعة الجماعية لتلك المطالب، وإلى مضمونها الديني والثقافي الذي ينظر إليه كتقويض للحالة الدينية المستقرة في المجتمع السعودي.

ولعل أهم التهديدات التي يطرحها سلوك الأقلية الشيعية للنظام السعودي تتمثل في تعميق الانقسام الطائفي، وما قد يجرّه ذلك من عدم استقرار داخلي للمملكة، ورغم أن فرضية الصراع الطائفي الأهلي بين سنة وشيعة مستبعدة في المجتمع السعودي، بالنظر إلى قدرة الدولة السعودية على ضبط الحالة الطائفية حتى الآن؛ كاتخاذها مواقف حاسمة تجاه بوادر عنف جهادي ضد الشيعة، فإن سلوك الأقلية الشيعية يطرح على النظام السعودي مواجهة المسألة الطائفية كأزمة بنيوية غائرة في المجتمع، وقادرة على الظهور بتعبيرات مستقبلية خطرة تتجاوز قدرة النظام الحالية على الضبط والاحتواء. من جهة أخرى، يفضي الانقسام الطائفي إلى مزيد من التدخلات الخارجية، ويعدّ التأثير الإيراني في الوسط الشيعي السعودي، رغم المد والجزر الذي يشهده، دليلًا على إمكانية التوظيف الخارجي للأقليات في ضرب استقرار المملكة.

ثالثًا: الاتجاهات المستقبلية لسلوك الأقليات الشيعية في السعودية.

تشكّلت علاقة الأقلية الشيعية والنظام السعودي في مراحلها الأخيرة على ضوء عاملين: الأول هو مطالب الشيعة المصحوبة بفعل احتجاجي نشط، يقابله النظام في العادة باستجابة ضعيفة وأساليب قمع متفاوتة الشدة، ما يدفع بالعلاقة إلى حدود قصوى من التوتر، والعامل الثاني هو سياسة إيرانية حققت موطئ قدم لها في أوساط الأقلية الشيعية، واستثمرت بعض الروابط العقدية والفكرية، والتغيرات الحاصلة في المنطقة، للعمل بكل جهد على تحويل شيعة المملكة إلى “مشروع سياسي”، وأداة طيّعة لتحقيق الأهداف الإيرانية التوسعية. ويتوقف السلوك المستقبلي للشيعة في المملكة على التفاعل بين هذين العاملين، وعلى ضوء ذلك، من المحتمل أن تتجه علاقة الأقلية الشيعية بالنظام نحو خيار العنف والعمل المسلح، وهذا الاتجاه يستبطن خبرة الأقلية بالعلاقة السيئة مع النظام السعودي، وتكرار تجاهله لمطالبها والالتفاف عليها، وكذلك القمع الذي تعرضت له في حالات مختلفة، خاصة بعد “الربيع العربي”، وقيام السلطات بإعدام الشيخ النمر وبعض الناشطين الشيعة، على مرأى ومسمع من أقاربهم؛ في محاولة لوأد الحراك الشيعي إلى الأبد.

ولعل ما يرجّح تطور سلوك الأقلية الشيعية باتجاه العنف، مع ما يمثله ذلك من تهديد استراتيجي للمملكة، هو تزايد عدد المقاتلين الشيعة الموالين لإيران في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، ووجود احتمالات قوية – رغم عدم توفر معلومات محددة- بأن يكون بينهم مقاتلون من الشيعة السعوديين، متأهبون للعودة إلى الديار للقيام بدور ما. إضافة لانتشار السلاح في أوساط الأقلية الشيعية، وتنامي حوادث إطلاق النار من قِبل مسلحين شيعة على الشرطة السعودية((طارق الحميد، ما هو مستقبل المقاتلين الشيعة؟ شوهد في 27 أبريل 2021م على الرابط:www.aawssat.com.   )). وفي هذا السياق، حذّرت قيادات شيعية معتدلة وملتزمة بالحوار مع الحكومة السعودية، من أن الشباب الشيعي المحبط من سياسات الحكومة، والمصاب بخيبة أمل من الحوارات العقيمة مع الحكومة، يتجه أكثر نحو إيران وحزب الله للحصول على توجيهات حول كيفية جعل صوتهم مسموعًا((جمانة فرحان، شيعة السعودية بعيون أمريكا: شكوى من التمييز ومخاوف من تداعيات الإحباط، شوهد في 27 أبريل 2021م على الرابط:www.al.akhbar.com.   )).

وترجّح مؤشرات عدة على الصعيد الإقليمي استمرار العلاقة السعودية بالأقلية الشيعية دون تغيّر حقيقي، واحتمالات كبيرة لاعتماد الأخيرة خيارات عنيفة في التعاطي مع النظام، على غرار ما حدث في السابق، ومن تلك المؤشرات تعزيز إيران وجودها في المنطقة، بعد عودة المفاوضات بين إيران والإدارة الأمريكية، عبر الأوربيين، بخصوص برنامجها النووي، وتزايد فرص رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، ومن ثم زيادة إنفاقها على مشاريعها التوسعية والعسكرية في المنطقة((مستقبل الوجود الإيراني في المنطقة العربية في ظل حكم بايدن، مركز الفكر الاستراتيجي للسياسيات، نشر في 5 ديسمبر 2020م على الرابط: www.fikercenter.com)). إضافة لنفوذها في اليمن الذي تتولى جماعة الحوثي ترسيخه، وبقاء بشار الأسد رئيسًا لسوريا. فضلًا عن الصعوبات الكبيرة التي تعترض إمكانية إنجاز تفاهمات سعودية – إيرانية من خلال الحوار المباشر، حول الملفات الشائكة في المنطقة، وصعوبة غلّ يد إيران عن التدخل في شؤون الأقلية الشيعية في المملكة عن طريق التفاوض.

في المقابل، ثمّة مؤشرات على توجهات يقوم بها النظام السعودي في إطار النهج الإصلاحي لولي العهد محمد بن سلمان، من أجل تجنب انزلاق العلاقة مع الشيعة نحو خيار العنف؛ حيث وصف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المملكة بأنها دولة للسنة والشيعة، وقام مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بتنظيم برامج لتعزيز التعايش المجتمعي((كريستين سميث ديوان، تزايد آمال القومية السعودية في احتواء أوسع للشيعة، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، نشر بتاريخ 3مايو 2018م، على الرابط:https:\\aqsiw.org.)). كما خفّت اللغة المعادية للشيعة في الخطب والدروس الدينية، وجرى تقليص القبضة الأمنية المشددة داخل مناطق الشيعة مقارنة بالسابق، وحدّت السلطات من أنشطة رجال الدين السلفيين “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي يراها الشيعة موجّهة ضدهم((شيعة المنطقة الشرقية.. هكذا تسعى السعودية إلى إغلاق الطريق على إيران، نشر في 22 نوفمبر 2019م على الرابط: www.alhurra.com)). مع ذلك، من غير المؤكد أن تصبّ عملية إضعاف المتشددين السلفين في مصلحة اعتراف كامل بحقوق الشيعة. إضافة لخشية النظام السعودي من أن يؤدي مزيد من الانفتاح على الشيعة إلى ارتفاع سقف مطالبهم، في ظرف أمني واقتصادي دقيق للغاية تمرّ به المملكة؛ بسبب الحرب في اليمن وانخفاض أسعار النفط ((هالة الدوسري، توجيه رسالة إلى الشيعة، شوهد في 27أبريل 2021م على الرابط:carnegieendowment.org.   www.)).

وتباينت ردود فعل الشيعة تجاه الأثر الذي يمكن لإصلاحات ولي العهد أن تتركه على مطالبهم، وعلى طبيعة العلاقة بالنظام، فيرى أحد المفكرين الشيعة البارزين (توفيق السيف) أن نهج ولي العهد هو اعتراف بأن” الهوية الوطنية السعودية هي مظلة لجميع السعوديين، وأن اختلافاتهم العقائدية تقع ضمن التنوّع الذي يثري ثقافة البلاد وحياتها”. وبصفة عامة، لا يوجد اتفاق بين التيارات الشيعية السعودية بشأن إمكانية حدوث تغييرات أساسية تفضي لتحسّن الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وتحقيق لمطالب الشيعة((كريستين سميث ديوان، مرجع سابق.)). إضافة إلى أن التغيرات من هذا النوع تحتاج إلى وقت طويل، وتعتمد على قدرة النظام على الاستجابة للمطالب الأساسية للأقلية الشيعية، وهي المطالب الخاصة بدمجهم في مؤسسات الدولة، مع عدم إغفال ارتباط تلك الاستجابة بطبيعة العلاقات السعودية الإيرانية(( قلق دول الخليج من روابط الشيعة في بلادهم مع شيعة العراق وإيران، شوهد في 12 أبريل 2021م على الرابط:  www.al–monitor.com)).

أمام تصعيد مسلح محتمل تقوم به الأقلية الشيعية بصرف النظر عن دينامياته ونتائجه، سيكون على السعودية إما قبول المطالب الشيعية، بما فيها المطالب الخاصة بالحريات الدينية والمشاركة السياسية، وتعريض نظامها لخطر تمدد شيعي ناعم، اجتماعي وثقافي وسياسي، في ظل بقاء إيران قوة إقليمية تغذي مشاريع الأقليات الشيعية في المنطقة. أو رفض المطالب الشيعية، والاكتفاء باستجابة سطحية كما فعل النظام السعودي في السابق؛ وبالتالي دفع الشيعة للمطالبة بما يشبه الحكم الذاتي كحد أدنى لن يقبلوا بأقل منه((محمد علي جواد تقي، هل جاء دور الشيعة في السعودية؟ شوهد في 12 أبريل 2012م على الرابط:  www.amp.annabaa.org))، ومن الواضح أن خيارًا كهذا سيضع المملكة في قلب اضطرابات داخلية خطيرة، ويعصف باستقرارها؛ لأن الطريق الوحيد للوصول إليه هو العنف.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى