سد النهضة… هل تعطش مصر؟

اقرأ في هذا المقال
  • حاول هذه الورقة تسليط الضوء على موضوعٍ حديث في ميدان ملفِّ سدِّ النهضة الإثيوبي، من خلال تحليل السياسات الخاصَّة به، ألا وهو إخفاق مفاوضات سدِّ النهضة، وتعنُّت المفاوِض الإثيوبي ومراوغته. وبصفة ملفِّ سدِّ النهضة

 

 

 

توطئة:

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على موضوعٍ حديث في ميدان ملفِّ سدِّ النهضة الإثيوبي، من خلال تحليل السياسات الخاصَّة به، ألا وهو إخفاق مفاوضات سدِّ النهضة، وتعنُّت المفاوِض الإثيوبي ومراوغته. وبصفة ملفِّ سدِّ النهضة وقضية الخلاف المثارة حول سنوات مَلء خزَّانه تمثِّل مشكلةً كبرى لمستقبل المياه في مصر، فلقد تناولت الدراسة البدائل السياسية والأدوات الدبلوماسية، التي من الممكن للحكومة المصرية والدول الداعمة لها، أن تتعامل بها مع الأزمة. مع مراعاة الانتقال من مرحلة إلى أخرى بوتيرة سريعة، أي مراعاة عامل الوقت بصفته عنصرًا ضاغطًا، وذلك من خلال إمكانية تنفيذ بديلين من البدائل المتاحة مثلًا في آن واحد، إن أمكن ذلك. يعرض التحليل هذه البدائل، التي تمثَّلت في الوساطة من خلال اللجوء إلى طرف رابع لمحاولة إثناء إثيوبيا عن العودة إلى مائدة المفاوضات، بألَّا يكون الخِيار هو العودة فقط واستنزاف الوقت، بل محاولة اقتراح حلول وسط لا تضرُّ بمصالح الأطراف كافَّةً، مرورًا بتدويل الملفّ، سواءٌ عن طريق المنظَّمات الإقليمية والمنظَّمة الأممية، وأخيرًا الخِيار العسكري وما يمثِّله من حلٍّ نهائي لا مناص من تنفيذه. وتختم الدراسة بمجموعة من التوصيات الموجَّهة إلى صنَّاع القرار في مصر والدول الداعمة لها، سواءٌ على المستوى الدبلوماسي والمائي والعسكري.

وعقب انتهاء اجتماع وزراء الموارد المائية لكلٍّ من مصر والسودان وإثيوبيا، في العاصمة السودانية الخرطوم، أصدرت وزارة الموارد المائية المصرية بيانًا صرَّحت فيه بأنَّ مفاوضات سدِّ النهضة وصلت إلى «طريق مسدود»، نظرًا إلى تعنُّت الجانب الإثيوبي، وعدم قبوله أيًّا من المقترحات التي قدَّمتها مصر للمحافظة على مصالحها المائية[1].

ووَفقًا للوثيقة الموقَّعة في 1 أغسطس 2019، والتي حصل عليها موقع (أديس ستاندر)، ونُشرت بتاريخ 18 سبتمبر 2019 بعنوان (الجوانب الفنِّية لقواعد مَلء خزَّان السدِّ وعملية التشغيل)[2]، فقد رُفض المقترح المصري المطالِب بالحفاظ على متوسِّط التدفُّق الطبيعي للنيل الأزرق -الذي يمثِّل 85% من احتياجات مصر المائية، المقدَّرة بـ55.5 مليار متر مكعَّب- بما يمثِّل نحو 48 مليار متر مكعَّب. ولمَّا كان أقلُّ تدفُّق له قد قُدِّر في عام 1984بنحو 49 مليار متر مكعَّب، وأعلى تدفُّق له قد بلغ 69 مليار متر مكعَّب، فقد طالبت مصر بأن تكون حصَّتها 40 مليار متر مكعَّب، ومن ثَمَّ توجَّب أن تستغرق مدَّة مَلء الخزان ثلاث سنوات. في حين أنَّ إثيوبيا تسعى إلى مَلء بحيرة السدّ، والتي تُقدَّر بنحو 74 مليار متر مكعَّب، وعليه فقد يستغرق مَلؤها سبع سنوات كما صرَّحت إثيوبيا[3]، وهذا ما جعلها ترفض مقترح مدَّة الثلاث سنوات الذي عرضته مصر.

من ناحية أخرى، ركَّزت وسائل إعلام إثيوبية على ترويج حصول إثيوبيا على منظومة الدفاع الجوِّي (سبايدر) الإسرائيلية، والتي جاءت بهدف تحصين سدِّ النهضة الإثيوبي ضدَّ أيِّ محاولات لضربه عسكريًّا، وهو ما عقَّد المشهد وجعل مصر تتوجَّه نحو تدويل الأزمة، من خلال اجتماعات عُقدت على هامش دورة الأمم المتَّحدة الرابعة والسبعين، فضلًا عن إعلان الرئاسة المصرية أنَّ قضية سدِّ النهضة ستكون محورًا أساسيًّا لكلمة الرئيس المصري أمام الجمعية العامَّة للأمم المتَّحدة[4].

لذلك ستتناول هذه الورقة النقاط الخلافية بين مصر وإثيوبيا، والسياسات البديلة للحكومة المصرية في التعامل مع آثار سدِّ النهضة، من خلال عرض الخطوات التي تتَّخذها الدول العربية ومصر لتعزيز أمنها المائي، سواءٌ عن طريق السياسات الحكومية والمشروعات المائية، مع عرض السياسات التي من الممكن أن تتَّبعها مصر لتعويض نقص إمدادات المياه، الناتج عن عملية مَلء خزَّان السدِّ حال شروع الجانب الإثيوبي في ذلك، ومضيه قدمًا نحو سياسته المتعنِّتة. وستتطرَّق الورقة أيضًا إلى البدائل القانونية للتفاوض مع الحكومة الإثيوبية حول نقاط الخلاف فيما يتعلَّق بعملية التخزين، مع الأخذ في الحسبان قدرة مصر على المشاركة في صياغة إطار قانوني لملفِّ سدِّ النهضة الأثيوبي، وما يرتبط بذلك من تحدِّيات أو فرص، وأهمِّ التوصيات التي يمكن تقديمها لصنَّاع القرار في مصر والدول الداعمة لها.

أولًا: الخلاف حول معدَّل التخزين السنوي بين مصر وإثيوبيا:

يسعى الجانب الإثيوبي إلى مَلء بحيرة السدِّ بنحو 74 مليار متر مكعَّب، وهو ما يمثِّل الانتقال بمصر من حالة وُصفت بالندرة المائية إلى حالة يمكن وصفها بالقحط المائي الشديد. ويرجع ذلك إلى أنَّ تخزين هذا الكمِّ الهائل من المياه خلال ثلاث سنوات، سوف يؤدِّي إلى نقص تدفُّقات المياه إلى مصر بمقدار قد يفوق 6 مليارات متر مكعَّب على الأقلِّ سنويًّا. بالإضافة إلى الاضطراب في مواعيد تدفُّق المياه إلى مصر، ما سيؤدِّي إلى إنقاص نصيب الفرد فيها من كمِّية المياه، على الرغم من أنه يقلُّ سنويًّا بالفعل، أضف إلى ذلك احتمالية خسارة مصر لمليون فدَّان زراعي. وعلى الجانب الآخر، تسعى إثيوبيا من خلال تخزين هذا الكمِّ الهائل من المياه إلى تصدير الكهرباء، بقيمة 2 مليار دولار سنويًّا، ولذلك ترفض المقترح المصري الخاصَّ بسنوات المَلء، لما يمثِّله من تأخُّر في عوائد السدِّ الاقتصادية[5].

ثانيًا: البدائل القانونية للتفاوض مع إثيوبيا حول نقاط الخلاف:

طالبت إثيوبيا بالدخول في مفاوضات بهدف وضع إطار قانوني جديد لمياه النيل، وعدَّت ذلك شرطًا أساسيًّا لدخول المفاوضات وفق ترتيبات العمل الجماعي. وبعد عشر سنوات من المفاوضات، جرى التوصُّل إلى إطار قانون جديد، تمثَّل في اتِّفاقية عنتيبي والاتِّفاقية الإطارية، دون الاتِّفاق على بنودهما، وثار الخلاف حول بند التأثير في الأمن المائي لأيِّ دولة من دول حوض النيل[6]. ثم ثار الخلاف بعد ذلك حول سنوات مَلء الخزَّان، الأمر الذي أدَّى إلى تعثُّر المفاوضات، وانتقال مصر إلى بدائل قانونية أخرى سنعرض لها فيما يلي:

أ- الوساطة:

ويُقصد بالوساطة سعي دولة إلى إيجاد حلٍّ لنزاع قائم بين دولتين، عن طريق التفاوض بينهما لتقريب وجهات النظر[7]. فالدولة الوسيطة لا تكتفي بحضور الأطراف كما في المساعي الحميدة، بل تقترح قواعد التفاوض وتتوسَّط مباشرةً، وتجتهد لجعل الدول المعنية تقدِّم تنازلات متبادَلة[8].

إنَّ إخفاق المفاوضات بين مصر وإثيوبيا قد يؤدِّي إلى احتمال أن تلجأ مصر إلى الوساطة، من خلال اللجوء إلى دول ذات ثقل سياسي في الدائرة الإفريقية، أو ثقل اقتصادي في علاقتها بإثيوبيا، مثل دول الخليج (الإمارات والسعودية بالتحديد)، أو ربَّما تلجأ إلى وساطة قُوًى دولية مؤثِّرة، مثل روسيا أو الولايات المتَّحدة الأمريكية[9]. ويمكن القول إنَّ المفاضلة بين الوسطاء الدوليين تمثِّل خطوة في غاية الأهمِّية، لما لها من تأثير مباشر في نتائج المفاوضات الرباعية. لذا، يجب على صانع القرار المصري اختيار أحد الوسطاء الذين يمثِّلون شريكًا استراتيجيًّا لإثيوبيا، لا يمكن للجانب الإثيوبي بأيِّ حال من الأحوال أن يتعنَّت في أثناء التفاوض أمام مواقفه.

ب- تدويل قضية سدِّ النهضة:

لقد أفرد ميثاق الأمم المتَّحدة في فصليه السادس والسابع مهامَّ مجلس الأمن، لتمكينه من الآليات التي تهدف إلى تدعيم دوره في أداء مهامِّه في حفظ السلم والأمن الدوليين، ووضعت تحت تصرُّفه الإمكانيات التي تؤدِّي إلى استيفاء الغرض[10].

ويمثِّل الاتِّجاه إلى مجلس الأمن الدولي فورًا، أحدَ المسارات المطروحة على أجندة التعامل المصري مع ملفِّ سدِّ النهضة، ولقد بدأ تدويل الأزمة بالفعل من خلال عرضها عبر جامعة الدول العربية والسفراء الأجانب في القاهرة. ويُعدُّ عرض القضية على مجلس الأمن الدولي الخطوة الأهمَّ في مسار التعامل مع الأزمة التي سبَّبتها إثيوبيا بانتهاكها لاتِّفاق إعلان المبادئ[11]. ولذلك ففي حال إخفاق جهود التوصُّل إلى اتِّفاق، سيمكن التوجُّه فورًا بشكوى إلى مجلس الأمن. وفي حال عدم اعتراض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من خلال استخدام حقِّ الاعتراض التوقيفي (الفيتو)، فضلًا عن الحصول على الأصوات اللازمة لقبول الشكوى، فإنَّ هذه القضية ستُحوَّل إلى محكمة العدل الدولية للبتِّ فيها، وإصدار حكمها وإرساله مرَّةً أخرى إلى مجلس الأمن لتنفيذه[12]وفي تلك المرحلة ينبغي على الحكومة المصرية إعداد ملفِّ الشكوى بما يتوافق مع بند الشكوى القضائية، نظرًا إلى وجود معيار التفرقة بين النزاعات القانونية والسياسية. فقد ينظر البعض إلى النزاع على أنه تعارض للمصالح فقط، غير أنَّ الصحيح أن ينظر إليه من حيث موضوعه وأطرافه ونطاقه، لتحديد كونه نزاعًا سياسيًّا أم قانونيًّا، فالنزاعات تتدرَّج من داخلية أو محلِّية، إلى إقليمية أو دولية، ولذلك كان لزامًا التطرُّق إلى الوسيلة المستخدمة في النزاع، مثل التهديد وحرمان الطرف الآخر من ميزة قانونية يتمتَّع بها، كاستخدام القوَّة المسلَّحة[13].

ج- الخِيار العسكري بصفته أحد البدائل القانونية:

قد يرى البعض أنَّ الخِيار العسكري لا يُعدُّ من البدائل القانونية، نظرًا إلى احتوائه على عنصر القوَّة والعنف من ناحية، وأيضًا لحظر استخدام القوَّة في العلاقات الدولية كما نصَّت عليه الفقرة الرابعة من المادَّة الثانية لميثاق الأمم المتَّحدة: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوَّة…» من ناحية أخرى[14]. بيد أنَّ ثمَّة حالاتٍ تُعدُّ مسوِّغًا هامًّا لاستخدام القوَّة، ربَّما تأكَّدت مشروعيتها بموجب أحكام القانون الدولي العامّ، وهو ما يضفي عليها الصفة القانونية، خاصَّةً حينما يتعلَّق الأمر بحالة التدخُّل الإنساني أو تقرير مصير الشعوب أو الإبادة الجماعية، وهي العناصر التي تتوافر في قضية سدِّ النهضة، لما تمثِّله المياه من عنصر يتعلَّق ببقاء المصريين وبقاء دولتهم[15]. إنَّ حقَّ الدفاع الشرعي مقرَّر للأفراد والدول بضوابط قانونية نظَّمتها النظم القانونية، ففي قضية نيكارجوا 1986، أكَّدت محكمة العدل الدولية أنَّ حقَّ الدفاع الشرعي حقٌّ طبيعي في القانون الدولي[16]. وتُعدُّ المادَّة 51 من ميثاق الأمم المتَّحدة بمنزلة الأساس القانوني لشرعية استخدام القوَّة في العلاقات الدولية، فلقد عُدَّت تلك المادَّة -وَفقًا للقانونيين- الاستثناءَ الوارد على حظر استخدام القوَّة في العلاقات الدولية، الذي نصَّت عليه المادَّة الثانية من الميثاق في فقرتها الرابعة. ويُعرَّف الدفاع الشرعي بأنه «القيام بتصرُّف غير مشروع ردًّا على تصرُّف غير مشروع وقع ابتداءً، وفي كلتا الحالتين، الفعل وردِّ الفعل، يتمُّ استخدام القوَّة، ويستهدف الدفاع الشرعي دفع أو ردَّ الخطر الجسيم من قبل المعتدي، والعمل على إيقافه، لحماية أمن الدولة وحقوقها الأساسية»[17]. ولقد حدَّدت المادَّة 51 الشروط الواجب توافرها لاستخدام القوَّة في العلاقات الدولية، ونجد أنَّ البعض منها قد ينطبق على حالة سدِّ النهضة، والتي تتمثَّل وَفقًا للمادَّة في: 1- درجة الجسامة. 2- المساس بأحد الحقوق الأساسية، مثل حقِّ السلامة الإقليمية[18]. وبالنظر إلى ما تمثِّله المخاطر المتوقَّعة من جرَّاء تلك القضية، فنجد أنها قد تكون على درجة عالية من الجسامة، فضلًا عن أنها ربَّما تمسُّ أحد أهمِّ الحقوق الأساسية للإنسان، وهو الحقُّ في الحياة. وقد تُطرح التساؤلات حول متى تُستخدم القوَّة ضدَّ السلامة الإقليمية، وما المواصفات والعناصر المحدَّدة لها، فلا نجد لها تعريفًا جامعًا مانعًا في القانون الدولي، ولكن أُشيرَ إليها في المشاريع المقدَّمة إلى اللجنة الخاصَّة للأمم المتَّحدة عام 1960 على النحو التالي:

1- إضعاف الإقليم أو التغيُّر في الحدود.

2- إجراء التغيير في خطوط الحدود المعلنة دوليًّا.

3- محاولة تغيير الحكومة في تلك الدولة.

4- التدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة.

5- إلحاق الأذى بالإقليم أو اقتطاع جزء منه[19].

وخلاصة القول في شأن ما عُرِض، أنه يمكن القول بأنَّ توجيه ضربة عسكرية إلى سدِّ النهضة الإثيوبي، يُعدُّ -وَفقًا لأحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتَّحدة- من قبيل الأعمال القانونية، لكونه حقًّا من حقوق الدفاع الشرعي. وبات الحديث الآن عن التوقُّع الإثيوبي بشأن هذه الضربة، وتحصين السدِّ بمنظومة الدفاع الجوِّي الإسرائيلية الصنع (سبايدر)، وهو ما يُعدُّ -إن صحَّ الزعم- اعترافًا يقينيًّا من قبل إثيوبيا بمشروعية العمل العسكري ضدَّ السدّ. ووَفقًا لموقع (ديبكا) الإسرائيلي، الذي ذكر أنَّ إسرائيل زوَّدت إثيوبيا بالمنظومة الدفاعية سالفة الذكر، فلقد أشار الخبير العسكري إلى أنَّ الجانب المصري لا يُعدُّ مصدرًا موثوقًا به، وتحدَّث عن أنه في حال امتلاك إثيوبيا لتلك المنظومة، فإنه سيكون لها من القدرات والإمكانيات ما يمكِّنها من توجيه ضربة عسكرية إلى السدّ، ومن حيث الحديث عن منظومة (سبايدر) لدى إثيوبيا من منظومات أخرى، لأنَّ طائرات الرافال لا تحتاج إلى تشغيل رادارها لتجنُّب أجهزة الرصد[20]. وقد أشار رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في آخر تصريح له إلى احتمال نشوب حرب مع مصر، وقال: «إذا كانت هناك حاجة إلى الحرب مع مصر بسبب سدِّ النهضة، فنحن مستعدُّون لحشد ملايين الأشخاص، ولكنَّ المفاوضات هي التي يمكن أن تحلَّ الجمود الحالي»[21] ومثل ذلك التصريح قد يعزِّز من احتمالية تحقُّق الخِيار العسكري.

[popup_anything id=”2673″]

ثالثًا: خطوات تعزيز الأمن المائي العربي والمصري:

أ- من المستحسن العمل على تحسين طريقة تخزين المياه، والسعي إلى إيصالها إلى مستخدمي مياه الريّ، إذ إنَّ عملية تخزين كمِّيات المياه السطحية المخصَّصة للزراعة في شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، تؤدِّي إلى توفير كمِّيات كبيرة من المياه، فضلًا عن تحقيق الرفاهية من خلال جني مكاسب تُقدَّر بنحو 10 مليارات دولار سنويًّا. ولكي يحصل ذلك، لا بدَّ من إقامة بنية تحتية للمياه وخدمات صرف صحِّي جديدة، بديلة للبنية والخدمات الحالية المتهالكة[22].

ب- إجراء توسُّعات في مجال استعمال المياه غير التقليدية، والتي تتمثَّل في مياه البحر المحلَّاة، ومياه الصرف الصحِّي والصرف الزراعي المعالجة. وتُعدُّ الدول العربية من أكبر الدول في العالم في مجال إنتاج مياه التحلية، بمقدار بلغ 3 مليارات متر مكعَّب في السنة[23]. إنَّ تحلية مياه البحر في ظلِّ العجز المائي المتوقَّع سيصبح بديلًا استراتيجيًّا للوطن العربي في المستقبل، لذلك يُعدُّ الاهتمام بهذه التقنية من خلال البحث العلمي والتشغيل والتصنيع لخفض تكاليف الإنتاج، الخِيارَ الأمثل لمواجهة مشكلة العجز المائي[24]. أمَّا مياه الصرف الصحِّي المعالجة، والتي بلغت نحو 10 مليارات متر مكعَّب في الدول العربية، فتُعدُّ مصدرًا مائيًّا متجدِّدًا، لذلك يجب العمل على بذل الجهود الفنِّية والتقنية لتوطين استعمالها، سواءٌ في الشحن الصناعي للمياه الجوفية وفي الزراعة، بهدف تحسين نوعيتها. ولتحقيق ذلك، لا بدَّ من التغلُّب على المعوِّقات التي تحدُّ من استخدامها[25].

ج- العمل على ترشيد استخدام المياه في مصر والوطن العربي، إذ تمثِّل مشكلة الفقر المائي الشديد في الوطن العربي -خاصَّةً في مصر- حجر عثرة في طريق التنمية الاقتصادية، الأمر الذي يتطلَّب إعادة النظر في السياسات الخاصَّة بترشيد استخدام المياه. وبالنظر إلى إقامة دول مثل إثيوبيا للسدود، فإنه بات من الضروري مقابلة هذه الخطوة بحزمة من السياسات المائية الترشيدية التي تقلِّل من أثر إقامة تلك السدود[26].

خاتمة:

جرت المفاوضات في ظلِّ ظروف غير ملائمة للمفاوض المصري، نظرًا إلى انشغال مصر بحدثَي يناير 2011 ويونيو 2013، في الوقت الذي استغلَّت إثيوبيا فيه ذلك، وتعدَّدت جهات إدارة الأزمة في مصر، مع غياب الحدِّ الأدنى من التنسيق بين تلك الجهات.

وعليه، يمكن الخروج بمجموعة من المقترحات في سلسلة المراحل التي أُشيرَ إليها بوصفها بدائل لعملية المفاوضات الثلاثية، إذ تبدأ مرحلة وما إن يَثبُت عدم جدواها حتى يُنتقل إلى مرحلة أخرى، من خلال ما عُرض فيما سبق من وساطة وتدويل للقضية، أو حتى الانتهاء بتوجيه ضربة عسكرية إلى السدّ. وإلى جانب ما تقدَّم، يمكن للحكومة المصرية أن تنشط دبلوماسيًّا من خلال النقاط التالية:

1- من الممكن أن تلجأ مصر إلى التدخُّل في المصالحة الصومالية، بما يمثِّله من ورقة ضغط على إثيوبيا، التي تسعى إلى الاستفادة من الموانئ الصومالية على خليج عدن.

2-العمل على محاولة حمل دول الخليج العربي -من خلال وجودها الاقتصادي الفاعل في إثيوبيا- على الضغط على إثيوبيا من أجل الموافقة على مقترحات مصر. فالسعودية تُعدُّ أكبر شريك تجاري لإثيوبيا، إذ بلغت استثماراتها في إثيوبيا نحو 13 مليار دولار، أمَّا الإمارات فهي تؤمِّن احتياجاتها من اللحوم المذبوحة من إثيوبيا، وتأتي الكويت أكبرَ مستوعب للعمالة الإثيوبية، بما لا يقلُّ عن 100 ألف عامل إثيوبي.

3- الضغط على الدول التي قد تكون داعمة لإثيوبيا مثل إسرائيل وقطر، من خلال التهديد بمراجعة الاتِّفاقيات السياسية والاقتصادية، وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، واستخدام كلِّ الأوراق التي لدى مصر للضغط على تلك الدول، ومن ثَمَّ الضغط على إثيوبيا[27].

وخلاصة القول قد تلجأ مصر إلى الخيار العسكري بحجة الدفاع الشرعي وفق القانون الدولي للأزمة التي تهدد أمنها القومي، في ظلِّ تعنُّت الجانب الإثيوبي ومراوغته، وإقدامه على خطوة من شأنها أن تهدِّد أمن دول حوض النيل، خاصَّةً مصر، فضلًا عن ضرب سبل التعاون بين دول حوض النيل، التي ربطها منذ مئات السنين ذلك النهر الخالد، بعرض الحائط.

الممصادر والمراجع:

[1] فشل مفاوضات سدِّ النهضة بين مصر وإثيوبيا، Franch 24،  (05/10/2019)، على الرابط: https://2u.pw/jVar3

[2] “Technical aspects of the agreement on the Filling and operation of the Grand Ethiopian Renaissance Dam (GERD)”, submitted on 1st of ‘August 2019″, ETHIOPIA REJECTS EGYPT’S PROPOSAL ON THE FILLING, OPERATION OF GRAND DAM, Addis Standard, September 18, 2019.

[3] المحبوب أبو علي، “سدُّ النهضة بين الرؤية الإثيوبية والمأزق المصري“، 1 أكتوبر 2019، المعهد المصري للدراسات.

[4] أزمة سدِّ النهضة تصل إلى “الأمم المتَّحدة” (22/09/2019)، إندبندنت عربية، على الرابط:http://bit.ly/2B5rQnm

[5] أيمن شبانة، “التقرير الاستراتيجي الإفريقي“، (الإصدار الحادي عشر، معهد البحوث والدراسات الإفريقية)، جامعة القاهرة، 2017.

[6] صبحي علي قنصوة، “المطالب الإثيوبية في مياه النيل وأثرها على الأمن المائي المصري“، (معهد البحوث والدراسات الإفريقية)، جامعة القاهرة.

[7] أحمد محمد رفعت، “القانون الدولي العامّ“، مكتبة خوارزم، الإسكندرية، 2002.

[8] يخلف ثوري، “تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية“، مجلَّة الاجتهاد القانونية والاقتصادية، عدد2، 2018.

[9]اتِّفاق الخرطوم وضياع حقوق المصريين على أبواب سدِّ النهضة“، مركز هردو، القاهرة 2015.

[10] د. خلفان كريم، “مجلس الأمن وتحدِّيات السلم والأمن العالميين“، (دراسة على ضوء مقترحات إصلاح منظَّمة الأمم المتَّحدة)، مجلَّة المفكِّر، العدد العاشر، كلِّية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر بسكرة.

[11] محمد حسن عامر،” التدويل والوساطة.. خِيارات مصر لمواجهة تعنُّت إثيوبيا“، الوطن نيوز، بتاريخ 6 أكتوبر 2019، على الرابط التالي:

https://m.elwatannews.com/news/details/4367299

[12] ريم الششتاوي، “ما هي الخِيارات المصرية للتعامل مع أزمة سدِّ النهضة“، بتاريخ 8 أكتوبر 2019، العربية. الرابط: http://bit.ly/32nadf3

[13] نوري عبد الرحمان، “دور مجلس الأمن في حلِّ النزاعات الدولية بين النصِّ والتفعيل“، رسالة ماجستير، كلِّية الحقوق، جامعة الجزائر، 2014.

[14]  “ميثاق الأمم المتَّحدة“، مادة 2 فقرة 4.

[15] تلمات موراد، هروج لهلال، “استخدام القوَّة في العلاقات الدولية (بين نصوص ميثاق الأمم المتَّحدة وواقع الممارسة الدولية)”،رسالة ماجستير، كلِّية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الرحمان ميرة- بجاية، 2014.

[16] د. عبد الله الأشعل، “مقدِّمة في القانون الدولي المعاصر“، الطبعة الثالثة، القاهرة، 2006.

[17] جويلي سعد سالم، “استخدام القوَّة المسلَّحة في القانون الدولي في زمن السلم“، (المجلَّة القانونية الاقتصادية، كلِّية الحقوق، جامعة الزقازيق)، العدد الخامس، 1995، ص49.

[18] حاج محمد صالح، “حدود استخدام القوة في التنظيم الدولي“، رسالة ماجستير، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر – تلمسان – 2015.

[19] مرزق عبد القادر،” استخدام القوة في إطار القانون الدولي الإنساني“، ( رسالة ماجستير، كلية الحقوق بن عكنون، جامعة الجزائر)، 2012.

[20]  : مقاتلة “رافال” المصرية تستطيع خداع منظومة “سبايدر” الإسرائيلية في إثيوبيا، خبير عسكري لموقع روسيا اليوم.

[21]  http://bit.ly/35WfE60 عربية، الرابط: RT “مصر تعرب عن صدمتها إزاء تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي”، (22/10/2019).

[22] ما بعد ندرة المياه، (الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، مجموعة البنك الدولي، 2017.

[23] د. محمد منهل الزغبي، وآخرون، “استعمال مياه الصرف الصحِّي المعالجة في الزراعة“، الهيئة العامَّة للبحوث الزراعية، سوريا.

[24] لميس جابر، “تحلية المياه في الوطن العربي.. تجارِب رائدة“، العين الإخبارية. على الرباط التالي: http://bit.ly/2po3YbW

 [25] “الاستراتيجية العربية للأمن المائي في الوطن العربي لمواجهة التحدِّيات والمتطلَّبات المستقبلية للتنمية المستدامة” 2010-2030، (المجلس الوزاري العربي للمياه)، جامعة الدول العربية.

[26] عبد المالك عودة، “السياسة المصرية ومياه النيل في القرن العشرين“، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، (القاهرة 1999، ص 60-61).

[27] د. أيمن شبانة، “التقرير الاستراتيجي الإفريقي“، مرجع سبق ذكره.

 

محمد ثابت

باحث في العلوم السياسية والسياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى