السياسة السعودية تجاه الحوثيين قبل عاصفة الحزم.. قراءة في المواقف والتحولات

اقرأ في هذا المقال
  • تحاول الورقة تقديم مقاربة موضوعية للسياسة السعودية تجاه الحوثيين في الأطوار المختلفة التي مروا بها قبل عملية عاصفة الحزم، وذلك منذ النشأة وحتى الانقلاب. وتطرح الورقة، لدواع بحثية، فرضية تقول بأن الرياض تعاونت -منذ ما بعد الثورة الشعبية السلمية- مع جماعة الحوثي؛ للقيام بالانقلاب في سبتمبر/أيلول (2014)، وضرب القوى الثورية في اليمن، والإسلاميين على وجه التحديد

نشأت الحوثية كحركة مسلحة في قلب الجغرافيا الحدودية اليمنية التي تشكل للمملكة العربية السعودية مجالا حيويا ذا أهمية؛ خاصة بالاعتبارات الجيوستراتيجية.

وعلى مقربة من البؤرة الطائفية الملتهبة التي تمثلها الإسماعيلية في نجران جنوب السعودية، شحذ الحوثيون خطابهم الطائفي السياسي، وأحيوا تقاليد العنف والتمرد، واكتسبوا رويدا رويدا عوامل قوة محلية رافدة.

كما مدوا يد طهران إليهم، في وقت كان كل شيء في المنطقة ينذر بمرحلة من التمدد الإيراني، عبر وكلاء محليين بطبيعة الحال، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في مارس/آذار (2003)، بل منذ إرهاصاته الأولى التي تعود إلى ما قبل عام الاحتلال بسنوات.

لقد فعل الحوثيون كل ذلك ببطء وتدرج وأناة، فأين كانت السعودية؟

في إطار ذلك السؤال تحاول الورقة تقديم مقاربة موضوعية للسياسة السعودية تجاه الحوثيين في الأطوار المختلفة التي مروا بها قبل عملية عاصفة الحزم، وذلك منذ النشأة وحتى الانقلاب. ومع التنويه بالمعطيات السابق الإشارة إليها، تطرح الورقة، لدواع بحثية، فرضية تقول بأن الرياض تعاونت -منذ ما بعد الثورة الشعبية السلمية- مع جماعة الحوثي؛ للقيام بالانقلاب في سبتمبر/أيلول (2014)، وضرب القوى الثورية في اليمن، والإسلاميين على وجه التحديد.

وتنقسم الورقة إلى خمسة محاور تحليلية هي:

أولا: السياسة السعودية وثقل النفوذ في اليمن؛ استجابة تقليدية لتحدٍّ استثنائي.

ثانيا: السعودية والحرب السادسة؛ من اللافعل إلى الفعل المقيد.

ثالثا: السعودية والحوثيون بعد الثورة السلمية؛ التأرجح بين العداء والاحتواء.

رابعا: التمدد الحوثي باتجاه عمران؛ أين كانت الرياض وما حقيقة موقفها؟

خامسا: الغواية السياسية؛ السعودية والحوثيون قبيل سقوط صنعاء.

أولا: السياسة السعودية وثقل النفوذ في اليمن؛ استجابة تقليدية لتحدٍ غير تقليدي

لعقودٍ خلت ظلت الزيدية السياسية ممثلة ببعض شخوصها جزءا من نظام الرعاية السعودي متعدد الأوجه في اليمن، جنبا إلى جنب مع طيف واسع وغير متجانس من الإسلاميين والوطنيين الذين حظوا بالرعاية ذاتها، في إطار لعبة توازنات سعودية حرجة، أعقبت انتهاء الحرب اليمنية بين الجمهوريين والملكيين (1962- 1968)، ثم المصالحة الداخلية، واعتراف الرياض بالنظام الجمهوري شمال اليمن (سابقا) بحلول يوليو/ تموز (1970).

في موازاة ذلك، أرست المملكة ترتيبات خاصة في محافظة صعدة المتاخمة لحدودها الجنوبية، تمثلت في زرع السلفية الوهابية كعامل ضبط ديني في بيئة زيدية المنزع، فكانت الزعامة الدينية المحلية للشيخ مقبل الوادعي (1933- 2001) وأتباعه السلفيين في صعدة علامة على ذلك الضبط، بأكثر مما هي علامة على توجه سعودي مضمر لنشر الوهابية في صعدة بالخصم من الوجود التاريخي للزيدية.

والحال أن السعودية لم تسع وراء تهشيم الزيدية في معقلها التاريخي الأكثر حيوية، أو تفكيكها كما يجهد الحوثيون للقول في معرض ادعاء مظلومية تاريخية ودينية زائفة[1]، وإنما عملت في حدود نظرة أمنية تكاد تكون صرفة، وضيقة الأفق أيضا، على خلق جيب وهابي عازل، يمنع التقاء الزيدية في صعدة بالإسماعيلية في نجران (جنوب غرب السعودية) [2]، وهما أقليتان تنتميان إلى الجذر العقدي نفسه (التشيع)، ومن شأن التقائهما أن يتسبب بمتاعب لا حصر لها للسعودية.

كانت السعودية وفية للعبة التوازنات الحرجة تلك، وعلى يقين من أن أسلوب الرعاية المتعدد هو الأنجح لإدارة التباينات اليمنية وصنع النفوذ المستدام[3]، وحتى بعد أن اتضحت صلات بعض أقطاب الزيدية ورموزها في اليمن بنظام الثورة الإسلامية في إيران منذ العام (1979)، وتوطدت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، كاشفة عن تغلغل إيراني متزايد في بعض أوساط الزيدية والوسط الهاشمي على وجه التحديد، وقفت السعودية دون إستراتيجية مضادة لتطويق التغلغل الإيراني المبكر، وواصلت ثقتها بفاعلية نظام الرعاية والنفوذ التقليدي في احتواء المخاطر المحتملة للزيدية السياسية، مع ميلها إلى التقليل من تلك المخاطر[4]، وهو ميل تفسره على الأرجح نظرة السعودية غير الودية للنظام الجمهوري، وموقفها السلبي من مسألة الوحدة اليمنية.

يرجع التعاطي السعودي مع الحوثيين كخطر محتمل إلى السنوات القليلة التي سبقت حربهم الأولى مع القوات الحكومية اليمنية في يونيو/حزيران (2004)، ويبدو من الصعب، أمام توالي الأحداث التي قادت إلى الحرب الأولى في صعدة، افتراض أن الرياض ظلت دون مستوى إدراك المخاطر التي تمثلها الحوثية في تلك البيئة بالغة الحساسية للأمن القومي السعودي، غير أنها -وكما هو واضح من سلوكها في تلك المرحلة- افتقرت إلى الرؤية الإستراتيجية الشمولية للحوثيين بوصفهم خطرا إيرانيا مباشرا، وعدّتهم مجرد جماعة يمنية محلية قد تتسبب لها ببعض المشكلات والمتاعب الحدودية في أسوأ الأحوال.

لقد أخفقت الرياض في استكشاف دلالة وعمق التحولات الحاصلة في دائرة الزيدية السياسية وارتباطاتها الإيرانية، واتجهت نحو تدابير عكست ذلك الإخفاق المبكر، حيث شرعت في سبتمبر/أيلول (2003) ببناء جدار إسمنتي عازل مزود بأنظمة رصد إلكترونية على الحدود السعودية اليمنية البالغة (2400) كم، بهدف مواجهة الأخطار القادمة من اليمن[5]. وقد ظهر فيما بعد أن تلك السياسات كانت مضيعة للوقت، وكلفت الأمن القومي السعودي أثمانا باهظة.

مع نشوب الحرب الثانية مارس/آذار (2005) بين النظام اليمني وجماعة الحوثي المتمردة، ثم توالي الحربين الثالثة والرابعة، بدأت السعودية بتقديم أشكال مختلفة من الدعم للنظام اليمني في حروبه ضد جماعة الحوثي المتمردة، وتشجيع التيار القبلي الموالي لها على الانخراط ومساندة النظام، لكنها نأت بنفسها عن مواجهة الحوثيين بصورة مباشرة، فزيادة على الرغبة في تجنب المواجهات خارج حدودها، وربما الوثوق في قدرة النظام اليمني على إخماد تمرد الحوثيين، كان لدى الرياض أسباب أخرى وحسابات معقدة تمنعها من التدخل المباشر في الحرب مع الحوثيين، أهمها: أن تدخلها لن يكون مرحبا به أمريكيا في حين هي تخوض “حربا” أخرى، أكثر أهمية من وجهة النظر الأمريكية، ضد “الإرهاب”.

ثانيا: السعودية والحرب السادسة؛ من اللافعل إلى الفعل المقيد

في أغسطس/آب (2009) أعلن الرئيس السابق صالح أن التعامل مع الحوثيين سيكون مرة واحدة وإلى الأبد[6]، مدشنا بذلك الحرب السادسة التي أُطلق عليها اسم عملية الأرض المحروقة. ويستبعد البعض أن تكون الحكومة اليمنية قد بدأت العمليات العسكرية ضد الحوثيين “من دون التشاور مع الرياض والجهات الإقليمية الفاعلة الأخرى”[7]. وفي الواقع، بدت السعودية متأهبة تماما للمشاركة في حرب أرادتها والنظام اليمني أن تكون حاسمة ونهائية، وبقيام الحوثيين بعملية توغل محدودة داخل الحدود نجم عنها مقتل جندي من حرس الحدود السعودي، شرعت الرياض بقصف مواقع الحوثيين في نوفمبر/تشرين الثاني (2009)، لتنهي بذلك قرابة عقد كامل من سياسة النأي بالنفس.

تمثل الحرب السادسة نقطة تحول نوعية في التعاطي السعودي مع الجماعة الحوثية، ويمكن إرجاع المشاركة السعودية المباشرة فيها إلى العوامل الآتية:

اكتساب الحوثيين قدرات عسكرية وقتالية متزايدة خلال الحروب السابقة، وتمكنهم من توسيع نطاق سيطرتهم ليشمل أجزاء واسعة من محافظة صعدة، وأجزاء من المحافظات المجاورة كحجة والجوف، خاصة منذ العام (2008). إضافة لتنامي علاقة الحوثيين بإيران، بما في ذلك حصولهم على أسلحة مهربة عبر ميناء عصب الإرتيري[8].

سياسة المحاور الإقليمية التي نجمت عن الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان في أبريل/نيسان (2006)، وانقسام المنطقة على إثرها إلى محورين، “محور الممانعة” و”محور الاعتدال”، وقد أدانت دول “الاعتدال” العربية وفي مقدمتها السعودية الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، غير أنها نددت بسعي حزب الله إلى توريط لبنان في الحروب لحسابات غير وطنية، وفي سياق ذلك بدأت تلوح للسعودية مخاطر النوايا الإيرانية لإيجاد وضع على حدودها الجنوبية شبيه بوضع حزب الله في جنوب لبنان[9]

خشية السعودية من مواصلة قطر استغلال الحرب بين الحكومة اليمنية والحوثيين لتحقيق النفوذ؛ حيث كانت الحرب الرابعة قد انتهت بوساطة قطرية ناجحة لم تلق ترحيبا سعوديا.

كانت السعودية قد نجحت في تضييق الخناق على تنظيم القاعدة داخل حدودها، وأعلن التنظيم في يناير/كانون الثاني (2009) نقل أنشطة فرعه السعودي إلى اليمن، وتشكيل ما سمي بتنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب.

انتهت الحرب السادسة أغسطس/آب (2009)- فبراير/ شباط (2010) بانسحاب الحوثيين من أراض سعودية كانوا قد سيطروا عليها، منها جبل الدخان الإستراتيجي المطل على قرية الخوبة السعودية، كما تراجعوا عن بعض المناطق شمال صعدة، لكنهم نجحوا في تكريس وجودهم العسكري وحافظوا على حاضنتهم الاجتماعية، فيما خرجت السعودية مثخنة بجراح نالت بعض الشيء من هيبتها [10]،

وبخيبة أمل كبيرة من حلفائها القبليين الذين كان أداؤهم في الحرب “متواضعا”، وبدلا “من حماية أمن وسلامة المملكة”، استعملوا الحرب “كوسيلة للابتزاز والحصول على الأموال”[11].

أما النظام اليمني فلم يكن بنظر الرياض بمستوى المعركة، وحاول استخدام التدخل السعودي لتصفية حسابات داخلية[12]، كما بدا “صالح” شريكا غير موثوق في الحرب على الإرهاب التي تعد السعودية رأس حربتها الإقليمية[13]. وهكذا لم تنته الحرب التي من المفترض أنها جاءت لتجسد تحديات مشتركة بين المملكة والنظام اليمني، إلا وقد زرعت بذور الشك بنظام الرئيس صالح، ودفعت علاقة السعودية بالنخبة التقليدية اليمنية نحو المجهول.

راح نظام صالح يغرق في أزماته السياسية والاقتصادية الداخلية دون أن تمد له الرياض يد العون. وعلى وقع سجالاته الساخنة مع المعارضة حول قضايا التعديل الدستوري والانتخابات والإصلاح الديمقراطي، تشكل مجال مدني وحقوقي رحب ولج إليه الحوثيون من باب “مظلمة صعدة” و”العدوان الغاشم” الذي تعرضت له. واللافت أن إدماج “قضية صعدة” في الأجندة السياسية والحقوقية التي شغلت الفضاء العام اليمني عقب الحرب السادسة حظي بقبول نخبوي معتبر، فجرى وضع هذه القضية على صعيد واحد مع القضية الجنوبية، وكان ذلك مقدمة لتطبيع وجود الحوثيين في المجال الوطني العام، والبدء بالنظر إليهم، مع قليل من التحفظات، كجزء من عملية كفاح عريضة لتحقيق وعود الإصلاح الديمقراطي والتغيير.

وبطبيعة الحال، لم يعد بمقدور السعودية استهداف الحوثيين عسكريا في وضع كهذا، حتى لو أرادت ذلك، كما لم يعد بإمكانها تطوير مقاربة ناجزة بديلة عن الحرب لاحتواء خطرهم في ظل افتقارها لحليف داخلي موثوق، وانكباب “المعارضة” على قضايا الإصلاح الديمقراطي ومقارعتها نظام صالح، لقد أصبح الحوثيون في مأمن، وغدوا جزءا من حالة سياسية سائلة لم يكن من السهل التعاطي معها، ونتيجة لذلك عادت السعودية أدراجها إلى مربع اللافعل الذي كانت تقف فيها قبل الحرب السادسة.

ثالثا: الموقف السعودي من الحوثيين بعد الثورة السلمية؛ تأرجح بين العداء والاحتواء

قدمت الثورة السلمية فرصة نادرة للحوثيين كي يواصلوا تماهيهم مع الحالة السياسية المتشكلة ضد نظام صالح، فبات لهم موقع لافت في المشهد الثوري، وصوت مرتفع حاولوا من خلاله توجيه سهام الثورة نحو خصومهم العقائديين والسياسيين في الداخل، وعارضوا الدور السياسي للمملكة الساعي لجمع الفرقاء في إطار المبادرة الخليجية التي شن الحوثيون ضدها باسم الثورة حربا كلامية لا هوادة فيها، فقد عدّوها مؤامرة سعودية ماكرة لإخراجهم من دائرة التأثير في العملية السياسية ووضعهم خارج الترتيبات الانتقالية[14]، إضافة لتعارض المبادرة مع أهداف الطرف الإقليمي الداعم لهم. وبالطريقة نفسها التي تقمصت بها جماعة الحوثي رداء الثورة الشعبية، اتجهت للاستحواذ السياسي على الزيدية، فأنجزت في فبراير/شباط (2012م) مع عدد من علماء الزيدية ما سمي بالوثيقة الثقافية والفكرية التي اعترفت بتمثيلية الحركة الحوثية للمذهب الزيدي، وعمليا شكل ذلك التطور عنصرا مهما في نمو قوة الجماعة السياسية والمعنوية، وربما كان المبرر لحصولها لاحقا على نسبة تمثيل مرتفعة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل (35 من أصل 565 عضوا ).

من المرجح أن تكون أحداث الثورة السلمية المتسارعة قد لعبت دورا في تشتيت الرؤية السعودية للخطر الذي تمثله الجماعة الحوثية، فأمام أولوية تطويق الثورة تحسبا لتداعياتها السلبية المحتملة على المملكة تضاءل الشعور بخطر الحوثيين، لتبدأ السياسة السعودية بالعمل على مقاربة جديدة تقوم على إمكانية إحداث فصل بين جماعة الحوثي وإيران، أو سحب الجماعة تدريجيا من دائرة النفوذ الإيراني، وتشجيعها على تعديل سلوكها والوقوف في موقع محايد، وقد تطلب ذلك إزالة حالة العداء المتحكمة في العلاقة معها منذ الحرب السادسة، وإبداء حسن النوايا تجاهها. وتكشف المراسلات التي دارت بين وزارة الخارجية في الرياض والسفارة السعودية في صنعاء بتاريخ مارس/آذار (2012) عن المأزق الذي واجهته السياسة السعودية في اليمن خلال تلك المرحلة[15]، واتجاهها نحو تقليص نظام الرعاية المالية[16]، بعد أن اعتمدت لعقود على بناء شبكات نفوذ سياسية واجتماعية ودينية تبين في نهاية المطاف أنها معطوبة وغير فاعلة. كما تعين على المملكة العمل من داخل مجال معاد يعج بالقوى المناوئة، وتفتقر فيه الرياض إلى حلفاء موثوقين، ومن ثم يتطلب إيقاف التمدد الإيراني في اليمن كهدف إستراتيجي للمملكة اتباع دبلوماسية مرنة للاحتواء تشمل الحوثيين، وتساعد في تجنب المزيد من الاستعداء الداخلي[17].

من الواضح أيضا أن السياسات الأيديولوجية التي انتهجتها السعودية ضد الإخوان المسلمين بعد نجاحهم في الوصول إلى السلطة في مصر يونيو/حزيران (2012)، وإسقاطاتها الضمنية على حالة التجمع اليمني للإصلاح في اليمن رغم التباين بين الحالتين، قد أكملت لدى المملكة حلقة عدم الثقة بالحلفاء التقليديين، ومن ثم لم يعد نهج مواصلة العداء للحوثيين ينسجم مع الأولويات الإستراتيجية الجديدة، المتمثلة في إيقاف التمدد الإيراني في اليمن، جنبا إلى جنب مع تطويق الإسلام السياسي ومنعه من استثمار مناخ الثورات في مصلحته.

ترجمت السعودية تلك التغيرات في سياستها تجاه الحوثيين، إلى حالة من الإصرار على إدماجهم في مسار الانتقال السياسي القائم على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مع إعفائهم من تقديم ضمانات بالالتزام بقواعد اللعبة السياسية، ورغم استمرار الحوثيين في معاداة السعودية، ومهاجمة دورها السياسي في العلن، أيدت الرياض دون تحفظ مساعي المبعوث الأممي لليمن جمال بن عمر، والسفير الأمريكي جيرالد فيرستاين، لإشراك الحوثيين في أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل (18 مارس/آذار 2013- 25 يناير/كانون الثاني 2014)، وهي المساعي التي تسببت في تأخير انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في موعده المقرر قبل نهاية العام (2012) نظرا للمفاوضات الشاقة لإقناع الحوثيين، وكذلك الحراك الجنوبي، بالمشاركة في الحوار[18]، وفتحت أمامهم الباب لفرض شروطهم، وأهمها: اعتذار السلطة عن حروب صعدة واعتبار قتلى الحوثيين في تلك الحروب شهداء قبل عقد مؤتمر الحوار الوطني، وهو ما حدث بالفعل[19]. وتماهيا مع نهج استمالة الحوثيين تجاهلت السعودية موقف القوى الثورية التي طالبت بتخليهم عن سلاحهم الثقيل والمتوسط، والانسحاب من مناطق سيطروا عليها بالقوة منذ بداية أحداث الثورة السلمية، كشرط للمشاركة في مؤتمر الحوار.

استغل الحوثيون مشاركتهم في مؤتمر الحوار الوطني فدشنوا حملة علاقات عامة خارجية، وأجروا اتصالات مع دبلوماسيين غربيين بهدف تغيير الانطباع الشائع عنهم كتنظيم عسكري لا يقبل قواعد السياسة الوطنية[20]، وليتضح فيما بعد أن هدفهم من المشاركة كان إبعاد الأنظار عما يقومون به على الأرض من توغل خارج مناطق سيطرتهم، حيث اتجهوا للتوسع عسكريا في محافظتي الجوف وحجة القريبتين من صعدة، وفي ديسمبر/كانون الأول (2013) قاموا بتفجير دار الحديث بمنطقة كتاف في صعدة، ثم شنوا في يناير/كانون الثاني (2014) هجوما كاسحا على السلفيين في مركز دماج الديني (دار الحديث) في مديرية الصفراء بصعدة، وأجبروا المقيمين مع عشرات الأسر على مغادرة دماج.

وعلى نفس الصعيد، واصل الحوثيون جلب السلاح من إيران، حيث تمكن خفر السواحل اليمني من الإمساك بقافلة تهريب أسلحة متجهة نحو اليمن، تبين أنها محملة بشحنة سلاح منشؤه إيران، وفي يناير/كانون الثاني (2013) أمسكت السلطات اليمنية بالسفينة “جيهان1” و “جيهان2” وهما محملتان بأسلحة إيرانية، ومتجهتان صوب ميناء ميدي القريب من معقل الحوثيين[21].

نجح المبعوث الأممي لليمن جمال بن عمر، ومعه الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى في دفع الدور السعودي إلى الظل خلال مرحلة الحوار الوطني. وطوال فترة الحوار اكتفت السعودية بمراقبة سلوك الحوثيين دون تدخل لكبح أعمالهم العسكرية أو حتى إدانتها، ومنع تدفق الأسلحة إليهم. لقد خضع اليمن في تلك المرحلة لنوع من الإشراف الدولي المباشر الذي من المحتمل أن يكون قد أضعف قدرة المملكة على التصرف، وذلك على افتراض أنها أرادت التصرف حتى بالحدود الدنيا.

وعقب انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، أعلنت الرياض في مارس/ آذار (2014) عن قائمة سعودية بالجماعات الإرهابية شملت الحوثيين، إلى جوار تنظيمات أخرى في مصر وسوريا والعراق منها الإخوان المسلمون، وكان لافتا عدم اشتمال القائمة على “التجمع اليمني للإصلاح” الذي يعده البعض فرعا يمنيا للإخوان المسلمين[22]، ما يعني أن السعودية تميل إلى عدم وضع “الإصلاح” في سلة واحدة مع “الإخوان”، وعلى استعداد للتعامل معه، في مقابل تعاطيها مع الحوثيين كجماعة إرهابية، بعد أن فشلوا في اختبار حسن النوايا السعودي منذ العام (2012). غير أن هذه الرؤية السعودية للحوثيين كجماعة إرهابية لم تؤسس لتحركات عملية من أجل تطويق النمو المتسارع لقوتهم، أو تحجيم صلاتهم المتزايدة مع إيران، خاصة وأنها (أي الرؤية السعودية) لم تحظ بتأييد دولي، ومن ثم ظلت أسيرة الاعتبارات والقيود الدولية ما جلب للسياسة السعودية الكثير من سوء الفهم، علاوة بطبيعة الحال على عناصر التردد وبطء عملية اتخاذ القرار كسمة لتلك السياسة، ناجمة عن تعدد دوائر صنع القرار الخاص بالتعاطي مع الشأن اليمني[23]. وثمة في هذا الصدد من يؤكد وقوع السياسة السعودية في تلك المرحلة تحت طائلة “فيتو” أمريكي، منعها من التدخل بأي وسيلة ضد الحوثيين، نتيجة التزامهم للولايات المتحدة بمكافحة الإرهاب[24]. ورغم الشكوك في مدى جدية السياسة السعودية في التدخل ضد الحوثيين حتى بعد تصنيفها لهم جماعةً إرهابية، فإن الحوثيين كانوا قد خاضوا بالفعل جميع معاركهم ضد الخصوم الداخليين تحت يافطة مكافحة التطرف[25]. ونجحوا في لفت نظر الإدارة الأمريكية إليهم كفصيل “جاد” في مواجهة إرهاب القاعدة[26].

عوضا عن التدخل لمواجهة الحوثيين، حتى بإجراءات عملية محدودة في تلك المرحلة، اعتقدت السعودية أن التدابير الدولية الموجهة لمعاقبة معرقلي الانتقال السياسي في اليمن -وفيهم قيادات حوثية عسكرية، بواسطة قرارات مجلس الأمن الدولي- كفيلة بتحقيق ما عجزت هي عن تحقيقه. والحال أن هذا الموقف السعودي انطوى على سوء تقدير قاتل، خاصة وأن العقوبات الأممية على الرئيس السابق صالح ومعه اثنان من القيادات الحوثية العسكرية في نوفمبر/تشرين الثاني (2014)، والتي كانت السعودية وراءها بجهد دبلوماسي دولي كثيف، لم تكن لتضر بجماعة الحوثي مطلقا، وإنما على العكس من ذلك جلبت إليها “صالحا” بثقله العسكري على طبق من ذهب.

رابعا: التمدد الحوثي باتجاه عمران؛ أين كانت الرياض وما حقيقة موقفها؟

هناك الكثير من اللغط حول حقيقة الموقف السعودي من تحركات الحوثيين العسكرية للسيطرة على معاقل بيت الأحمر في محافظة عمران أواخر فبراير/شباط (2014)، ثم على عاصمة المحافظة في 8 يوليو/ تموز (2014) وضرب قوات الجيش هناك، وصولا إلى الاستيلاء على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول من العام نفسه. وما يزيد الغموض بشأن ذلك الموقف هو عدم وجود تصريحات رسمية صادرة عن الرياض خلال تلك الفترة يمكن الربط بينها، وتحليل لغتها ومفرداتها، واستكناه الموقف السياسي منها بصورة تقريبية. زيادة على أن سلوك الرياض خلال تلك الأحداث كان متضاربا، وفيه ما يدعم الرأي القائل بوجود تعاون سعودي مع الحوثيين لإسقاط عمران ثم صنعاء نكاية بالإسلاميين، وما يؤيد نقيض ذلك الرأي في الوقت ذاته، لذا يجب وضع الرأيين جانبا، والمضي في مسلك تحليلي مختلف يأخذ في الحسبان المعطيات الموضوعية الحاكمة، والسياق الكلي للأحداث.

ابتداءً يمكن القول إن الموقف السعودي كان سيختلف لو أن تحركات الحوثيين العسكرية اتجهت شمالا لتعزيز وجودهم العسكري على الحدود السعودية، أو لإجراء مناورات وتدريبات عسكرية هناك -على سبيل المثال- كما حدث بعد ذلك بالفعل في العام (2015)، ومن ثم فإن اتجاه الحوثيين بثقلهم العسكري نحو العمق اليمني وليس باتجاه الحدود السعودية، هو المعطى الموضوعي الأول الذي يمكن بواسطته تفسير الموقف السعودي الذي أخذ جانب الترقب والانتظار قبل سقوط عمران بيد الحوثيين، ويبدو أن السعودية منّت نفسها بخوض الحوثيين معارك شرسة مع ما سمي قوات حزب الإصلاح في عمران تكون نتيجتها إضعاف الطرفين معا.

أما المعطى الموضوعي الثاني، فهو أن أحدا من العارفين بالشأن اليمني وتركيبته الاجتماعية القبلية لم يكن ليتصور إمكانية انهيار القوات المناهضة للحوثيين في محافظة عمران في وقت قياسي[27]، مقارنة مثلا بمعركة السيطرة على الجوف التي استغرقت من الحوثيين أكثر من ثلاث سنوات (2011- سبتمبر/ أيلول 2014)، وهذا ينطبق على السعودية التي من المحتمل أن تكون أيضا قد استبعدت سقوط عمران بتلك السرعة، ورجحت استمرار المعارك وقتا أطول ريثما تحضّر هي لتحالفات جديدة تحتوي من خلالها الخاسر الأقل في تلك المواجهة.

في الإطار نفسه، ثمة مشهد كاشف تشكّل مباشرة عقب سيطرة الحوثيين على مركز مدينة عمران (50 كيلو متر شمال صنعاء)، يضعف فرضية تواطؤ الرياض مع الحوثيين في تلك المرحلة، ويرجح وقوعها في سلسلة متتالية من الحسابات الخاطئة، وسوء التقدير لسلوك الحوثيين وأهدافهم النهائية. فبينما كان الرئيس عبدربه منصور هادي، يزور مدينة عمران في 23 يوليو/تموز (2014)، ويدلي بتصريحات غامضة ومستفزة، عن عودة عمران إلى حضن الدولة[28]، كان السفير السعودي علي الحمدان يبذل مساعي حثيثة لإقناع الرئيس السابق صالح بالوقوف صفا واحدا لمواجهة الحوثيين مع اللواء علي محسن الأحمر المستشار العسكري للرئيس هادي، ورئيس الفرقة الأولى مدرع، سابقا، وذلك بعد أن تبين للسعودية بوضوح تام أن هدف الحوثيين التالي هو إسقاط العاصمة اليمنية صنعاء، وأن معادلة تشتيت الحوثيين في العمق اليمني واستنزافهم ليس سوى معادلة خاطئة تضاف إلى رصيد الرياض الضخم في هذا الجانب.

وفي 28 يوليو/تموز (2014) تمكن السفير حمدان من الجمع بين الرئيس السابق صالح واللواء محسن، بحضور الرئيس هادي، في “جامع الصالح”؛ لأداء صلاة عيد الفطر حينها، غير أن اللقاء الذي جاء كتحرك إنقاذي طارئ تقوم به الرياض في الوقت الضائع، دون إنضاج شروط نجاحه مقدما، انتهى بالفشل، بعد أن وجه “صالح” صفعة مدوية للجهود السعودية برفضه مصافحة “محسن” أمام الكاميرات.

في الواقع، كان “صالح” يسابق الزمن لإيجاد تحالف مع الحوثيين يستطيع بواسطته الانتقام من خصومه، وكان قد ساعد بالفعل في تسهيل مهمتهم في عمران عبر تحييد أنصاره القبليين والعسكريين هناك، ومن ثم لم يلتفت للورطة السعودية الحادة، بل إن هذه الورطة هي ما جعلت المشهد بالنسبة إليه مسليا، ويدعو إلى التلذذ.

أما الرئيس هادي، الذي صافحه “صالح” بحرارة في ذلك اللقاء الشهير، فكانت حماسته لمصالحة ناجزة بين أقوياء (صالح ومحسن) ضعيفة للغاية، لأن مثل هذه المصالحة يمكن أن تضعه بكل بساطة على الرف، وهو الذي يعرف تماما أن وجوده في السلطة يعتمد على “قانون” إضعاف الجميع، وربما على حرب الجميع ضد الجميع. وفي الأصل ثمة غموض كبير يحيط بموقف الرئيس هادي من حرب الحوثيين على عمران، إذ ظل وزير دفاعه محمد أحمد ناصر، وهو أكثر المقربين إليه من العسكريين في ذلك الوقت، متمسكا بتصنيف غير مسؤول للحرب في عمران كحرب قبلية يخوضها الحوثيون ضد “الإصلاح”، ولا شأن للدولة بها[29]. ومن ثم لعب “هادي”، من طريق وزير دفاعه، دورا حاسما في غل يد الجيش عن مساندة اللواء (310) مدرع بقيادة العميد حميد القشيبي المحسوب على علي محسن الأحمر، والذي بسقوطه سقطت عمران في أيدي الحوثيين، ويبدو أن الرئيس هادي أراد إضعاف اللواء علي محسن؛ لأن نفوذ الأخير في الجيش يفوق بمراحل نفوذ هادي ووزير دفاعه.

لا مناص من القول في سياق كهذا، أن الرياض شعرت بخيبة أمل إزاء النخبة السياسية اليمنية التي أخفقت في تشكيل حائط دفاعي تكتيكي يمنع تقدم الحوثيين صوب العاصمة صنعاء، وقررت أن تمضي في خيارها الخاص، ولا سيما أن معركة عمران دفعت إلى السطح التناقضات النخبوية اليمنية والضغائن السياسية المتجذرة بأسوأ صورة، وعكست الوضع الانقسامي الرث للمعسكر المقابل لمعسكر الحوثيين، فحتى اليساريون والقوميون اليمنيون الذين كانوا جزءا من المعادلة الوطنية في مرحلة الثورة وما بعدها، هلل بعضهم لتقدم الحوثيين في عمران، وأطلقوا العنان لفكرة انتقام التاريخ التي تجلت في مقتلة الإسلاميين في عمران.

وأمام هذا المسلك الثأري الذي حكم علاقات النخبة في تلك المرحلة، والمكاسب المدهشة والسريعة التي حققها الحوثيون، قررت السعودية الانحناء للعاصفة، واستدعاء نهج الاستمالة الذي كانت قد عملت عليه قبل تصنيفها الحوثيين جماعة إرهابية، وفشل فشلا ذريعا في احتوائهم آنذاك كما سبقت الإشارة.

وهنا يتحدث اللواء أنور عشقي، رجل المخابرات المقرب من دوائر صنع القرار السعودي، عن “تعهد خطي” قدمه زعيم جماعة الحوثي عبدالملك الحوثي للمملكة العربية السعودية عن طريقه “بالتخلي عن إيران والتعامل مع المملكة”، ورغم تأكيده أن السعودية رفضت الحديث مع الحوثيين بهذا الشأن، لأنها “لا تفضل الحوار مع ميليشيات خصوصا الحوثيين” على حد قوله[30]، فإن ما لا يعقل هو أن يقوم “عشقي” بتلك المهمة دون ضوء أخضر من قيادة بلده.

خامسا: الغواية السياسية؛ السعودية والحوثيون قبيل سقوط صنعاء

إن مشهد ما قبل سقوط عمران يبدو مختلفا، لجهة الموقف السعودي من الحوثيين، عن المشهد الذي سبق سقوط صنعاء، ففي المشهد الثاني وقفت الرياض تراقب وصول الحوثيين إلى صنعاء وكأنه قدر محتوم، ولم يكن ما تقوم به ناجما هذه المرة عن حساب خاطئ، أو عن سوء تقدير كما في المشهد الأول، بل كان تجسيدا لانهيار الإرادة السعودية في مواجهة الحوثيين، وتسليمها بأمر واقع جديد كان الحوثيون بسبيل فرضه على الجميع، ويبدو أن الرياض مارست ذلك الانصياع تحت غطاء الفكرة الخادعة التي أشار إليه “أنور عشقي”، أي إمكانية قبول الحوثيين فض تحالفهم مع طهران لمصلحة الرياض. وسواء وافق الحوثيون على ذلك “وتعهدوا” به كما يزعم “عشقي”، وإن تكتيكيا، أم لم يفعلوا بالأصل، فإن السعودية مضت في هذا الاتجاه بإذعان، على نحو ما تؤكده أحداث ما قبل سقوط صنعاء، مع احتفاظها بشكوك عميقة تجاه الحوثيين.

في نهاية يوليو/تموز (2014)، أعلن الرئيس هادي رفع الدعم عن المشتقات النفطية كجزء من عملية إصلاح مالية مزمعة، وانعكس ذلك الإجراء مباشرة على حياة المواطنين ومعيشتهم الصعبة في الأصل، متسببا بحالة من الغضب الشعبي. وحتى اللحظة لا تتوفر إجابة بشأن لماذا أقدم الرئيس هادي بنفسه على اتخاذ ذلك القرار ، مع كونه جزءا من اختصاص الحكومة؟ بل إن سؤالا كهذا قلّما يطرح. ومع أن البلد كان يمر بالفعل بأزمة اقتصادية تقتضي معالجات مدروسة، فإن رفع الدعم عن المشتقات النفطية بالطريقة التي حدثت بها، هيأ المناخ لجميع التحركات اللاحقة التي قام بها الحوثيون، وأفضت إلى الانقلاب في صنعاء. ففي منتصف أغسطس/آب (2014) بدأ الحوثيون بتحشيد مظاهرات للمطالبة بإسقاط “الجرعة” وإقالة الحكومة شارك فيها أنصارهم بكثافة، ثم تصاعدت دعواتهم للتظاهر لتأخذ شكل تجمعات قبلية مسلحة في مخيمات نصبت على بعض مداخل العاصمة صنعاء، لينقضوا في 21 سبتمبر/أيلول على العاصمة صنعاء، ويسيطروا على جميع مؤسسات الدولة دون مقاومة تذكر. وأثناء تلك التحركات كان لافتا تقاعس الرياض عن تقديم عون مالي أو نفطي عاجل لإنقاذ الحكومة، وقطع الطريق على استغلال الحوثيين للورقة الاقتصادية، ومع أن السعودية أعلنت رفضها للأعمال التي قام بها الحوثيون في حينه واستهدفت تقويض العملية السياسية[31]، فقد كان لافتا عدم وجود حراك دبلوماسي سعودي رفيع، على المستويين العربي والدولي، يهدف إلى الحيلولة دون سقوط صنعاء بيد الانقلابيين الحوثيين.

وفي 22 سبتمبر /أيلول (2014)، أي بعد يوم واحد من استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء بقوة السلاح، جاء بيان للمجلس الوزاري لمجلس التعاون الخليجي المنعقد في نيويورك، يرحب باتفاقية السلم والشراكة[32]، وهي الاتفاقية التي وقعتها القوى السياسية اليمنية مع الحوثيين مكرهة بعد دخولهم صنعاء مباشرة، وأرادوا فرضها كوثيقة مرجعية يمكن بواسطتها تجاوز مسودة الدستور وتقوض فكرة الأقاليم والدولة الاتحادية، وتأكيد تصوراتهم السياسية التي اتهموا بقية الفرقاء بتجاهلها طوال المرحلة السابقة.

في هذا السياق، وبينما الحوثيون يكملون سيطرتهم العسكرية على مؤسسات الدولة في صنعاء، كان السفير السعودي محمد آل جابر، المعين حديثا آنذاك، يرتب لتهريب اللواء علي محسن الأحمر إلى الرياض، بعد لجوء الأخير إلى سفارة المملكة بصنعاء، في نفس يوم الانقلاب، إثر معركة قصيرة وخاسرة مع الحوثيين وسط العاصمة. وبصرف النظر عن الرواية المشوّقة لتفاصيل تلك الواقعة كما حكاها السفير بزهو[33]، فإن مساعدة الرياض للخصم العسكري الأقوى للحوثيين، وبتوجيهات عليا من القيادة السعودية كما يؤكد السفير، تكشف عن أن الرياض لم تكن واثقة من سلوك الحوثيين بعد سقوط صنعاء في يدهم، وأن عدم تدخلها لا يعود إلى تفاهمات متينة مفترضة، وإنما إلى حالة العجز الإستراتيجي، خاصة مع وجود إرادة دولية نظرت لما يجري في اليمن كتطورات محلية يمكن احتواؤها بالحوار، مع الأخذ في الاعتبار أن طريقة اقتحام الحوثيين لصنعاء كانت غير اعتيادية، وغُلفت بمظاهر الاحتجاج الشعبي التي زعم الحوثيون أنها تمثل ثورة ثانية.

هذا المنعطف الخطير للأحداث، والمتمثل في انقلاب الحوثيين، كان شاهدا على فقد السياسة السعودية الزمام، ونجاح الحوثيين في تحييدها للأسباب المشار إليها، ولقد تُركت مسألة ضبط سلوك الانقلابيين الحوثيين بما يتوافق مع الحد الأدنى من معايير السياسة والتوافق الوطني، للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة ومبعوثها الخاص جمال بن عمر، وهي مسألة لم تكن منطقية بالمرة، ولا متسقة مع حالة الغرور التي بلغها الحوثيون آنذاك، زيادة على تراخي المجتمع الدولي وتركيزه على تظهير الانقلاب وإضفاء طابع التوافق الوطني عليه من خلال اتفاقية السلم والشراكة.

وفي يناير/ كانون الثاني (2015) استكملت جماعة الحوثي انقلابها بوضع رئيسي الدولة والحكومة تحت الإقامة الجبرية عقب رفض الرئيس هادي تعيين أحد قادة الجماعة نائبا له، ونجم عن ذلك تداعيات متسارعة، بتقديم الرئيس استقالته في 21 يناير/ كانون الثاني، وإعلان الحوثيين بداية فبراير/ شباط (2015) وثيقة “دستورية” تمنحهم الحق في الحكم منفردين بعد رفضهم انعقاد جلسة للبرلمان من أجل النظر في استقالة الرئيس، ثم هرب الرئيس هادي من محل إقامته الإجبارية في صنعاء إلى عدن بطريقة غامضة في 21 فبراير/شباط (2015). ليشن الحوثيون في 19 مارس/آذار هجوما جويا على قصر المعاشيق كان الهدف منه تصفية الرئيس هادي وإنهاء ورقة الشرعية، تزامنا مع تحريك ميليشياتهم بمشاركة قوات “صالح” للتمدد عسكريا باتجاه تعز وعدن والمحافظات الجنوبية.

خلال الفترة القصيرة الممتدة من يناير/كانون الثاني حتى أواخر مارس/آذار من العام (2015) كشف الحوثيون عن حقيقة توجهاتهم، بالانقلاب الكامل على العملية السياسية وعلى السلطة، والتوجه لتمتين التحالف مع إيران، فأعلنوا في نهاية فبراير/شباط (2015) عن تسيير 28 رحلة جوية بين مطاري صنعاء وطهران، رغم عدم وجود علاقات تجارية كثيفة بين البلدين تبرر ذلك المستوى من الرحلات[34]، ودشنوا مطلع مارس/آذار أول رحلة جوية إلى طهران، أعقبتها زيارة رسمية قامت بها قيادات حوثية في 12 مارس/آذار؛ لإبرام اتفاقيات تعاون مشتركة مع طهران، وفي 14 من الشهر نفسه نفذ الحوثيون مناورة عسكرية بمختلف أنواع الأسلحة شارك فيها خبراء إيرانيون في منطقة وادي آل جبارة بمحافظة صعدة الحدودية، وذلك بالتزامن مع انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي لمناقشة التطورات في اليمن[35].

التقت هذه التطورات المتلاحقة، التي كانت الرياض تراقبها عن كثب، لكن بدون إستراتيجية بناءة للمواجهة، مع عنصر التغير في القيادة، بمبايعة الملك سلمان بن عبدالعزيز ملكا للسعودية في 23 يناير/كانون الثاني (2015)، وقد دفع الملك الجديد ونجله الطموح في اتجاه إنهاء حالة التردد السعودية الطويلة تجاه الموقف في اليمن، ومهدا بسرعة لإطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس/آذار (2015).

لكن السياسة السعودية ظلت، رغم التدخل العسكري الواسع في اليمن، محكومة بالرغبة العميقة في إعادة إنتاج نظام الرعاية السعودي متعدد المنافع، بمواصفات جديدة، وإدماج الحوثيين فيه كقوة محلية أساسية، بعد تحجيمها إلى الحد الذي يسمح بإعادة هيكلة علاقاتها بإيران، وتتحرك في هذه الحدود. إضافة إلى احتفاظها بحساسية مفرطة تجاه الاعتبارات الدولية المقيدة للفعل السعودي، وميلها إلى التعاطي مع اليمن بمنطق النفوذ الخلفي وغير الرسمي، وليس بالتحالف الوثيق مع بنية دولة يمنية قوية وفاعلة.

المراجع

↑1 بخلاف أنصار الحوثية المتحمسين وقياداتها يذهب محمد عزان، أحد مؤسسي تنظيم الشباب المؤمن، إلى أن الدافع من وراء تشكيل التنظيم في العام 1992 هو  “إصلاح المؤسسة التعليمية الدينية [الزيدية] في صعدة لأنها كانت تقليدية بحتة”، ولا يأتي مطلقا على ذكر “خطر السلفية” في صعدة كما يصوره آخرون. انظر مقابلة صحفية مع محمد عزان في: عادل الأحمدي، «الزهر والحجر التمرد الشيعي في اليمن وموقع الأقليات الشيعية في السيناريو الجديد»، الطبعة الثانية (صنعاء: مركز نشوان الحميري للدراسات والنشر، مارس/آذار (2007)، (الملاحق).

↑2 توجد في نجران أقلية زيدية بلغ عديدها في العام (2004) زهاء (2000) شخص من إجمالي (408)  آلاف هم سكان المنطقة، أغلبهم إسماعيلية.

↑3 كان بدر الدين الحوثي ومجد الدين المؤيدي من بين الشخصيات الزيدية الملكية التي استضافتها السعودية منذ قيام ثورة سبتمبر/أيلول (1962م)، وعادت إلى اليمن عقب تحقيق الوحدة في مايو/أيار (1990).

↑4 تعد مؤسسة الحسني -التابعة لأسرة حميد الدين الحاكمة في اليمن قبل ثورة سبتمبر (1962)، وكان مقرها في جدة- واحدة من المؤسسات التي دعمت أنشطة الحوثيين في صعدة، واستمر دعمها المالي لهم إلى ما بعد حربهم الأولى ضد النظام اليمني في العام (2004). انظر: الأحمدي، مرجع سابق، ص172.

↑5 تزامن ذلك مع بنائها جدارا ثانيا على حدودها مع العراق التي كانت قد سقطت للتو  مارس/آذار (2003) في يد الاحتلال الأمريكي. وفي فبراير/شباط (2004) اضطرت السعودية لوقف بناء الجدار  الذي كان قد أُنجز منه نحو 75 كم، عقب احتجاج الحكومة اليمنية لكون بناء الجدار  يتعارض مع اتفاقية جدة الحدودية يونيو/حزيران (2000). انظر: سفيان أحمد محمود الشنباري، السياسة السعودية تجاه اليمن في ضوء الحراك الشعبي اليمني (2011- 2015م)، رسالة ماجستير، جامعة الأزهر، غزة، (2016)، ص41.

↑6 كريستوفر  بوتشيك، اليمن على شفا الهاوية.. الحرب في صعدة من تمرّدٍ محلّي إلى تحدٍّ وطني، سلسلة أوراق كارنيغي، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، برنامج الشرق الأوسط، العدد 110 نيسان/ أبريل (2010)، ص15.

↑7 المرجع السابق، ص16.

↑8 الشنباري، مرجع سابق، ص 124.

↑9

في العام (2008) التقى السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير الجنرال ديفيد باتريوس قائد القوات الأمريكية ونقل إليه رسالة من الملك عبدالله تقول: إنه يريد من واشنطن أن تقطع رأس الأفعى، في إشارة إلى مهاجمة إيران. ومن المرجح أن يكون الملك عبدالله قد فكر بالتوازي مع ذلك بخيار التدخل العسكري المحدود في اليمن على نحو ما حدث بعد ذلك في الحرب السادسة، وبدأ العمل عليه منذ ذلك الوقت، كبديل في حال أحجمت الولايات المتحدة عن ضرب إيران. انظر: أهم ما تضمنته وثائق ويكيليكس من قضايا، موقع بي بي سي عربي، 29 نوفمبر/تشرين الثاني(2010)، على الرابط:https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2010/11/101129_wikileaks_issues

↑10 خسرت المملكة في تلك الحرب 130 جنديا، إضافة إلى مئات الجرحى، وأسيرين، وأخفقت في حربها في إيجاد ترتيبات تمنع توغل الحوثيين في حدودها الجنوبية مستقبلا أو استهدافهم لحرس الحدود السعودي. انظر: أشير أوركابي، الحرب السعودية مع الحوثيين: حدود قديمة، خطوط جديدة، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 9 أبريل/نيسان (2015)، على الرابط: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alhrb-alswdyt-m-alhwthyyn-hdwd-qdymt-khtwt-jdydt

↑11 ورد ذلك في الوثائق التي سربتها منظمة ويكيليكس من أرشيف السفارة السعودية في صنعاء. انظر: ويكليكس؛ المشاريع التي مولتها السعودية باليمن استخدمها صالح كدعاية انتخابية، موقع النشرة الإخباري، 29 يونيو/حزيران (2010)، على الرابط:  https://cutt.us/ZOGCc

↑12 رفع نظام صالح إحداثيات لمواقع قيادات في الجيش اليمني كي يتم استهدافها بالغارات الجوية السعودية، وأهمها موقع القيادة الذي كان يتمركز فيه اللواء علي محسن الأحمر. جيني هيل وجورد نونمال، اليمن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج: سياسات النخب واحتجاجات الشارع والدبلوماسية، برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مايو (2011م)، ص4.

↑13 أصبح اليمن ملاذا آمنا للكثير من المتطرفين بعد خروج تنظيم القاعدة من السعودية. ويصف كريستوفر بوتشيك سياسة الرئيس صالح في الحرب على الإرهاب بـ “أمسك وأطلق”، في إشارة إلى عمليات هروب بعض المتطرفين من بين يدي الأجهزة الأمنية اليمنية في ظروف غامضة. انظر: كريستوفر  بوتشيك، اليمن كيف يمكن تجنب الانهيار المطرد؟، سلسلة أوراق كارنيغي، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، برنامج الشرق الأوسط، العدد 102 أيلول/ سبتمبر (2009)، ص19. وكان أحد هؤلاء الفارين قد حاول في أغسطس/ آب (2009) اغتيال الأمير محمد بن نايف المسؤول عن مكافحة الإرهاب في المملكة.

↑14 الشنباري، مرجع سابق، ص 117.

↑15 راجع ذلك في الوثائق المنشورة على موقع منظمة ويكيليكس على الرابط: https://wikileaks.org/saudi-cables/doc30640.html

↑16 جيني هيل وجورد نونمال، مرجع سابق، ص8.

↑17 موقع منظمة ويكيليكس، مصدر سابق.

↑18 مصطفى النعمان، المرحلة الانتقالية في اليمن (2)، موقع اندبيندت عربية، 3 ديسمبر/كانون الأول (2019)، على الرابط: https://cutt.us/QfyJ8

↑19 أحمد أمين الشجاع، بعد الثورة الشعبية اليمنية إيران والحوثيون مراجع ومواجع (صنعاء: مركز البحوث والدراسات بمجلة البيان، 1434هـ)، ص 105-109.

↑20 أحمد ناجي، اليمن: الهويات المتعددة لصعود الحوثيين، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 2 أبريل/نيسان (2019)، على الرابط: https://carnegie-mec.org/2019/04/02/ar-pub-78744

↑21 الموقع الإخباري أخبار اليوم، 8مارس/آذار (2013)، على الرابط: https://akhbaralyom-ye.net/news_details.php?sid=65248

↑22 كان التجمع اليمني للإصلاح قد اصدر في اكتوبر/ تشرين الأول (2013) بيانا يوضح فيه عدم ارتباطه بالإخوان المسلمين، ولم يصدر عن أي جهة سعودية رسمية ما يفيد رفض بيان “الإصلاح”، أو يفهم منه إصرار السعودية على الربط بينه وبين الإخوان المسلمين.

↑23 حول ذلك انظر: جيني هيل وجورد نونمال، مرجع سابق، ص8-9.

↑24 مقابلة مع اللواء أنور عشقي رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات السياسية على قناة روسيا اليوم بتاريخ 28 مارس/آذار (2015). على الرابط:  https://youtu.be/DseEmQht-g0

↑25 المصدر نفسه.

↑26 عقب الانقلاب اعتبرت الولايات المتحدة أن المصلحة الأمريكية في اليمن هي مكافحة الإرهاب، وأن الحوثيين يمكنهم الإسهام في ذلك. انظر: عادل عبدالقوي الشرعبي، الدور الدولي تجاه اليمن، مجلة دراسات، المنامة: مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة، المجلد الثاني، العدد1، 2015 ، ص81.

↑27 كان اللواء 310 مدرع أقوى الألوية الموجودة شمالا من صعدة إلى عمران ويضم ترسانة عسكرية ضخمة.

↑28 مصطفى النعمان، المرحلة الانتقالية في اليمن (5)، موقع اندبيندت عربية، 24 ديسمبر/كانون الأول (2019)، على الرابط: https://2u.pw/h8T1L

↑29 راجح بادي، المسار السياسي في اليمن من المبادرة إلى عاصفة الحزم، مجلة سياسات عربية، العدد 14، مايو/ أيار (2015)، ص172

↑30 مقابلة مع اللواء أنور عشقي رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات السياسية قناة روسيا اليوم بتاريخ 22 أبريل/ نيسان (2015). على الرابط:  https://youtu.be/fyRIr7y54TQ

وقد ذكر “عشقي” في تلك المقابلة أن الحوثيين “وعدوا دولة من دول التعاون [الإمارات على الأرجح] بأنهم سيضربون فئة معينة [حزب الإصلاح الذي تعده الإمارات فرعا لتنظيم الإخوان المسلمين في اليمن] وأخذوا منها أموالا طائلة ولم يفعلوا شيئا”، نافيا بذلك الاتهامات التي وجهت لبلاده (السعودية) في دعم تقدم الحوثيين على حساب “الإصلاح”. والجدير بالذكر أن الحوثيين لم تصدر عنهم أي تصريحات تنفي ما أورده عشقي في مقابلته الهامة.

↑31 أبو بكر أحمد باذيب، المعضلة اليمنية سيناريوهات ما بعد الحرب، كراسات إستراتيجية، المجلد 25، العدد 283 (القاهرة: 2016)، ص7.

↑32 صحيفة الثورة اليمنية، 22 سبتمبر/أيلول (2014)، على الرابط: http://althawrah.ye/archives/96426

↑33 انظر المقابلة مع السفير السعودي بخصوص الواقعة على الرابط:  https://www.youtube.com/watch?v=MKsHcTIVPIg

↑34 مصطفى النعمان، المرحلة الانتقالية في اليمن (12)، موقع اندبيندت عربية، 11 فبراير/ شباط (2019)، على الرابط: https://2u.pw/pIPd4

↑35 باذيب، مرجع سابق، ص12

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى