نحو حراك اجتماعي عربي فاعل

اقرأ في هذا المقال
  • تبدأ المهمة الشاقة لقوى الحراك في مرحلة ما بعد الحراك، عندما تصعد لممارسة السلطة أو عندما تكون شريكا فيها. وهي مرحلة البناء الديمقراطي، والتي ان كتب لها الفشل فستفتح الطريق للعودة بالأوضاع لأسوأ مما كانت عليه

 

 

 


 
شكلت انطلاقة موجة الربيع العربي الثانية حداً فاصلاً بين نهايات مسار ثوري متعثر، وانطلاق مسار إصلاحي لا يزال قيد التفاعل، عبر عنه بـالحراك، وهو اصطلاح يشي بعبقرية تكيف العقل الجمعي العربي مع الأحداث. غير أن زخم لحظة التحول الكبير الحاصلة في بعض الأقطار العربية، يضع النخبة أمام مسؤولية ترشيد الحراك وعقلنته حتى يبلغ أشده ومأمنه ليكون قادرا على تجاوز مأزق الفاعلية والتنظيم، وليكتسب القدرة على قراءة بنية نظام الحكم الذي يقف في مواجهته بشكل سلمي، بالإضافة إلى استيعاب استراتيجياته الكبرى للاحتواء والتوريط، لينتقل بعد ذلك من طور تفكيك بنية نظام الحكم دون إسقاط الدولة، إلى طور ممارسة السلطة أو جزء منها.

هنا تقف قوى الحراك أمام معضلة تأمين المنجزات ومواصلة مسار الانتقال الديمقراطي، الأمر الذي يتطلب خيارات دقيقة بين تقديم الشأن الاقتصادي أو الشأن السياسي، وتحديات تقوية المجتمع المدني، والالتحاق بالتكتلات الإقليمية الداعمة لمسار الانتقال والمناهضة للانقلابات العسكرية.

مقدمة:

  بين إكراهات الإمكان وتطلعات المأمول، انطلقت موجات أخرى من التظاهرات العارمة في دول عربية مثل السودان والجزائر ولبنان والعراق، مستبطنة رصيد ثورات وانتفاضات الموجة الأولى من ناحية، وتسودها عناوين أكثر تخففا من عبء الثورة، وشعارات أكثر تحفيزا للإصلاح السياسي والاقتصادي المتدرج من ناحية أخرى. انطلقت الحراكات الشعبية فأنهت حقبة حكم امتدت لعشرين عاما في الجزائر، وأخرى امتدت لثلاثين عاما في السودان، في وقت لا يزال فيه التدافع قائما في لبنان والعراق.

  بيد أن التحديات التي تواجهها قوى الحراك الصاعد تحتاج كثيرا من التأمل بهدف الترشيد والعقلنة، فهشاشة البيئة السياسية التي خلفها الاستبداد المزمن جعلت من الكتل البشرية الهائلة أشبه بتجمعات هلامية فاقدة للتنظيم والقيادة، في مواجهة سلطة منظمة ومسلحة بأدوات التحكم والسيطرة، تعرف أدق التفاصيل عن الشعب، ولا يعرف هو عنها في المقابل إلا النزر القليل، وتحترف التعاطي مع الحشود الكبرى وهو مبتدئ عشوائي التحرك.

وان كتب نجاحا للحراك، برزت أمامه تحديات ممارسة السلطة، فيقع في مصيدة اضطراب سلم الأولويات بين الاقتصادي والسياسي، ويعجز عن تحرير طاقات المجتمع المدني وإعادة تشكيله بما ينسجم مع أهداف الحراك، ووقوعه رهينة لحالة الانكفاء على الذات إزاء التكتلات الإقليمية والدولية التي يمكن أن تكون داعما لمرحلة الانتقال الديمقراطي.

عبقرية تكيف العقل الجمعي العربي: مصطلحات الانتفاضة، والثورة، والحراك نموذجا

 كان الاصطدام بين الجماهير ونظم الحكم مدويا في بدايات الربيع العربي، وقد ساهمت الأعداد الغفيرة للمتظاهرين – والتي كان يستحيل التعامل معها أمنيا بشكل حاسم- في رفع سقف المطالب، وفي توصيف الحالة ذاتها أيضا. لقد تماهى التوصيف مع أعداد الحشود وملحمية المشهد فاصطلح على تسمية الظاهرة بالانتفاضات والثورات، ولكن سرعان ما تكيف المصطلح تحت وطأة الخيبات المتتالية في كل من سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن، ليظهر في اصطلاح يراعي الواقعية والتدرج في مواجهة الطرف الأقوى، الدولة بكل أدواتها الناعمة والخشنة.

 استخدمت الموجة الثانية من الربيع العربي التي انطلقت في كل من الجزائر، ولبنان، والعراق، مصطلحا مغايرا، هو مصطلح “الحراك”، في تطور لافت يدل على حركية العقل الجمعي العربي، أو كما يسميه إيميل دوركايم (1858-1917)  “الوعي الجماعي”، هذا العقل الجمعي، الذي يتميز بالذكاء، راكم تجارب السنوات الأخيرة ليصوغ مصطلحا أكثر دقة في مواجهة الدولة المتغولة كما يصفها كارل ماركس، من أجل تخفيف وطأة مقاومتها.

 كان من جوانب عبقرية المصطلح الجديد أيضا، إرسال رسائل طمأنة للجماهير كي تخرج وتتظاهر وتعبر عن احتجاجها، دون تحميلها تبعات الثورة والانتفاضة والتي رأت نتائجها الوخيمة في الأقطار المجاورة. وهنا لعب مصطلح “الحراك” دوره النفسي في مخاطبة العقل اللاواعي لدى كل متظاهر، بما يحمله من مضامين ترتبط بمسار إصلاحي تدرجي بدل المسار الثوري الجذري.

هل يتهيكل حراك في ظل طبقة سياسية هشة؟

من المفارقات التي تقع بين المسار الإصلاحي والمسار الثوري أن المتعاطفين مع الأخير، يحرضون عليه دون استيفاء شروطه، كالشرط المتمثل في وجود تنظيم سياسي / مجتمعي ثوري يقود الثورة، مع مسار طويل لتفكيك بنية النظام وإضعافه. ان الفصل بين المسارين هام للغاية لأنه يجنبنا انتظار التنظيمات والحركات الإصلاحية حتى تتبنى وتقود مسارا ثوريا، أو على العكس من ذلك –وهو نادر- أن تتبنى وتقود مسارا إصلاحيا.

تعتبر قضية تنظيم وهيكلة وتأطير الحشود البشرية الهائلة في تنظيم واحد أو تنظيمات سياسية / اجتماعية متعددة، واحدة منأبرز التحديات التي تواجه الحراك. لقد أخذت هذه القضية حيزا واسعا من التركيز الإعلامي في دول الحراك العربي الأخير، إلا أنها مسألة شبه مستحيلة من ناحية التطبيق، لأن نظم الحكم سواء في العراق أو لبنان أو الجزائر وقبل ذلك في سوريا وتونس واليمن ومصر، جرفت الحياة السياسية على مدار سنوات طويلة، وقتلت في المواطنين الرغبة في العمل السياسي، وزرعت اليأس في نفوسهم، وعملت على تنفيرهم من العملية السياسية برمتها، فلما خرجت الجماهير الى الشارع، كان لها القدرة على صناعة اللحظة الفارقة التي تجسد قفزة نفسية كبيرة مردها إلى العقل الجمعي الذكي، لكن وبسبب افتقادها لتنظيم سياسي قوي سرعان ما تلاشت الحشود أو انقسمت فيما بينها انقساما حادا، لافتقادها للتنظيم الذي يحافظ على الزخم ويغذي النفس الطويل في النضال.

“يستحيل هزيمة نظام حكم يمتلك كل الأدوات ويتحلى بالتنظيم المحكم من قبل ملايين الناس اذا كانوا مفتقدين للأدوات وللتنظيم”، هذه قاعدة ذهبية لترشيد الحراك وعقلنة مطالبه. أما في ظل استحالة تأطيره وهيكلته بشكل سريع يستجيب للتحديات الراهنة، فلامناص من الاستثمار فيه كمتغير عشوائي يقلق أنظمة الحكم ويجعلها تحت الضغط باستمرار، وذلك من خلال اغتنام أخطاء السلطة وتنظيم حملات دعائية وإعلامية ضدها، لتبقى وتيرة الشارع متحركة، بالإضافة لاكتساب هوامش حريات تقدمها السلطة تحت الضغط، وفق ما يعرف بنظرية اختراق المساحات، وهي النظرية الأكثر توافقا مع مصطلح الحراك، بدلا من نظرية القفز العالي الأكثر توافقا مع مصطلح الثورة.

 تردد بعض النخب في الجزائر مقولة أن “نظام الحكم يدرك جيدا تركيبة الشعب، والشعب لا يدرك جيدا تركيبة النظام”، وهذا العجز عن قراءة تركيبة السلطة ورصد التحولات بين أجنحتها يؤثر سلبا على اتجاهات الحراك ويدفعه لارتكاب أخطاء قاتلة، ولا سبيل لترشيد الحراك إلا بقلب هذه المعادلة عن طريق توظيف جهود النخب من الأساتذة والباحثين وحتى السياسيين المعارضين والعسكريين السابقين الذين يعرفون دهاليز النظام وأجنحته المتصارعة.

القدرة على قراءة مدى التحولات ودرجة الاستعداد داخل بنية السلطة

 قبل حراك 22 فبراير المليوني في الجزائر، كانت الاستعدادات على قدم وساق للذهاب نحو عهدة خامسة للرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة. لكن الموقف الذي اتخذته المؤسسة العسكرية والأمنية كان ملفتا، إذ أمنت الحراك ولم تقمعه، ودفعت ببوتفليقة للاستقالة وأنهت بذلك حكما دام عشرين عاما، كما ساهمت في سجن ومحاكمة عشرات الضباط البارزين وكبار مسؤولي الدولة من المحسوبين على جناح بوتفليقة.

 ولم يكن أغلب الجزائريين ينتظر مثل هذا الموقف، بسبب الذاكرة الطرية التي تحيلهم لخبرة سابقة مع المؤسسة العسكرية التي انقلبت على المسار الانتخابي عام 1992، وأدخلت البلاد في دوامة من العنف والعنف المضاد عرفت بالعشرية السوداء. غير أن الراصد المتعمق يدرك أن هناك تحولين بارزين أديا إلى هذه النتيجة، تحول على المستوى الشعبي، حيث أن أغلب المشاركين في الحراك منذ بدايته هم من الجيل الجديد الذي لم يعايش أحداث العشرية السوداء الدامية، فمن ولد سنة 1999 عندما اعتلى بوتفليقة العرش، أصبح في العشرين من عمره سنة 2019.

أما التحول الثاني فكان انعكاسه على المستوى القيادي للمؤسسة العسكرية والأمنية، فمنذ العام 2013، طرأت عليها تحولات جذرية متمثلة في التقليص التدريجي لصلاحيات رئيس المخابرات – المدان والمسجون حاليا- والذي أقيل في عام 2015، مع إحداث تغييرات كبيرة هدفت للتخلص من أغلب الضباط المحسوبين عليه في الجيش والأمن.

 أدى انخراط الجيل الجديد في الشأن العام من جهة، والتغيير الذي شهدته المؤسستين العسكرية والأمنية من الجهة الأخرى إلى صورة جديدة في الجزائر، لا تزال تتفاعل أحداثها حتى اليوم. وينطبق ذلك على ما سماه المفكر مالك بن نبي في كتابه “وجهة العالم الإسلامي” باللحظة الدورية أو لحظة التحول الجيلي. غير أن مواصلة الحراك الشعبي لجني ثمار التغيير الإيجابي يرتبط بالمقدرة على قراءة التحولات الجارية في بنية السلطة، ومدى استعدادها لتقديم مزيد من التنازلات. 

وتعتبر القدرة على قراءة التحولات داخل السلطة مسألة في غاية الأهمية، وتأتي عن طريق المعلومة أو التحليل، وهي تمثل معطى داخليا يكمله المعطى الخارجي، والمتمثل في القدرة على الاستيعاب والتعامل مع السلوك الخارجي للسلطة في مواجهة الحراك.

فهم استراتيجيات السلطة في التعامل مع التحركات الشعبية العارمة

 تتعامل أنظمة الحكم مع التحركات الشعبية العارمة وفقا لثلاث استراتيجيات كبرى، هي:

  • الاستثمارحيث يستثمر جناح من أجنحة النظام في الحراك بهدف تصفية الأجنحة الأخرى، ويسلم السلطة للشعب تدريجيا، وهذا ما يسمى بالديمقراطيات العسكرية، ويعتبر تحولا إيجابيا.
  • الاستخدام والتوظيف: يستخدم جناح من أجنحة السلطة الحراك لتصفية الأجنحة المنافسة الأخرى والسيطرة على السلطة بشكل كامل وهو تحول سلبي.
  • التوريط: تذهب السلطة بالحراك نحو العنف، أو تمكنه من السلطة مؤقتا ثم تغرقه بعوامل الفشل كي يتسنى لها العودة لممارسة السلطة من جديد، بطلب ممن انتفض عليهم مسبقا. ويعتبر التوريط أكثر الاستراتيجيات خطرا على الحراك، اذ يمكنها من اصابته في مقتل، وقد تساهم في تأجيل عملية التغيير الديمقراطي لجيل آخر.

وكلما ازداد وعي جموع ونخب الحراك بهذه الاستراتيجيات، ساهم ذلك في بناء استراتيجيات مضادة أنجع. وإذا ما توفرت المؤشرات التي تدلل على أن جناحا من السلطة يستثمر الحراك لتصفية الأجنحة الأخرى، هنا يلعب الوعي الجمعي للحراك دورا هاما في إفساح الطريق لهذا المسار أن يكتمل إذا ما قدر أن الجناح المستثمر أقل سوءا من الجناح المراد تصفيته. فإذا استمرت المؤشرات في التدليل على مسار لتسليم السلطة تدريجيا للشعب، استمر التواؤم الشعبي مع السلطة حتى استكمال عملية البناء الديمقراطي.

أما إذا ظهرت بوادر ومؤشرات استراتيجية التوظيف والاستخدام فلا مناص منمواصلة النضال، مع التركيز على العناصر الآتية:

  • التركيز على المشترك وتجنب التمايزات الطائفية والعرقية بين أطراف الحراك.
  • تفكيك أدوات السلطة دون هدم الدولة.
  • بناء تنظيم للحراك بشكل تدريجي؛ ينطلق من الأحياء، ثم المدن ثم الجهات ثم الوطن.
  • القبول بما توفر من هوامش للحريات وشغلها بالكامل، والاستمرار في التدافع والمطالبة، مع المراعاة لقانون التدرج في البناء الديمقراطي.

لا شك في عسر وتعقيدات مسار التحول الديمقراطي، لاسيما في مراحله الأولى والتي تتركز على تفكيك المنظومة الحاكمة، وأصعب منه مرحلة ما بعد الحراك ومرحلة بناء النموذج البديل لمنظومة الحكم السابقة. وإذا ما ارتكب الوافدون الجدد إلى السلطة الأخطاء في هذه المرحلة الدقيقة، فإنهم ربما يخاطرون بالعودة إلى أوضاع أكثر سوءا مما كانت عليه، وفي التجارب المصرية، والليبية واليمنية خير مثال على ذلك. إن التعرف على الأولويات وحسن ترتيبها في هذه المرحلة مهم للغاية ليبلغ الحراك مأمنه، وفيما يلي عناصر قضايا جوهرية لتحقيق ذلك.

أولوية الاقتصادي على السياسي لتثبيت دعائم التجربة الديمقراطية:

تقترف السلطة الجديدة المنبثقة عن الحراك خطأ استراتيجيا عندما تقدم السياسي على الاقتصادي، وعلامات ذلك الإغراق في التركيز على كتابة الدستور وإشكاليات الهوية وإعادة النظر في شكل النظام السياسي والعلاقة بين السلطات. لأنه من الأحرى أن يتم التركيز على النهوض بالأوضاع الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وتحقيق الرفاه لهم بما توفر من إمكانيات سياسية وقانونية متاحة. ويمكن أن نطلق على ذلك استراتيجية التوريط النفسي الإيجابي، وهي تشبه سياسات التوريط الاقتصادي التي تلجأ إليها بعض الدول مع خصومها بغرض إفراغ أي عقوبات اقتصادية محتملة من محتواها، لأن الطرف المُحاصِر يخسر إذا تسبب في خسارة للطرف المُحاصَر.

وتستهدف استراتيجية التوريط النفسي الإيجابي للجماهير صناعة تيار شعبي عريض داعم للسلطة المنتخبة الجديدة، يحصنها من محاولات إسقاطها من طرف القوى التي فقدت السلطة.

تقوية المجتمع المدني:

من أبرز سمات التحول الديمقراطي تحول قوانين الحريات العامة من الانغلاق إلى الانفتاح، وعلى رأس قوانين الحريات العامة قانون الأحزاب السياسية، فكلما اتجه نحو تبني نظام الإخطار في تأسيس الأحزاب السياسية ساهم ذلك في توسيع هامش الحرية للمواطنين وعزز انخراطهم في العمل السياسي.

إن فك الارتباط بين حرية العمل السياسي والسلطة القائمة من شأنه أي يقوي المجتمع المدني بشكل مضطرد مما يعيد تشكيل الواقع السياسي خلال فترة زمنية متوسطة، ويعتبر النضال من أجل تغيير قوانين الأحزاب السياسية باتجاه تبني نظام الإخطار واجب على القوى السياسية التي يفرزها الحراك وتصل إلى إدارة الشأن العام أو جزء منه.

الانخراط في تكتلات دولية تضغط لتحقيق الإصلاح في العلاقة بين المدني والعسكري:

 من ضمن العوامل التي ساهمت في الدفع بعجلة الإصلاح الديمقراطي إلى الإمام في تركيا، مسار التوجه للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، حيث شكل هذا التكتل الإقليمي بما يشترطه من معايير اقتصادية وسياسية رافدا مهما لإنجاز الكثير من الإصلاحات في تركيا، لاسيما ما تعلق منها بشفافية العمليات الانتخابية والعلاقات بين المؤسسات المدنية المنتخبة والمؤسسات العسكرية والأمنية. ويعتبر غياب مثل هذه التكتلات الإقليمية الداعمة للديمقراطية على المستوى العربي من الإشكاليات التي تعيق عملية التحول في المنطقة. وإن كانت توجهات منظمة الاتحاد الأفريقي – إلى أمد قريب- تناهض الأنظمة السياسية التي تأتي بانقلابات عسكرية وتوقف عضويتها في الاتحاد، كما حدث مع مصر بعد انقلاب 2013، لكن سرعان ما تراجع عن هذه الإجراءات في مواجهة هذه الدول، بل تولت مصر رئاسة الاتحاد بعد ذلك.

يعتبر إصلاح جامعة الدول العربية كتكتل إقليمي جامع للدول العربية أمرا بعيد المنال، نظرا للوضع العربي الراهن، لذلك فإن توجه السلطات التي يفرزها الحراك في بعض الدول العربية نحو إعادة تفعيل إجراءات مناهضة للانقلابات العسكرية في نظام الاتحاد الأفريقي أمر في غاية الحيوية، لأنه يبني تكتلا إقليميا محصِّنا للتحول الديمقراطي في القارة الأفريقية برمتها.

خاتمة وتوصيات:

لا تزال الموجة الثانية من الربيع العربيقيد التفاعل، في دول غير تلك التي بدأت الموجة الأولى فيها، وقد تكيف العقل الجمعي العربي مع سجال الثورة والثورة المضادة وحصادهما المرير في معظم الأقطار، فلطف من وقع الفعل عندما سماه حراكا، وتمسك بالسلمية خيارا لا رجعة فيه. كما واستفادت أنظمة ما بعد الموجة الأولى من التجربة عند نظيراتها، فخففت من حدة القمع وأعطت الأولية للمناورة السياسية واغتنمت فرصة صعوبة هيكلة وتنظيم الحراك ولعبت على تناقضات مكوناته.

 وفي زحمة هذه الأحداث المتفاعلة تحتاج قوى الحراك إلى أن تحدد مسارها بدقة وترتب بناء عليه الأدوات اللصيقة به. هل ما ستخوضه القوى المجتمعية مسارا ثوريا أم مسارا إصلاحيا؟ ولسطوة المصطلحات آثارا مهمة في هذا الصراع، فلو اقتنعت شرائح واسعة من الحراك أنها تخوض نضالا إصلاحيا لراعت سنة التدرج، واحتلال المساحات الفارغة والهوامش التي يتركها نظام الحكم، ولكانت الغلبة للغة التوافق واقتسام السلطة بدلا من الصدام والمغالبة والاستئثار بالسلطة. والسبيل إلى تشخيص المسار والتوعية به يكون عبر توظيف نخب الحراك في الدعاية والإعلام لتنوير الرأي العام، عبر كافة الوسائط الإعلامية.

تحتاج قوى الحراك كذلك، إلى أن تركز على المشترك فيما بينها وأن تصمم حملات إعلامية ودعائية حفاظا على وحدة الأهداف وزخم الحراك، وأن تبذل نخبها الجهد الكبير للتعرف والتعريف ببنية نظام الحكم وأدواته، ولا يكفي هنا دور الباحث والأكاديمي، وإنما يتم إشراك السياسيين والعسكريين السابقين الملتحقين بالحراك.

لا ينجحالمسار الإصلاحي دون إرادة سياسية داخل أروقة النظام، وتعتبر القدرة على قراءة التحولات داخل بنية السلطة مهمة للغاية. ويتحقق ذلك من خلال الدور الذي تلعبه نخب الحراك في تحليل المعلومة والإشاعة وقراءة مواقف الأطراف الداخلية والخارجية للصراع، بالإضافة الى التعرف على استراتيجيات السلطة في التعامل مع الحراك والتحرك على ضوء ذلك بسياسات متماهية أو مضادة.

وتبدأالمهمة الشاقة لقوى الحراك في مرحلة ما بعد الحراك، عندما تصعد لممارسة السلطة أو عندما تكون شريكا فيها. وهي مرحلة البناء الديمقراطي، والتي ان كتب لها الفشل فستفتح الطريق للعودة بالأوضاع لأسوأ مما كانت عليه. في هذه المرحلة الدقيقة، ومن خلال إمعان النظر في التجارب الناجحة للانتقال الديمقراطي، يجدر بقوى الحراك الصاعدة أن تعطي أولوية للشأن الاقتصادي على حساب السياسي، لتصنع حاضنة شعبية واسعة لها، تساهم في تحصينها ضد اهتزازات الانتقال والثورة المضادة، بالإضافة الى مقاومة الهشاشة السياسية التي قد تستفيد منها قوى الاستبداد والفساد في إعادة الهيكلة. كما تحتاج قوى الحراك الصاعدة للسلطة إلى تقوية المجتمع المدني عن طريق فتح المجال لتأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات بكل حرية.

لا شك أن للعامل الخارجي تأثيره المحوري في عملية الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، لذلك فإن سعي قوى الحراك الصاعدة للسلطة إلى الالتحاق بالتكتلات الإقليمية الداعمة للانتقال الديمقراطي والمناهضة للانقلابات العسكرية ضروري للغاية.

 

 

 

 

عمرو روابحي

الأستاذ والباحث في حقوق الإنسان- الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى