لماذا تدوم القوة الأمريكية: النظام الدولي الذّي تقوده الولايات المتحدّة ليس في حالة إنحدار

بقلم: جون آيْكِنْبِيري.

ترجمة وإعداد: جلال خَشِّيبْ.

  • هذه الترجمة هي عبارة عن عرض وتلخيص مُوسّع للمقال الأصلي وليست ترجمة حرفية له.
  • نُشر المقال بلغته الأصلية بمجلة الشؤون الخارجية، عدد نوفمبر-ديسمبر 2022، الولايات المتحدة.

G. John Ikenberry, Why American Power Endures: The U.S.-Led Order Isn’t in Decline, Foreign Affairs, November-December 2022/ USA

مقدمة:

على غرار أعماله السابقة، يستمر جون آيكينبري في هذا المقال في دفاعه المُستميت عن الحداثة الليبرالية عمومًا، والنظام الدولي الليبرالي الذّي أنشأته الولايات المتحدة وتقوده رفقة حلفائها الليبراليين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص. يُعتبر آيكنبيري أحد أبرز الوجوه الأكاديمية المعاصرة المُنظِّرة للنظام الدولي الليبرالي والنزعة الأُممية الليبرالية في العلاقات الدولية، فرغم ما يعيشه هذا النظام من أزمات –يعترف بها آيكنبيري في جلّ كتاباته- إلاّ أنّ الباحث لا يزال يُحاجج بقدرة هذا النظام على تصحيح أخطائه (كما للولايات المتحدة ذات القدرة أيضا) والمُضيّ قدمًا في تعزيز مبادئ الحداثة والنزعة الأُممية الليبرالية في القرن الحادي والعشرين. يُقدّم آيكنبيري في هذا المقال حُججًا إضافيةً لإدعائه القائل باستمرار نفوذ القوة الأمريكية عبر العالم في القرن الحادي والعشرين، مؤكّدًا بأنّ النظام الدولي الليبرالي الذّي تقوده واشنطن لا يتّجه نحو الإنحدار، مثلما يتنبؤ بذلك كثيرون، فهو بقيادة الولايات المتحدة لا يزال قادرًا على تقديم أفضل البدائل لشعوب العالم ودولهم مقارنةً لما يُقدّمه المنافسون، وعلى مواجهة التحدّيات العالمية المشتركة الجديّة، القائمة والمُقبلة، فالعالم –في نظر الكاتب- لا يمكنه تحمّل نهاية الحقبة الأمريكية بعد.

على مدار قرنٍ من الزمان عاش الناس عبر العالم حقبةً أمريكيةً تميّزت بهيمنةِ القوة والثروة والمؤسّسات والأفكار والتحالفات والشَرَاكات الأمريكية، إلاّ أنّ كثيرين يعتقدون بأنّ هذه الحقبة الطويلة آيلةٌ إلى الانتهاء. إنّهم يصرّون بأنّ النظام العالمي الذّي تقوده أمريكا يُفسح المجال أمام شيءٍ جديد: نظام ما بعد أمريكي، ما بعد غربي، ما بعد ليبرالي يميّزه التنافس بين القوى العظمى والصعود الإقتصادي والجيوبولتيكي للصين، فالولايات المتحدة تفقد -في نظرهم- شيئًا فشيئا مكانتها القيادية في التوزيع العالمي للقوة، فالشرق ينافس الغرب الآن في القدرة الاقتصادية والثقل الجيوبوليتيكي، كما أنّ الجنوب العالمي (The Global South) يستمر في النمو بسرعة ويأخذ دورًا كبيرًا على المسرح الدولي، لذلك تفقد الولايات المتحدة بريقها، حسب هؤلاء، بينما يسطع آخرون. في ذات الوقت تصارع المجتمعات الليبرالية في كلّ مكان، تُضعِف النَزَعات القومية والشعبوية من النزعة الأُممية التّي دعمت القيادة العالمية للولايات المتحدة.

علاوةً على ذلك، تعرف هذه الحقبة صعودًا لمفترسين جدد، الصين وروسيا، الذين يهرعان بشكلٍ عدوانيٍّ لتحدّي الهيمنة الأمريكية والليبرالية والديمقراطية. في فبراير 2022، أصدر شي جينبينغ وبوتين إعلانًا مشتركًا للمبادئ “من أجل حقبةٍ جديدة” لا تقود فيها الولايات المتحدة العالم.

إلاّ أنّ آيكينبري يرى بأنّ الولايات المتحدة ليست بصدد التعثّر والغرق، فسرديّة الانحدار تتجاهل التأثيرات الأعمق للتاريخ العالمي، كما تتجاهل الظروف التّي سوف تستمر في جعل الولايات المتحدة الحَاضِرَ المُهيمن والمُنظّم للسياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين. وبالرغم من أنّ النظام العالمي القادم سوف يتّم تشكيله من طرف قوى سياسية معقدّة ومتغيّرة ويصعب فهمها، ومن طرف خيارات شعوبٍ تعيش في كلّ أصقاع العالم، إلاّ أنّ المصادر العميقة للقوة والنفوذ الأمريكيّين في العالم ستظلّ قائمة ومستمرّة فيه.

إنّ الخطأ الذّي يرتكبه المتنبؤّون بالانحدار الأمريكي هو رؤيتهم للولايات المتحدة ونظامها الليبرالي بنفس طريقة رؤيتهم لإمبراطوريةٍ أخرى في طريقها للتراجع والزوال. يرفض آيكنبيري هذا التشبيه المطلق بين وضع الولايات المتحدة والإمبراطوريات السابقة نظرًا لوجود اختلافاتٍ بينهما، فالقوة الأمريكية لا تعتمد على القوة الغاشمة فحسب، بل أيضًا على الأفكار والمؤسّسات والقيم الراسخة في نسيج الحداثة. إنّ النظام العالمي الذّي بنته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لهو أفضلُ هيكلٍ عالمي وُجد على الإطلاق، وهو الذّي يُنظر إليه على أنّه إمبراطورية، إنّه تشكيلٌ سياسيٌّ متعدّد الأوجه مترامي الأطراف، غنيٌّ بالتقلّبات، يخلق فرصةً لجميع الشعوب عبر الأرض.

يرى آيكنبيري بأنّ الصراع بين الولايات المتحدة أو منافسيْها، الصين وروسيا، هو تنافسٌ بين منطقيْن بديليْن مرتبطيْن بطبيعة النظام العالمي. تُدافع الولايات المتحدة عن نظامٍ دوليٍ قادته لثلاثة أرباع قرن، وهو نظامٌ مفتوح ومتعدّد الأطراف ومترسّخٌ في معاهداتٍ أمنية وشَرَاكاتٍ مع ديمقراطيات ليبرالية أخرى، بينما تسعى الصين وروسيا إلى نظامٍ دوليٍ يُطيح القيم الليبرالية الغربية عن العرش، نظامٌ أكثر ترحيبًا بكتل الإقليمية ومجالات النفوذ والاستبداد. تدعم الولايات المتحدة وتحافظ على نظام دولي يحمي مصالح الديمقراطية الليبرالية ويدفعها قدمًا نحو الأمام، أمّا الصين وروسيا فيأمل كلٌّ منهما بطريقته الخاصّة في بناء نظامٍ دوليٍ يحمي الحكم الإستبدادي من قوى الحداثة الليبرالية المُهدِّدة له. تُقدّم الولايات المتحدة للعالم نسخةً من هيكلٍ عالميٍ ما بعد إمبريالي. أمّا القادة الحاليون لروسيا والصين فهم يُديرون على نحوٍ متزايد سياساتٍ خارجيةٍ متجذّرة في النوستالجيا الإمبريالية-الإمبراطورية.

يعكس الصراع بين الأنظمة العالمية الليبرالية وغير الليبرالية صدى التنافس الأعظم للقرن الحادي والعشرين. لقد اعتمد نجاح الولايات المتحدة بعد اللحظات التاريخية الأساسية لسنوات 1919 و1945 و1989 بطريقةٍ ما على القوة الأمريكية وقدرات البلد الإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التّي لا ينافسها فيها أحد. إنّ أحد الأسباب التّي ستُبقي الولايات المتحدة في مركز الهيكل العالمي تتمثّل في هذه الإمكانيات الماديّة ودورها كمحور لتوازن القوة العالمي. كما ستبقى الولايات المتحدة لسببٍ آخر يتمثّل في جاذبية أفكارها ومؤسّساتها، فضلاً أنّ قدرتها على بناء شَرَاكاتٍ وتحالفاتٍ يجعل منها قوةً غير قابلة للاستغناء عنها في الأعوام القادمة. كان ذلك دومًا بمثابة السرّ الكامن وراء قوتّها ونفوذها، ويمكن أن يظلّ كذلك.

للنظام الدولي الليبرالي الذّي ترعاه الولايات المتحدة عدّة طبقات وشرائح. في الطبقة الخارجية توجد أفكاره الأُمميّة الليبرالية ومشاريعه، والتّي من خلالها تُقدّم الولايات المتحدة للعالم “طريقًا ثالثًا” ما بين أناركية الدول(Anarchy)  التّي تتنافس بقسوة مع بعضها البعض، وبين الهِيراركية (Hierarchy) المُبالغ فيها للأنظمة الإمبراطورية، وهو ترتيبٌ يُوزّع مكاسبًا أكثر لشعوب أكثر مقارنةً بأيّ بديلٍ سابق.

يُسلّط الكاتب الضوء على عاملين مهمّيْن في قوة الولايات المتحدة وريادتها وهما العامل الجغرافي (التموضع والثورات وتأثيرهما على تطوّرها السياسي)، وعلى عامل الحَوْكمة والدبلوماسية (تركيبة مجتمعها المدني المتنوع الذّي يسمح لها بنسج شبكةٍ عالميةٍ من التأثير، غير متاحة لدول كالصين وروسيا).

أخيرًا فإنّ أعظم مزايا قوة الولايات المتحدة هو قابلية الفشل التّي تحظى بها، فباعتبارها مجتمعًا ليبراليًا، فإنّه بإمكانها الاعتراف بنقاط ضعفها وحساسيّتها وأخطائها والسعي إلى تحسينها تبعا لذلك، وهي أفضليةٌ متميّزةٌ على حساب منافسيها غير الليبراليّين أثناء مواجهة الأزمات والانتكاسات.

فلا توجد دولةٌ أخرى تحظى بمثل هذه المجموعة الشاملة من المزايا في التعامل مع البلدان الأخرى. هذه هي الأسباب التّي تكمن خلف إمتلاك الولايات المتحدة لقوة البقاء مدّةً أطول بكثير رغم حالات الفشل المرحلية وخيبات الأمل التّي تعرّضت لها.

1.الطريق الثالث لأمريكا:

على مدى قرون ظلّت الولايات المتحدة تنتصر لنمطٍ مُحدّد من النظام، متميّزٍ عن أنظمةٍ دوليةٍ سابقة. تُمثّل النزعة الأُممية الليبرالية (Liberal Internationalism) لواشنطن “طريقًا ثالثًا” ما بين الأناركية (أيْ الفوضى، وهي الأنظمة المرتكزة على توازن القوة بين الدول المتنافسة) والهيراركية (أيْ التراتبية، وهي الأنظمة التّي تعتمد على هيمنة القوى الإمبراطورية). تمكّنت النزعة الليبرالية، بعد الحرب العالمية الثانية ثم بعد الحرب الباردة، من الهيمنة وتجديد ماهية المنطق الحديث للعلاقات الدولية من خلال إنشاء مؤسّساتٍ على غرار هيئة الأمم المتحدة، وتحالفاتٍ على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث ارتبطت شعوبٌ عبر العالم بهذه المنظمات الحكومية الدولية، كما بَنت النَزعة الليبرالية على هذه المؤسّسات والتحالفات من أجل الدفع بمصالح شعوب العالم قُدمًا. فإذا كانت الصين وروسيا تسعيان إلى التبشير بنظامٍ عالميٍ جديد، فهُما بحاجةٍ إلى تقديم شيءٍ أفضل، إنّها لمهمّةٌ شاقّةٌ حقًّا.

كان الجيل الأول للأمميّين الليبراليّين في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر وريثًا لنسخةٍ تنويرية، وهي إيمانٌ بقدرة المجتمعات على بناء أنظمةٍ سياسيةٍ من خلال العقل والعلم والمصلحة الذاتية المحسوبة، وبالتالي تحسين الشروط الإنسانية، لذا تخيّل هذا الجيل أنّ بإمكانه تصميم مؤسّساتٍ وأنظمةٍ سياسيةٍ لحماية الديمقراطية الليبرالية ودفعها قُدما نحو الأمام. لا يمكن للنظام الدولي أن يكون منتدى لشنّ الحرب والسعي لتحقيق الأمن فحسب، بل أيضًا منتدى لحلّ المشكلات الجماعية. آمن الأمميّون الليبراليون بالتغيير السلمي لأنّهم افترضوا بأنّ المجتمع الدولي “قابل للإصلاح” (Corrigible) مثلما حاجج بذلك الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون. بإمكان الدول أن تُروّض سياسة القوى العدوانية والمثيرة للانقسام، وأن تبني علاقاتٍ مستقرةٍ تتمحور حول متابعة مكاسب متبادلة.

لم يتغيّر الهدف الجوهري لبناء النظام الليبرالي والمتمثّل في إرساء بيئة نظامٍ تعاونيٍ تُدير الدول في خضّمه، بدءًا بالديمقراطيات الليبرالية، العلاقات الاقتصادية والأمنية المتبادلة وتُوازن فيه قيمها المتنازعة عادةً وتحمي فيه حقوق مواطنيها وحرّياتهم. إنّ فكرة بناء نظام دولي يتمحور حول القواعد والمؤسّسات ليست فكرةً فريدةً بالولايات المتحدة والليبراليّين الغربيّين، أو بالحقبة الحديثة. إلاّ أنّ بناء النظام الأمريكي لهو أمرٌ فريدٌ من حيث وضعه هذه الأفكار في مركز جهود البلد. ما كان للولايات المتحدة أن توفّره هو مجموعة حلولٍ لأغلب المشكلات الأساسية للعلاقات الدولية، وهي مشكلات “الأناركية والهيراركية والاعتماد المتبادل” (Anarchy, Hierarchy, and Interdependence).

يدّعي المفكرون الواقعيون بأنّ الدول التّي تتواجد في ظروف أناركية أساسية وتفرض حدودًا على إمكانيات التعاون، وبأنّه لا وجود لسلطةٍ سياسيةٍ فوق سلطة الدولة لفرض النظام وإدارة العلاقات وحكمها، وبالتالي يجب على الدول أن تعتمد على ذواتها وتتدبّر أمورها بنفسها. لا يُنكر الأُمميّون الليبراليون سعي الدول إلى بلوغ مصالحها الخاصّة عبر وسائل تنافسيةٍ في العادة، لكنّهم يؤمنون بإمكانية الحدّ من أناركية هذا التنافس. يُمكن للدول، بدءًا بالديمقراطيات الليبرالية، أن تستخدم المؤسّسات ككتل بناءٍ من أجل التعاون ومن أجل متابعة المكاسب المشتركة. يُقدّم القرن العشرين دليلاً دراماتيكيًا لهذه الأشكال من ترتيبات التنظيم الليبرالي. فبعد الحرب العالمية الثانية وفي خضّم الحرب الباردة، أرست الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها نظامًا مُعقّدًا مترامي الأطراف من المؤسّسات المستمرّة في التواجد إلى اليوم، تجسّدت في هيئة الأمم المتحدة ومؤسّسات بريتون وودز والأنظمة متعدّدة الأطراف في مجالاتٍ متنوعةٍ من التجارة والتنمية والرعاية الصحيّة والبيئية وحقوق الإنسان حيث حدثت تحوّلاتٌ كبرى في التوزيع العالمي للقوة في العقود التالية لسنة 1945، لكنّ التعاون ظلّ قائمًا باعتباره ملمحًا مركزيًا للهيكل العالمي.

أمّا مشكلات الهيراركية فهي جهة المرآة المعاكسة لمشكلات الأناركية. الهيراركية هي نظامٌ سياسيٌ تُحافِظ عليه الهيمنة المُمارَسة من طرف دولةٍ رائدة، تُمثّل الإمبراطورية التجسيد الأقصى له. تشعر الدولة الرائدة بالقلق بخصوص كيفية بقائها على القمة وكسب تعاون الآخرين وممارسة سلطةٍ شرعيةٍ في تشكيل السياسة العالمية. أمّا الدول والمجتمعات الأضعف فتكون قلقةً من أن تصير خاضعةً للهيمنة، وتريد أن تخفّف من وطأة نقائصها ونقاط الضعف الناتجة عن قلّة قوتّها. في مثل هذه الظروف يُحاجج الأُمميون الليبراليون بإمكانية أن تصير القواعد والمؤسّسات أداةً حاميةً للضعيف وأداةً للقوي في ذات الوقت. في نظامٍ ليبراليٍ، تتوافق الدولة الرائدة على التحرّك ضمن مجموعةٍ مُتفّقٍ عليها من القواعد والمؤسّسات متعدّدة الأطراف، وبأن لا تستخدم قوتّها لقهر الدول الأخرى. تتيح لها القواعد والمؤسّسات حريّة المبادرة لضبط النفس والإلتزام تجاه الدول الأضعف التّي قد تشعر بالخوف من قوتّها. تكسب الدول الأضعف أيضًا من هذه الصفقة المؤسّساتية لأنّها تُقلّص حدّة الممارسات القهرية الأسوء للقوة التّي قد تُلحقها الدولة المهيمنة بها، كما تمنح الصفقة لهذه الدول فرصةً لإبداء صوتها عن كيفية إشتغال النظام.

على نحوٍ متفرّدٍ في التاريخ العالمي، إتّبع النظام الذّي صعد بعد سنة 1945 بقيادة الولايات المتحدة هذا المنطق، فهو نظامٌ هيراركي بسماتٍ ليبرالية. لقد استخدمت الولايات المتحدة موقعها القيادي باعتبارها القوة الاقتصادية والعسكرية العالمية الرائدة من أجل توفير الخدمات العامة للحماية الأمنية والأسواق المفتوحة ورعاية القواعد والمؤسّسات. ربطت نفسها بحلفاءٍ وشركاءٍ عبر أحلافٍ ومنظماتٍ متعدّدة الأطراف. في المقابل، فهي تدعو إلى المشاركة والإمتثال من طرف الدول الأخرى، بدءًا بالنظام الفرعي للديمقراطيات الليبرالية المتواجدة بشكلٍ أغلب في شرق آسيا وأوروبا وأوقيانوسيا. انتهكت الولايات المتحدة هذه الصفقة بشكلٍ متكرّر: حيث تُعتبر حرب العراق بالأخصّ مثالاً مريرًا ومُدمّرًا عن تقويض الولايات المتحدة للنظام التّي بنته، إذْ استخدمت الولايات المتحدة مكانتها المتميّزة لثنيْ القواعد متعدّدة الأطراف لصالحها ولتتصرّف بشكلٍ أحاديٍ من أجل تحصيل مكاسب إقتصادية وسياسية ضيّقة. لكن رغم سلوكات كهذه فإنّ المنطق العام للنظام يمنح بلدانًا عديدةً حول العالم، خصوصًا الديمقراطيات الليبرالية، المُحفزّات للانضمام إلى الولايات المتحدة بدلاً من التوازن ضدّها.

أمّا مشكلات الاعتماد المتبادل فقد تصاعدت من جرّاء المخاطر ونقاط الضعف والحساسيّة التّي تواجهها البلدان حينما تصير أكثر تشابكًا مع بعضها البعض. إبتداءً من القرن التاسع عشر، ظلّت الدول تستجيب للفرص والمخاطر الناجمة عن الاعتماد المتبادل الاقتصادي والأمني والبيئي من خلال بناء بنيةٍ تحتيةٍ دوليةٍ من القواعد والمؤسّسات لتسهيل التدفّق والتحويلات عبر الحدود، ومع نمو الاعتماد المتبادل العالمي تنامت أيضًا الحاجة إلى تنسيقٍ متعدّد الأطراف للسياسات. تتطلّب السياسات التنسيقية بعضًا من القيود على الاستقلالية الوطنية، إلاّ أنّ المكاسب الناجمة عن التنسيق تتفوّق بشكلٍ متزايدٍ على هذه التكاليف حينما يتكثّف الاعتماد المتبادل. دافع الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت عن هذه المسألة في دعوته لممثلّي الدول المتصارعة بخصوص المسائل المالية والنقدية لحقبة ما بعد الحرب في مؤتمر بريتون وودز شهر يوليو 1944. هناك مكاسبٌ عظيمة يمكن تحصيلها من التجارة والاستثمار عبر الحدود، لكن كان يجب على الإقتصاديات المحليّة أن تُحمى من السلوكات الاقتصادية المُخلّة بالاستقرار والتّي تتخذّها حكوماتٌ غير مسؤولة. مثل هذا المنطق صار مطبّقًا بشكلٍ واسعٍ اليوم ضمن النظام الليبرالي الذّي تقوده الولايات المتحدة.

في كلّ مجالٍ من هذه المجالات، تتموضع الولايات المتحدة في مركز هيكلٍ ليبراليٍ من نظامٍ يُوفّر حلولاً مؤسّساتيةً لأغلب مشكلات السياسة العالمية. كانت الولايات المتحدة مناصرًا غير مثاليٍّ (قاصرٍ) لهذه الجهود من أجل تشكيل بيئةٍ عملياتيّةٍ للعلاقات الدولية. في الواقع، فإنّ جزءًا كبيرًا من النقد المُوجّه للولايات المتحدة كرائدٍ عالميٍ ينبع من تصوّر كونها لا تقوم بما فيه الكفاية لتحريك العالم إلى وجهة هذا “الطريق الثالث”، وبأنّ النظام الذّي تعتليه هو نظام هيراركي للغاية. لكن هذه هي المسألة بالضبط، فإذا كان العالم يُنظِّم نفسه للتعامل مع مشكلات القرن الحادي والعشرين، فإنّه سيحتاج إلى البناء على هذا النظام الذّي تقوده الولايات المتحدة، بدلاً من رفضه. وإذا أراد العالم أن يتجنّب تطرّف الأناركية والهيراركية فإنّه سيحتاج أكثر –وليس أقلّ- إلى النزعة الأُممية الليبرالية. لقد استفادت الصين وروسيا ذاتهما من هذا الهيكل، أمّا رؤيتهما الرجعية لنظامٍ ما بعد أمريكي فتبدو أكثر كخطوةً ورجعيةً نحو الخلف أكثر من كونها خطوة نحو الأمام.

2.الإمبراطورية المناهضة للإمبريالية:

الولايات المتحدة قوة عالمية لم يكن لها مثيلٌ من قبل، وهي ميزةٌ ترجع أكثر إلى الطبيعة المتفرّدة لصعودها. إنّها القوة الوحيدة بين القوى العظمى التّي وُلِدت في العالم الجديد (الأمريكيتيْن). خلافًا للولايات المتحدة، تجد القوى العظمى الأخرى، بما فيها الصين وروسيا، نفسها في جوارٍ جيوبوليتيكيٍ مُكتّظ تتصارع قواه من أجل مجالات الهيمنة. من البداية الأولى لمسارها كقوة عظمى، وُجدت الولايات المتحدة بعيدةً عن منافسيها الأساسيّين، كما وجدت نفسها عادةً بشكلٍ متكرّرٍ في مواجهة جهودٍ عنيفةٍ وخطيرةٍ متأتيّةٍ من قوى عظمى أخرى تسعى لتوسعة إمبراطورياتها ومجالات نفوذها الإقليمية. لقد شكلّت هذه الظروف مؤسّسات الولايات المتحدة وطريقة تفكيرها بخصوص النظام الدولي وقدراتها في تصدير القوة والنفوذ باتجاه الخارج.

لطالما منح البُعد عن القوى الأخرى الولايات المتحدة غطاءً لبناء نظامٍ حديثٍ ذو طرازٍ جمهوري. كان الآباء المؤسّسين على وعيٍ تامٍ بهذا التفرّد. بانفصال القوى الأوروربية عنها عبر محيطٍ مائي، صارت التجربة الأمريكية في الحكم الجمهوري محفوظةً من التجاوزات الخارجية. حاجج ألكسندر هاميلتون (Alexander Hamilton) في “الأوراق الفيدرالية” أنّ المملكة المتحدة تدين لموقعها الجغرافي بالفضل لما امتلكته نسبيًا من مؤسّساتٍ ليبرالية، حيث قال: “لو كانت بريطانيا متموقعة (جغرافيا) في القارة (الأوروبية) وكانت مضطرّةً… لجعل مؤسّساتها العسكرية في الداخل متناغمةً مع القوى العظمى الأخرى لأوروبا، لكانت على الأرجح أن تصير مثل هذه القوى حاليًا، ضحيّةً لسلطة الرجل الواحد المطلقة.” كانت الولايات المتحدة محظوظةً على نحوٍ مشابه، فقد كان على نُظرائها الأروربيّين أن يُطوّروا قدراتٍ قويّةٍ للدولة من أجل القيادة والتحريك السريع للجنود والعتاد من أجل شنّ الحروب غير المنتهية للقارّة. أمّا الولايات المتحدة فلم يكن عليها القيام بذلك. بدلاً من ذلك شرعت، كمحاولةٍ ضعيفةٍ منها، في بناء دولةٍ كانت ضعيفةً من الناحية المؤسّساتية ومُقسّمةً (إداريًا بتصميم من صنّاع القرار) من أجل الحيلولة دون صعود الأوتوقراطية داخل الديار. لقد منحت عزلة الولايات المتحدة لها فرصةً للنجاح.

فوق ذلك، منحت الموارد الطبيعة الشاسعة للقارّة الولايات المتحدة إمكانيةً للنمو. بحلول القرن العشرين كانت الولايات المتحدة قد انضمت لعالم القوى العظمى كقوة مُكافِئة لنظرائها الأوروبيّين.

شكلّت التجربة المُحصّنة للولايات المتحدة في الحكم الجمهوري بشكلٍ حتميٍ طريقة تفكيرها المتعلّقة بالنظام الدولي. إنّ إحدى الأمور المُقلِقة الأقدم في التقليد الجمهوري-الليبرالي (التّي لاحظها مُنظّرو الحقبة القديمة والحديثة) هو ذلك الأثر الوخيم الذّي تُحدثه الحرب وسياسة القوة والنزعة الإمبريالية على المؤسّسات الليبرالية. تاريخيًا، ظلّت الجمهوريات حسّاسةً وضعيفةً تجاه الحتميات غير الليبرالية والمحفزّات المتولّدة عن الحرب والمنافسة الجيوبولتيكية. بإمكان الحرب والتوسّع الإمبريالي أن يقودا إلى العسكرة وفرض نظامٍ صارمٍ على المجتمع ويفتحا الباب لنشوء “الدولة الحامية” (Garrison State)، فحماية الاستقلال الوطني من شأنه أن يكون سببًا للحدّ من الحريات. في الحقيقة حاجج الآباء الأمريكيين من أجل إرساء إتّحادٍ بين المستعمرات، مُصرّرين بأنّ تركها غير مُوحدّةٍ وغير مرتبطة سيجعل الولايات ما بعد الكولونيالية تشعر بالخوف من بعضها البعض وتتجّه بالتالي لعسكرة مجتمعاتها.

لم يُوقف هذا التخوّف الولايات المتحدة طبعًا من الانضمام إلى عالم القوى العظمى أو من أن تصير في نهاية المطاف القوة العسكرية الأكبر في العالم. مع ذلك أبقى هذا الخوف الجمهوري المفهوم الدولي الليبرالي حيًّا، يرجع تاريخ هذا المفهوم إلى إمانويل كانط (Immanuel Kant) وغيره من مفكرّي التنوير، الذّين يرون بقدرة المجتمعات على حماية سبل حياتها بطريقةٍ أفضل من خلال العمل معًا وإنشاء مناطق سلامٍ تدفع الدول الطغيانية والاستبدادية نحو الهامش.

ساعد توجّهٌ كهذا في تشكيل استجابة الولايات المتحدة للظروف الجيوبولتيكية التّي واجهتها كقوة عظمى صاعدة في مطلع القرن العشرين، في عالمٍ تهيمنُ عليه الإمبراطوريات. إنخرطت الولايات المتحدة ذاتها فترةً من الزمن في بناء إمبراطوريةٍ بمنطقتيْ الكاريبي والباسفيك من أجل التنافس مع نظرائها، كأحد الأسباب. في الحقيقة، كانت كلّ قوةٍ عظمى نظيرة خلال تلك الحقبة تُتابع بناء إمبراطوريتها بطريقةٍ أو بأخرى. بلغ هذا النظام العالمي للإمبراطورية ذروته أواخر ثلاثينيات القرن العشرين حينما شرعت ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية في حروب الإعتداءات الإقليمية. إضافةً إلى بروز الإتحاد السوفياتي والإمبراطورية البريطانية مترامية الأطراف، وتجلّي المستقبل على نحوٍ ينقسم فيه العالم بشكلٍ دائمٍ إلى كتلٍ ومجالاتٍ ومناطق إمبريالية.

في ظلّ هذا الوضع القائم للقرن الحادي والعشرين كانت الولايات المتحدة مدفوعةً للنظر بخصوص أيِّ نمطٍ من النظام أرادت جلبه للوجود. إنّ المسألة التّي تصدّى لها الإستراتيجيون الأمريكيون، لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية، هي ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة أن تشتغل باعتبارها قوةً عظمى في عالمٍ تمّ تقسيمه من طرف إمبراطوريات، وإذا ما تمّ الهيمنة على أوروسيا الممتدّة الواسعة من طرف كتلٍ إمبريالية، فهل بإمكان الولايات المتحدة أن تصير قوةً عظمى باشتغالها ضمن النصف الغربي للعالم فحسب؟ إتّفق صنّاع السياسات والمحلّلين على عدم إمكانية ذلك، فلتكونَ قوةً عالميةً سوف تحتاج الولايات المتحدة لأن يكون لها قابليةُ وصولٍ إلى الأسواق والموارد في كلّ ركنٍ من أركان العالم. قادت الضرورات الاقتصادية والأمنية المُحتَّمة إلى هذه الحجة، بنفس القدر الذّي فعلت المبادئ السامية.

كانت الولايات المتحدة قوةً متفرّدةً بين نظرائها في استخدام قوتّها وتموضعها من أجل تقويض النظام الإمبراطوري العالمي. لقد صنعت أحلافًا وأحدثت صفقاتٍ مع الدول الإمبريالية في لحظاتٍ عديدةٍ وشرعت في المضيّ نحو مسارٍ إمبراطوري قصير المدّة في مطلع القرن العشرين في أعقاب الحرب الإسبانية-الأمريكية. إلاّ أنّ الحافز المهيمن للاستراتيجية الأمريكية طيلة هذه العقود تمثّل في السعي إلى تجسيد هيكلٍ ما بعد إمبراطوري لعلاقات القوى العظمى، لبناء نظامٍ دوليٍ من شأنه أن يكون مفتوحًا ومستقرًا تسود الصداقة والودّ بين فواعله: مفتوحًا، بالمعنى الذّي كانت فيه التجارة والتبادل أمرًا ممكنًا عبر الأقاليم. تسوده الصداقة، بالمعنى الذّي لا تكون فيه أيٌّ من هذه الأقاليم خاضعة للهمينة من طرف قوةٍ عظمى منافسة غير ليبرالية سعت إلى غلق مجال نفوذها أمام العالم الخارجي. مستقرًا، بالمعنى الذّي يصير فيه النظام ما بعد الإمبراطوري مترسّخًا في جملةٍ من القواعد والمؤسّسات متعدّدة الأطراف ستمنحه شيئًا من الشرعية الواسعة والقدرة على التكيّف مع التغيّر وقوة البقاء من أجل الاستمرار بشكلٍ جيّدٍ متجّها نحو المستقبل.

لقد منح الموقع الجغرافي للولايات المتحدة وصعودها كقوة في عالم الإمبراطوريات الفرصة لإرساء إستراتيجية متميّزة لبناء النظام. تمثّلت ميزتها النسبية في موقعها الجغرافي المحمي بالبحار وقدرتها على تشكيل أحلافٍ خارجيةٍ وشَرَاكاتٍ لتقويض العروض المُقدَّمة من طرف القوى العظمى الأتوقراطية والفاشية والإستبدادية في شرق آسيا وأوروبا لأجل الهيمنة. تشعر العديد من البلدان في هذه الأقاليم اليوم بالقلق أكثر من أن تتعرّض للتخلّي من طرف الولايات المتحدة، أكثر من قلق الهيمنة عليها من قِبَلِها. كنتيجةٍ لذلك، فإنّ التحالفات التّي تُوفّر أصولاً ثابتةً، على غرار القواعد العسكرية والانتشار المتقدّم للقوات، تُوفّر شركاءً لا يحظون بالأمن فحسب، بل بيقينٍ أعظم بالالتزام الأمريكي تجاههم أيضا. يمنح هذا التلاقي بين الظروف الجغرافية والسمات السياسية الليبرالية للولايات المتحدة قدرةً فريدةً للعمل مع بقيّة الدول. تحظى الولايات المتحدة بأكثر من 60 شراكةً أمنيةً في كلّ أقاليم العالم، بينما لا تحظى الصين سوى بعلاقاتٍ أمنيةٍ متناثرةٍ هنا وهناك مع جيبوتي وكوريا الشمالية وبلدانٍ أخرى قليلة.

3.القوة الجماعية المشتركة:

لا تعتمد أحقيّة الولايات المتحدة في قيادة النظام على ما أنجزته واشنطن عبر هذا النظام فحسب، بل على الكيفية التّي أنشأت بها هذا النظام وخرجت به إلى الوجود. لم تصر الولايات المتحدة قوةً عظمى من خلال الإحتلال. بدلاً من ذلك فقد انتهزت الفرصة باغتنام الفراغات الجيوبولتيكية التّي أنشأتها نهاية الحروب الكبرى التّي شكّلت السلام. حدثت هذه اللحظات بعد الحربين العالميتين وبعد الحرب الباردة، حينما تركت الاضطرابات في علاقات القوى العظمى النظام العالمي وعالم الإمبراطوريات القديم في حالةٍ يُرثى لها. في هذه المراحل الفارقة أظهرت الولايات المتحدة قدرةً على بناء إئتلافاتٍ من الدول للتوصّل إلى قواعد جديدةٍ للنظام الدولي. خلال القرن العشرين تمكّنت هذه المقاربة الإئتلافية، المتوجّهة نحو التسوية من أجل بناء النظام، من التغلّب على الجهود العدوانية للقوى العظمى غير الليبرالية المنافسة من أجل تشكيل المستقبل، حيث عملت الولايات المتحدة مع ديمقراطياتٍ أخرى من أجل إنتاج مخرجاتٍ جيوبولتيكية مُواتية. يستمر أسلوب القيادة هذا في منح الولايات المتحدة ميزةً في تشكيل قواعد النظام العالمي اليوم.

خلال اللحظات المحورية الثلاث من القرن الماضي (بعد الحرب العالمية الأولى وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الإتحاد السوفياتي) وجدت الولايات المتحدة نفسها في صفّ الطرف الفائز بالصراعات الكبرى. كان النظام القديم في تلاشي، بينما كان لزامًا أن يتّم بناء شيءٍ جديدٍ ما. في كلّ حالةٍ من هذه الحالات، هدفت الولايات المتحدة للقيام بشيءٍ أكثر من مجرّد إستعادة توازن القوة، لقد رأت نفسها في صارعٍ ضدّ قوى عظمى مُعتدية غير ليبرالية، مُنافسةً من أجل مبادئ النظام العالمي ومُرافعةً لأجل نمط الحياة الليبرالية الديمقراطية. في كلّ حالة من هذه الحالات تمّ تأطير الحشد من أجل الحرب وتنافس القوى العظمى باعتباره تنافسًا للرؤى والأفكار.

إختارت الولايات المتحدة أن تمارس قوتّها في هذه اللحظات التاريخية الحاسمة من خلال العمل مع بقيّة الديمقراطيات. في سنوات 1919 و1945 و1989، كانت الولايات المتحدة العضو القائم على إئتلاف الدول التّي فازت بالحرب وتفاوضت بخصوص شروط السلام الذّي أعقب ذلك، حيث قادت الحلفاء سنة 1919، ثمّ هيئة الأمم المتحدة، ثمّ “العالم الحرّ” تبعًا. وفرّت الولايات المتحدة القيادة والقوة الماديّة التّي غيّرت الدفّة في كلّ حرب. حاجج عددٌ كبيرٌ من الرؤساء الأمريكيّين بمن فيهم ويلسون وروزفلت وترومان وبوش الأب بأنّ بقاء البلد ورفاهيّته يجب أن ترتكز على بناء كتلةٍ حاسمةٍ من الشركاء والحلفاء المتشابهين، والحفاظ عليها.

في عالم من المنافسين المستبدّين والعدوانيّين الأقوياء، خلصت الولايات المتحدة وبقيّة الديمقراطيات الليبرالية بشكلٍ متكرّر بأنّه من الأكثر أمنًا العمل كمجموعةٍ بدلاً من العمل المنفرد. ذكر روزفلت في يناير 1944: “لقد انضممنا إلى أناسٍ يتشابهون معنا في طريقة التفكير من أجل الدفاع عن أنفسنا في عالمٍ يتعرّض للتهديد بشكلٍ خطر من طرف حُكم العصابات.” أمّا تحالف الولايات المتحدة مع دولٍ مستبدّة أثناء الحرب الباردة فكان هدفه الأساسي في تلك الحقبة هو بناء إستراتيجيةٍ أمريكيةٍ كبرى تتمحور حول الجوهر الديناميكي للدول الليبرالية في شرق آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأوقيانوسيا.

يُنشؤُ التضامن الديمقراطي أيضًا وضعًا من أجل توليد أفكارٍ تقدميّةٍ ومن أجل جذب المساندة العالمية. إنّ الأمن الجماعي (الذّي عرّفه وودرو ويلسون بكونه: “ضماناتٌ متبادلة للاعتماد السياسي المتبادل وسلامة الأراضي للدول العظمى والصغرى على حدّ سواء) والحريّات الأربع (وهي أهداف روزفلت لنظام ما بعد الحرب، أي: حريّة التعبير وحريّة العبادة والتحرّر من الحاجة والتحرّر من الخوف)، وإعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، تُعتبر كلّها أفكارًا كبرى تشكّلت عن المنافسات بين القوى العظمى. إنّ المنافسة الجارية حول النظام العالمي بين الولايات المتحدة ومنافسيها المستبدّين، الصين وروسيا، تُقدّم فرصةً جديدةً للدفع قُدمًا بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية حول العالم.

4.بأرض الوطن، في العالم:

لا تُعتبر الولايات المتحدة قوةً عظمى فريدة فحسب، بل نمطًا فريدًا من المجتمعات أيضًا. خلافًا لمنافسيها من القوى العظمى الآخرين، تُعدُّ الولايات المتحدة بلدَ المهاجرين والتعدّد الثقافي والتعدّد العرقي، أو ما سمّاه المؤرّخ فرانك نينكوفيتش (Frank Ninkovich) “بالجمهورية العالمية” (Global Republic). لقد جاء العالم إلى الولايات المتحدة، كنتيجةٍ لذلك فالولايات المتحدة متصلّةٌ بشكلٍ عميقٍ بكلّ مناطق العالم عبر روابط عائلة وإثنية وثقافية. تُساهم هذه الروابط المُعقدّة والبعيدة في تشغيل عالم الحَوْكَمة والدبلوماسية في الخارج، وتجعل الولايات المتحدة ذات صلةٍ بكلّ بقاع العالم ومنخرطةً فيها، فالولايات المتحدة أكثر قدرةً على فهم العالم الخارجي، كما أنّ العالم الخارجي له حصّةٌ كبرى ممّا يحدث داخل الولايات المتحدة.

يُساهم الخليط الأمريكي لمجموعات المجتمع المدني أيضًا في بناء شبكةٍ عالميةٍ مُمتدّةٍ ومُؤثِّرة. في القرن الماضي صار المجتمع المدني الأمريكي على نحوٍ متزايدٍ جزءًا من المجتمع المدني العالمي المُتسّع. عادةً ما يتّم تجاهل النظر إلى هذا المجتمع المدني المُمتّد العابر للقوميات باعتباره مصدرًا للنفوذ الأمريكي، ومصدرًا لتعزيز التعاون والتضامن عبر العالم الديمقراطي الليبرالي. تحظى الصين وروسيا بشبكاتها السياسية الخاصّة وبمجتمعات “الدياسبورا” الخاصّة بها، إلاّ أنّ المجتمع المدني العالمي يميل إلى تعزيز المبادئ الليبرالية وتضخيم المركزية الأمريكية في المواجهات العالمية حول النظام العالمي.

يأتي المجتمع المدني في مظاهر عديدة، بما فيها المنظمات غير الحكومية والجامعات ومراكز التفكير والجمعيات المهنية والمنظمات الإعلامية والمؤسّسات الخيرية والمجموعات الاجتماعية والدينية. في الحقيقة فإنّ نشاطات هذه المجموعات تُعدّ في منشئها –جزئيًا- إحدى نتائج النظام الدولي الليبرالي ما بعد الحرب.

تستهدف النزعة المدنية العالمية النشطة في العادة الحكومات الغربية، إلاّ أنّ تركيزها على حقوق الإنسان والحريات المدنية يجعل الحكومات الأوتوقراطية تجد نفسها في الغالب تحت الضغوطات. لذا ليس مفاجئًا أن تقوم الصين وروسيا بقمع نشاطات مجموعات المجتمع المدني الدولية داخل حدودهما عبر استخدام أدوات الحكومة (كما يفعل بوتين) من أجل إضعاف الفواعل المدنية وتعزيز منظمات موالية للحكومة. تستخدم الصين عضويّتها في مجلس حقوق الإنسان لكبح وإضعاف دور مجموعات المنظمات غير الحكومية المرافعة لأجل حقوق الإنسان.

5.عملٌ جاري في تقدّم:

نظرًا للاضطرابات الداخلية الأخيرة التّي تعانيها الولايات المتحدة، فقد تبدو هذه المواعظ الداعية لمركزية الولايات المتحدة في القرن القادم شيئًا غريبًا. يبدو بأنّ المشاكل تعصف بالولايات المتحدة اليوم أكثر من أيّ زمنٍ آخر منذ ثلاثينيات القرن العشرين. ففي خضّم الاستقطاب والخلل الوظيفي الذّي يغرق فيه المجتمع الأمريكي فإنّه لمن السهل تقديم سرديةٍ قائلةٍ بتراجع الولايات المتحدة. إلاّ أنّ الدوافع التقدّمية هي ما تُبقي الولايات المتحدة طافيةً صامدة. إنّ الفكرة القائلة بأنّ الولايات المتحدة قامت بتحريك العالم عبر القرن الأخير هي الدافع الكامن وراء ذلك، أكثر من قدرات البلد في حدّ ذاتها. لقد ألهمت المُثل الليبرالية للبلد قادةَ حركات تحرّرٍ عديدين في أماكن أخرى، من ماهاتما غاندي في الهند إلى فيتسلاف هافيل في تشيكوسلوفاكيا إلى نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا. في إحتجاجات هونغ كونغ ضدّ الحكومة الصينية، كان الشباب يُلوحّون بشكلٍ روتيني بالأعلام الأمريكية. لم تُقدّم أيّ دولةٍ أخرى تطمح للقوة العالمية، بما فيها الصين، رؤيةً أكثر جاذبيةٍ لمجتمعٍ يوافق فيه الأفراد الأحرار برضى على مؤسّساتهم السياسية أكثر ممّا فعلت الولايات المتحدة.

يرى آيكنبري بأنّ العالم  يعقد آمالاً على الولايات المتحدة أكثر من أيّ دولةٍ أخرى، بما فيها الصين، فقد حبس العالم أنفاسه أثناء الإنتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2020 وما رافقها من أحداث، بينما عبّر بشكلٍ بسيطٍ عابرٍ عن شجبه حينما إنقلب الزعيم شي جينبينغ على القواعد الطويلة الراسخة للحزب الصيني الشيوعي سنة 2018 مُعلنًا نفسه دكتاتورًا مدى الحياة.

إنّ ما يُبقي الولايات المتحدة في مركز السياسة العالمية هي قدرتها على القيام بما هو أفضل، على حدّ تعبير آيكنبيري، الذّي يرى بأنّ النظام الذّي قادته أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية جعل العالم يتقدّم نحو الأمام، فإذا أرادت الشعوب حول العالم نظامًا عالميًا أفضل يدعم تعاونًا أعظم وتقدّمًا إجتماعيًا وإقتصاديًا أكبر، فإنّها ستريد أن تُحسّن في هذا النظام بقيادة أمريكا، لا أن تستغني عنه.

يرى آيكنبيري بأنّ عمرًا طويلاً لا يزال ينتظر الفكرة الليبرالية، خلافًا لما يظنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذّي يدّعي دومًا بأنّها صارت قديمة. كما يرى الكاتب بأنّ تحمّل التايوانيّين للضغوط الصينية وكفاح الأوكرانيّين ضدّ بوتين ورؤيتهم لمستقبلٍ مشرقٍ لبلدهم مع الإتحاد الأوروبي دليلٌ على أنّ هذيْن المجتمعيْن يريدان أن يكونا جزءًا من النظام الليبرالي العالمي، وليس دليلاً على التراجع الأمريكي أو إنهيار النظام الليبرالي.

6.إمبراطوريةٌ بدعوةٍ من الآخرين ورغبةٍ منهم:

تدخل الولايات المتحدة اليوم صراعًا من أجل تشكيل القرن الحادي والعشرين، وهي تحظى بمزايا عميقة، حيث لا تزال تمتلك الكتلة الضخمة من القدرات المادية التّي حظيت بها في عقودٍ مبكّرة. لا تزال متموقعة من الناحية الجغرافية بشكلٍ فريدٍ للعب دور القوة العظمى في كلٍّ من شرق آسيا وأوروبا. تَمظهرت إمكانياتها على العمل مع ديمقراطياتٍ ليبرالية أخرى من أجل تشكيل القواعد والمؤسّسات العالمية بالفعل في إستجابتها للغزو الروسي لأوكرانيا، كما ستكون في وضعٍ ومكانةٍ جيّدتيْن لإبداء أيِّ استجابةٍ جماعية مستقبلية على الاعتداء الصيني في شرق آسيا. وبالرغم من أنّ روسيا والصين تسعيان إلى تحريك العالم في اتجاه الكتل الإقليمية ومجالات النفوذ، فإنّ الولايات المتحدة تقدّم رؤيةً لنظامٍ عالميٍ قائمٍ على مجموعة من المبادئ بدلاً من التنافس على الأراضي والأقاليم. إنّ النظام الدولي الليبرالي هو سبيلٌ لتنظيم عالمٍ من الاعتماد المتبادل، إنّه ما سمّاه المؤرّخ النرويجي جير لُونْدِسْتَاد (Geir Lundestad) “إمبراطورية بدعوةٍ من الآخرين” (Empire by Invitation)، يعتمد نجاحها على شرعيّتها وجاذبيّتها، لا على قدرة رُعاتها على فرض الطاعة. لو حدث وأن بقيت الولايات المتحدة في مركز السياسة العالمية خلال العقود القادمة، فسيكون ذلك بسبب هذا النمط من النظام الذّي يُولّد مزيدًا من المؤيّدين ورفقاء الطريق عبر العالم مقارنةً بما تُقدّمه الصين وروسيا.

إنّ مواجهة الولايات المتحدة للصين وروسيا في سنة 2022 لهي صدى إضطراباتِ القوى العظمى التّي تمخّضت عنها سنوات 1919 و1945 و1989. خلال السنوات المُبكّرة من هذه التواريخ وجدت الولايات المتحدة نفسها تشتغل مع ديمقراطياتٍ أخرى في مقاومة التحرّكات العدوانية للقوى العظمى غير الليبرالية. تتعدّى الحرب الروسية في أوكرانيا مستقبل أوكرانيا بكثير، إنّها تتعلّق أيضًا بالقواعد والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية. وضعت مقاومة بوتين كُلاًّ من الولايات المتحدة والديمقراطيات في أوروبا وغيرها في وضعٍ دفاعي، لكنّها منحت أيضًا الولايات المتحدة فرصةً لإعادة التفكير والمحاججة بدعوتها لهيكلٍ مفتوح ومتعدّد الأطراف للنظام العالمي.

في نهاية المقال، يدعو آيكنبيري الولايات المتحدة إلى عدم توطيد النظام القديم، ولكن إلى إعادة تخيّله مرّةً أخرى، فعلى القادة الأمريكيّين السعي إلى توسيع الإئتلاف الديمقراطي وإعادة توكيد القيم والمصالح الأساسية، وتقديم رؤية لنظامٍ دوليٍ إصلاحي من شأنه أن يجّر الدول والشعوب معًا إلى أشكالٍ جديدةٍ من التعاون، كحلِّ مشكلات تغيّر المناخ ومشكلات الصحّة العمومية العالمية والتنمية المستدامة. كما يختم الكاتب مقاله بالتأكيد على عدم وجود قوةٍ عظمى أخرى ذات تموضعٍ ووضعٍ أفضل (من الولايات المتحدة) من أجل بناء شَرَاكاتٍ ضروريةٍ وقيادة المسار للتعامل مع المشكلات الكبرى للقرن الحادي والعشرين، “قد توجد قوى أخرى صاعدة، إلاّ أنّ العالم لا يمكنه تحمّل نهاية الحقبة الأمريكية”.

جون آيكنبيري: أستاذ السياسة والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وأستاذ بمدرسة وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية، وهو يشترك أيضًا في إدارة مركز برينستون للدراسات الأمنية الدولية، ويُدّرس كأستاذٍ زائرٍ بالعديد من الجامعات عبر العالم. يُعدّ آكينبري أحد أبرز المنظّرين الليبراليين الجدد المعاصرين في حقل العلاقات الدولية على الإطلاق، ورائد النزعة الأُممية الليبرالية حاليًا، له إسهامات تنظيرية أصيلة، وقدّ تمّ تصنيفه من بين 10 أكثر الباحثين ذوي الإنتاج الأفضل في حقل العلاقات الدولية خلال العشرين سنة الماضية، كما حظي بالمرتبة الثامنة من بين الباحثين أصحاب الإنتاج الأكثر أهميّة خلال السنوات الخمس الماضية. من أبرز كتبه: “ما بعد الإنتصار: المؤسّسات، الكبح الإستراتيجي، وإعادة بناء النظام بعد الحروب الكبرى” (2001)، “الليبرالية المتوحشّة: أصول النظام الأمريكي العالمي وأزمته وتحوّله” (2011)، آخر كتبه المنشورة بعنوان: “عالمٌ آمن للديمقراطية: النزعة الليبرالية الدولية وأزمة النظام العالمي” (2020).

جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكنبيري-صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

منتدى السياسات العربية

وحدة الأبحاث والسياسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى