العشرية الدستورية ورهان التوفيق بين السلطة والمجتمع.. هل انسجمت الممارسة مع الأماني في المغرب؟

الحبيب استاتي زين الدين

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض، مراكش، المغرب



ملخص:

تحاول هذه الورقة مناقشة مدى انسجام “الأماني المنتجة” من قبل الدستور مع الممارسة ورهانات التحوّل إلى الديمقراطية بعد مرور أزيد من عشر سنوات على نفاذه. وتنطلق من مسلَّمة مفادها أن الدستور، أيّ دستور، يكون قبل ميلاده الرسمي أو أثناء اللحظات الأولى لتفعليه حمّالًا لبذور تطوير الحياة السياسية وتأهيل الفاعلين، لكن الممارسة وحدها من تُعين على تفعيل الأفكار الدستورية الجديدة، والقطع مع القراءات الماضوية أو الخطابات الشعبوية أو التأويلات السياسية الضيقة. وتجادل بأن نسبة الإصلاحات الدستورية لعام 2011 في المغرب إلى طرف بعينه دون آخر ينطوي على مغالطة وجب الانتباه إلى تهافت حججها؛ ذلك أن المبادرات المعلن عنها أسهمت فيها قوى متعددة، رسمية وغير رسمية، وإن كان ميزان القوة يفرض التسليم بالتفاوت في القدرة التأثيرية لكل واحدة منها. واستنادًا إلى مؤشرات ملموسة، يتبيّن أن الإقدام على الإصلاح الدستوري يحيل على ثلاثة أبعاد متداخلة، وهي التراكم والاستباق وطبيعة التوافق، وهي بمثابة رسائل تفيد أن مصير الديمقراطية غير مقيّد بقوى تاريخية وبنيوية لا غير، وإنما هو أيضًا نتاج نضال وجرأة وتعاقدات وخيارات وطنية، يجب أن يلتزم بها الفاعلون السياسيون؛ لأن وقائع عدة تكشف أن الانبهار بما حفل به الدستور من تجديدات، سرعان ما اصطدم، تبعًا لتفعيل فصوله، بهشاشة “القطائع” التي سعى إلى إرسائها.

مقدمة

عـــندما كان كونفوشيوس Confucius يُــــردِّد مبدأ تبرير الأسماء والصفات مُطالِبًا الناس بعدم الحياد عن وظيفتهم الاجتماعية وقدراتهم البيولوجية، فإنه لم يكن، بتعبير بيير بورديو Pierre Bourdieu، إلا كاشفًا عن حقيقة طقوس الدخول إلى المؤسسات(( بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ط 3 (الدار البيضاء: دار توبقال، 2007)، ص .27 ))، وكذلك الخروج منها؛ حقيقةٌ وُجدت قبله ودامت بعده، وتُلزم الكثيرين إلى يومنا هذا، بغضّ النظر عن مستواهم العلمي والاجتماعي، بالامتثال لقواعد اللعبة الظاهرة أو الضمنية وما تنتجه من رسائل مادية ورمزية. وعلى الرغم من تقييدات الموضوعية العلمية، لا بدّ من الاعتراف بصعوبة الإفلات من هذا المنطق الذي لا يزال يؤثر في الاجتماع والسياسة لاعتبارات عديدة تتباين مستويات تأثيرها ووجودها من مجتمع لآخر، وإن كان الأمر أكثر وضوحًا في تجربة البلدان التي خضعت للاستعمار وبعد الاستقلال للتسلّط وتعثرات الإعمار. أليس ما تعيشه معظم دساتير الحراك العربي بعد أزيد من عشر سنوات من اتساع فجوات التفعيل أبرز دليل على أن السرديات لم تهجر بعد -دون تعميم- جزءًا كبيًرا من التشريع والفقه وحتى العلم نفسه الذي قد يُحشر، طوعًا أو كرهًا، في التبرير أو التأييد أو إضفاء المشروعية؟ ما من شكٍّ أن الأساطير أو الطقوس لا يمكن أن تكون أساسًا لأيّ علم(( ميشال مياي، دولة القانون: مقدمة في نقد القانون الدستوري، ط 2 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1982)، ص .10))، لكن تجاهلها في فهم النصوص وتأويلها قد ينتج أساطير جديدة من شأنها أن تجعل العلم معزولًا عن واقعه، والقانون عن ثقافته. وكيف لعاقل أن ينكر ذلك وسياسيو العصر الراهن، إذا جاز استحضار أفكار إرنست كاسيرر Ernst Cassirer((Ernst Cassirer, The Myth of the State, Gesammelte Werke III; Band 25 (Hamburg: Felix Meiner Verlag, 2008), p.))، يتميزون بقدرتهم على الجمع بين ما هو أسطوري – لا عقلاني من جهة؛ لأن الأسطورة هي “نتيجةٌ فاعليةٌ غير واعية وإنتاجٌ حرٌّ للخيال”؛ وما هو تقني- مهاري في الصناعة الحديثة من جهة أخرى((فؤاد خوخ، “أفول العقلانية في زوبعة الأساطير السياسية”، المستقبل العربي، العدد 437 (تموز/ يوليو 2015)، ص .19))، بالنظر إلى وجود “صنّاع ماهرين وحاذقين” قادرين على اصطناع أشياء وخلق كلمات((Ernst Cassirer, An Essay on Man: An Introduction to a Philosophy of Human Culture (New York: Bantam Matrix, 1970), p. 122.)) تتناسب مع اللحظة التي تنشأ فيها والثقافة التي تتلقاها.

ولأن مجتمعات عديدة حافظت على موروثها الثقافي وطوّرت تقنيات جديدة في توظيف بعض تراكماته وإدامتها في كل الحقول تقريبًا، لن أدّعي إمكانية الفصل بين القانون ومفهوم الثقافة، كما يستخدمها الأناسيون المعاصرون، بوصفها الوسيلة التي يعّبر بها الناس عن أنفسهم، من خلال اللغة، والحكمة المتوارثة، والسياسة، والدين، والعمارة، والموسيقى، والأدوات، والتحيّات، والرموز، والاحتفالات، والأخلاق، والقيم، والهوية الجماعية.((وانغاري ماثاي، أفريقيا والتحدي، ترجمة أشرف محمد كيلاني، عالم المعرفة؛ ع 410 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مارس 2014)، ص.236)) فهي بنظرهم مجمل أنماط سلوكات مجموعة اجتماعية. كل مجموعة، كل جماعة تستند هكذا إلى كلٍّ معقدٍ من أنماط التصرف أو الاستراتيجيات التي يتّبعها أعضاء المجموعة حينما يجدون أنفسهم في الأوضاع المقابِلة.((موريس دوفرجيه، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري: الأنظمة السياسية الكبرى، ترجمة جورج سعد، ط 1 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992)، ص .8)) وعلم السياسة مُطالَب بالإجابة، بحسب إيان شابيرو Ian Shapiro، عن الأسئلة المرتبطة بطبيعة هذه الاستراتيجيات وتأثيراتها في الأفراد والمؤسسات، وبإيجاد حلول لمختلف المشكلات المُترتِّبة عنها وليس فقط إنتاج نظريات جديدة((Martin J. Smith, Preface: Innovation and Dialogue in Contemporary Political Science, Political Studies, vol. 58, no. 2 (March 2010), p. 235.))، أي أنّ شرط تقدّم علم السياسة هو البحث عن تفسيرات للظواهر والوقائع الحالية، بدل الانشغال بالوصول إلى تفريعات وتصنيفات داخل حقل العلم ذاته، والتركيز على النظريات والمناهج البحثية.((خليل العناني، “مأزق علم السياسة بين الأيديولوجي والمعرفي”، سياسات عربية، العدد 41 (نونبر 2019)، ص .24)) والأمر نفسه ينطبق على القانون الدستوري؛ إذ على الرغم من التردد المنهجي وخيبات الأمل، هناك وعي يتشكل تدريجيًا يفيد أن قواعد القانون الدستوري هي غالبًا أفكار مجردة لا ينبغي المجازفة بقراءتها خارج البيئة التي تنبثق منها، ما دام أن السلطة السياسية ليست في نهاية المطاف سوى عنصر من عناصر النظام الاجتماعي الشامل((مياي، ص .18))، ومن ثمة لا تحتمل التحليل إلا بالنسبة لهذا النظام وخصوصياته. وربما هذا ما يفسّر الإشادة التي يلقاها مفكّرو السياسة الذين يكتبون من تجاربهم السياسية((Anne Amiel, «Hannah Arendt lectrice de Montesquieu», Revue Montesquieu, no. 2 (1998), p. 120.)) أو ينطلقون من الوقائع لاستخلاص القوانين دون الإحالة على تصوُّر ناجز للفكر وللطبيعة أو مؤسَّس على الميتافيزيقا. النتيجة بروز مَيْل متنامٍ إلى مقاربة الموضوعات من الناحية السوسيولوجية، وجعل القضايا السياسية لبلد ما ومؤسساته تعتمد على روح القانون وظروف الحكم الفيزيائية والتاريخية.

ضمن هذا التصوّر، يسير اختيار “دستور 2011ورهان التوفيق بين السلطة ومطالب الدينامية المجتمعية” موضوعًا لهذه الدراسة، في اتجاه رصد سياقات الإصلاح الدستوري لسنة2011 وأبرز محفزاته والفاعلين فيه. منهجيًا، بقدر ما استحضر أن شباب 20 فبراير ليسوا هم من كتب بشكل مباشر الدستور((في حوار بالفرنسية أجراه مصطفى بوعزيز، المعطي منجب، وسليمان بنشيخ، مع عبد الله العروي، حول الملكية والإسلام السياسي وحركة 20 فبراير والمغرب الكبير. مجلة زمان، العدد 18، أبريل 2012، ص 69 .))، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيدرسها المؤرخون القادمون((حجة العروي في ذلك أن مؤرخي الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الحشد (la foule)، ودور تجمعات الأحياء، لكنهم يتوقفون أكثر عند أثر الدستور؛ لأنه ترك العديد من الوثائق، بينما تكلم الحشد وكلامه ذهب في مهب ريح التاريخ.))، وأن ديناميتهم بقيت محض فكرة للاحتجاج، راية تُنصَب على عمود خشبي، وتُرفع فوق الحشود، أو ملصق يوضع على “فايسبوك”((حوار أجراه منير أبو المعالي مع عبد الله ساعف، بمناسبة مرور أربع سنوات على ميلاد حركة 20 فبراير، جريدة أخبار اليوم، بتاريخ 20 فبراير .2015))، أجد أن حركتهم تمثّل، ولو من باب التذكير، حلقةً ضمن مسلسل طويل ومعقّد لإعادة التفكير في مسألة المعارضة غير التقليدية المختزلة في “معارضة جلالة الملك” أو “معارضة ضد جلالة الملك”((Myriam Catusse, «Au – delà de “l’opposition à sa Majesté”: mobilisations, contestations et conflits politiques au Maroc», Pouvoirs, no. 145 (2013), pp.))، بحيث يعيد فعل الاعتراض هنا إنتاج النظام السياسي وتكريس هيمنته بالنظر إلى كون هذا الفعل محدَّدا مسبقًا أو لنقل ممنوحًا من الأعلى مقابل الولاء((Ibid.)). سيستفيد علم السياسة، وهو ماضٍ في ذلك بتأنٍّ، إنْ تحرّر من هذا التحليل الضيق الذي لا يراعي الصور المتعددة للتعبئة والصراع والاحتجاج بالشارع لإعلان المعارضة بأساليب مختلفة((Ibid., p. 10.)) داخل حقل سياسي استطاعت فيه السلطة السياسية أن تدفع أحزاب المعارضة إلى الاشتغال داخل مؤسسات الدولة((Mounia Bennani-Chraibi et Mohamed Jeghllaly, «La dynamique protestataire du mouvement du 20 février à Casablanca», Revue française de science politique, vol. 62, no. 5-6 (2012), p. 870.))، علمًا أن الشارع يتجاوز، في هذا السياق، المدلول الفيزيقي الموزَّع بين تنظيم العمران ورصيف المشاة وممر الراكبين، إلى معان ثقافية ورمزية وطقوسية أخرى، جعلت منه حركة 20 فبراير، مثلًا، فضاءً للتواصل والاحتجاج والتعبير السياسي العلني عن المطالب والانتظارات، في معزل عن المؤسسات والتنظيمات التقليدية، سواء تلك المتفرعة عن الحركة الوطنية، أو تلك التي أريد لها أن تتصدى لها.

تفترض الدراسة أن مسارعة السلطة السياسية إلى تحريك مسطرة مراجعة الدستور مردّه الرغبة في تحويل المطالب الاجتماعية والسياسية للمحتجين إلى استراتيجية الدولة، أي الرجوع إلى القنوات التقليدية المكوِّنة للنسق السياسي التي اعتادت، بعد تجاذبات طويلة، أن تكون الملكية صاحبة المبادرة في استيعاب أو تحييد بؤر الاعتراض والتوتر. شكّل هذا الافتراض المنهجي عُدتنا طوال هذه الفقرات المختصرة التي لم نجعل هدفها الأساس الإجابة عن تساؤل دور حركة 20 فبراير في اعتماد إصلاحات دستورية وسياسية تسمح بالتحول إلى الديمقراطية، بل محاولة الكشف في حقيقة الأمر بالدرجة الأولى عن قدرة المؤسسة الملكية على احتواء مطالب الحركة من منطلق أن الإحجام عن الاستجابة لمطالبها يُعدُّ مخاطرةً قد تعرّض النظام السياسي لانفجارات اجتماعية خطيرة، والتحرك بسرعة لاحتوائها أو التفاعل معها يمثّل استراتيجية دفاعية للتملص من ضغوط بقية الفاعلين عبر الاحتماء داخل التنظيم.

لفهم هذه المنطق، تمّ تقسيم العمل إلى مستويين/ بعدين زمنيين ميّزا دستور 29 يوليو: زمن السياق الضاغط الذي يحيل على إكراهات إخراجه وظروف بلورته من خلال استحضار، أوّلًا، سياقات تصاعد قوة استراتيجية الشارع “الناعمة” المطالبة بالتغيير((Frédéric Vairel, Politique et mouvements sociaux au Maroc (Paris : Presses de Sciences, 14 novembre 2014), p. 20.))، ورصد، ثانيًّا، استراتيجية النظام السياسي في تدبير الاختلاف غير المؤسساتي باستعمال أسلوبَي “الاحتواء” و”التحييد”. ثم زمن تفعيل القيم الدستورية الجديدة وإدماجها في العمل السياسي بغرض الكشف عن مدى الحسم والوضوح أو التردد والالتباس الذي يسم علاقة الوثيقة الدستورية بالتحول إلى الديمقراطية من خلال بعض المؤشرات الواقعية التي أفرزتها الممارسة السياسية ما دام أن الحكم على ديمقراطية دستور ما لا يختزل في الصيغة التي وضع بها أو المضامين التي حملها فحسب، بل يرتبط، وهذا هو الأهم، بمدى تفعيل أحكامه وتطبيقها على نحو سليم وديمقراطي.

أوّلًا: سياقات تصاعد استراتيجية المعارضة غير التقليدية بالفضاء العام

لعلّنا نعتقدُ حين نتأمَّل بعض الحركات الاجتماعية الجديدة، أنّ الغاية الوحيدة للاحتجاج هي اكتساب حقوق وإنجاز تغيير سياسيّ. وأنّ الاحتجاج إذا لم يحقِّق هذه الأشياء أو يضعها نُصب عينيه، فلا طائل تحته.((ميشا شيري، “فيم تفيد الاحتجاجات؟”، ترجمة مجدي عبد المجيد خاطر، الدوحة، العدد 155 (سبتمبر/ أيلول 2020)، ص .34)) لكن إذا راجعنا التساؤل الذي طرحه توماس هيلThomas Hill في مقالته الموسومة بـ”الاحتجاج الرمزي والصمت المدروس”((Thomas E. Hill, Jr., “Symbolic Protest and Calculated Silence“, Philosophy & Public Affairs, Vol. 9, No. 1 (Autumn, 1979), pp. 83-102.)) ستضيق نسبة الوثوق في هذا الاعتقاد. بدل البحث في مسببات الاحتجاج فقط، تساءل على غير العادة آنذاك عن الفائدة منه. بغضّ النظر عن دوافع اللجوء إلى التظلم العلني وما قد يترتب عن هذا الاختيار، تؤكد التجربة أن هناك نماذج عديدة، ضمنهم حركة العشرين من فبراير، لم يمنعها الجهل بالنتيجة من الاحتجاج باستحضار تراكماته والفرصة المتاحة لحظة التفكير فيه.

أ –حركة 20 فبراير ومطلب الديمقراطية

تميزت حركة 20 فبراير بثلاثة أبعاد متداخلة((Lilian Mathieu, L’Espace des mouvements sociaux (Paris : Éditions du Croquant, 2012), p. 12.))، أولها البعد الصراعي الذي يشير إلى تموقع حركة 20 فبراير والدولة على طرفَي ميزان متأرجح للقوة والمعنى.(( محمد نعيمي، “محدودية نظرية الاختيار العقلاني في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية: حالتا حركة “20 فبراير” وحراك الريف في المغرب”، عمران، العدد 31 (شتاء 2020)، ص .102)) والثاني مرتبط بالرغبة في التغيير لأن المشاركين في احتجاجات الحركة أو المتعاطفين معها يتطلعون إلى التغيير الاجتماعي بسبب عدم الرضى عن أوضاع الفساد والاستبداد، وسعيهم نحو تغييرها من خلال المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أما البعد الثالث، فيشير إلى القدرة على الجمع بين مكونات متمايزة((محمد باسك منار، دستور سنة 2011في المغرب: أي سياق؟ لأي مضمون؟ (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير/ كانون الثاني 2014)، ص.3)): كانت الحركة تضم شبابًا غير مُنْتَمٍ ومناضلين جمعويين ينتمون لأتاك والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والاتحاد الوطني لطلبة المغرب والحركات الأمازيغية، ومناضلين سياسيين ينتمون إلى اليسار غير الحكومي كاليسار الاشتراكي الموحّد وحزب الطليعة والنهج الديمقراطي، ثم الشباب الإسلامي المنتمي للعدل والإحسان والبديل الحضاري والحركة من أجل الأمّة((Therry Desrues, Le mouvement du 20 février et le régime marocain: contestation, révision constitutionnelle et élections, L’Année du Magreb, VIII, 2012, p. 381.))، هذا إضافة إلى القطاعات الشبيبية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب العدالة والتنمية.

إذا استحضرنا “مفارقة أولسون” التي تقول إن الجماعات الصغرى تكون قابلة للاحتشاد أكثر من الجماعات الكبرى بفضل ما تتيحه “الحوافز الانتقائية” من إمكانات للتعبئة، وبفضل الدور الفاعل الذي تقوم به تقنية “الدكان المغلق” في صدّ محاولات “الراكب بالمجان”، يمكن القول إن حركة 20 فبراير استطاعت أن تتخطى “مفارقة أولسون” وتحقق التئام الإيديولوجيات أو تتثاقف الأجيال في نحو مئة مدينة طوال عام 2011.((نعيمي، ص .101)) يتجلى هذا الالتئام في حشد فئات اجتماعية ذات مرجعيات متنوعة، توحّدها فقط معارضتها الحكم السلطوي بمختلف تجلياته.(( عبد الإله سطي، “أسئلة الملكية البرلمانية في النظام الدستوري المغربي”، سياسات عربية، العدد 20 (ماي 2016)، ص .35)) وعلى الرغم من أن المتظاهرين طالبوا بمزيد من العدالة الاجتماعية، والحق في الصحة، والتعليم، فإنّ جلّ مطالبهم تركّزت على المسائل السياسية. اشتملت تلك المطالب على ضرورة وضع دستور أكثر ديمقراطية، يستند في أساسه إلى سيادة الشعب، واستقلال القضاء، وفصل السلطات.((محمد مدني وآخرون، دراسة نقدية للدستور المغربي للعام 2011، تنسيق إدريس المغروي(ستوكهولم: المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2012)، ص .10))

وإن اختلفت حركة 20 فبراير عن نظيراتها من الحركات في العالم العربي من حيث عدم رفعها شعار “إسقاط” النظام في سياق الحراك العربي، فقد طالبت بتحويل الملَكية من “ملكية تنفيذية حاكمة” إلى “ملَكية برلمانية ديمقراطية”، وهو ما يعني إعادة تقسيم السلطة على أساس فلسفة جديدة تَحُدُّ من سلطة المؤسسة الملَكية، وتُعيد، في المقابل، الاعتبار إلى البرلمان، وتقوِّي شخصية الحكومة وتمنحها السلطات اللازمة لتمكينها من وضع السياسات العمومية وتنفيذها وتحمّل مسؤولية نتائجها.((امحمد مالكي، “قراءة في الهندسة العامة للدستور المغربي الجديد”، تبين، العدد 4 (2013)، ص .92)) مطلب التحويل يعود تاريخيًا إلى محطات سابقة.(( الحبيب استاتي زين الدين، الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية، ط 1 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019).)) الجديد أنه لم يعدّ محتكَرًا من قبل الأحزاب السياسية، وخاضعًا لتوافقاتها مع المؤسسة الملكية، بل ارتبط هذه المرة بفاعل غير رسمي جعل وتيرة الإصلاح تتحرك بسرعة بعدما كانت بطيئة ومؤجَّلة إلى حين.((سمير بلمليح، “الملكية المغربية وتحديات الحراك العربي”، مسالك، العددان 21 – 22 (2012)، ص 36.)) ما حققته حركة 20 فبراير، في بضعة أسابيع، لم يُحقَّق بالنضال في البرلمان على مدى سنوات(( محمد شقير، “حركة 20 فبراير بين مواجهة الاستبداد وإسقاط الفساد”، وجهة نظر، العدد 51 (شتاء 2012)، ص25.))، تفاعلًا مع سياقين: عام وخاص، أثّرا على طبيعتها وصيرورتها.((سعيد يقطين، الديموقراطية في قاعة الانتظار: إكراهات التحوّل الاجتماعي المغربي، سلسلة شرفات؛ 47 (الرباط: منشورات الزمن، 2014)، ص 17.))

ب –السياق الإقليمي العام

تجتاح عالم الألفية الثالثة موجاتٌ من الاحتجاجات، تطاول بشكل أكبر الدول الهشّة، ويُتوقع أن تستمر، وتدوم، وتتصاعد وتيرتها، بسبب العوامل الموضوعية المسؤولة عنها، والمُسببة لنشوبها. والحقيقة أنها ظاهرة قديمة، بيد أن الحركات الاجتماعية الجديدة موسومة بمتغيرات جديدة لم تكن حاضرة خلال القرن الماضي، في مقدمتها ثورة التكنولوجيات الجديدة، وما تتيح لمستخدميها من إمكانيات هائلة لربط الاتصال، وتبادل المعلومات، والتواصل من أجل تكثيف الجهود للضغط على الحكومات(( امحمد مالكي، “هل ثورة الجياع قادمة للبلاد العربية؟”، عربي 21، شوهد في: 20/07/2020، في: https://cutt.us/2m3Hk))، إلى جانب ما اكتسبته هذه الحركات من وعي ملحوظ، إذ لم يعد الناس يستسيغون فكرة أن لا طاقة لهم على تغيير قدرهم كما صُوّر لهم، وأن الرضا هو أفضل عزاء لوضعهم.

ورغم المنطلقات الأولى للأحداث التاريخية التي تشهدها الدول العربية متباينة، الملاحظ أنها تكاد تلتقي حول وجود بعض العوامل والمتغيرات والتحديات المشتركة((المنظمة العربية للقانون الدستوري، الكتاب السنوي 2016-2015، بدعم من المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات ص .10)) التي تسهم بشكل حاسم في تفجير الأوضاع. سياسيًا، عاشت الشعوب العربية، باعتبارها جزءًا من هذا العالم، منذ بدايات استقلالها أواسط القرن الماضي، في ظل نظم سياسية تسلّطية أثّرت سياساتها سلبًا على حركية الاقتصاد وإنتاجيته وتنافسيته؛ إذ كان لتحالف المال والاقتصاد والسلطة نتائج وخيمة على تعميق التفاوت بين مكونات المجتمع((آسية بلخير، “الوطن العربي ومواجهة الفقر: من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولمة الاقتصادية”، المستقبل العربي، العدد 439 (سبتمبر/ أيلول 2015)، ص .43)). في وجود اقتصاد بهذه المواصفات، أصبحت تقترب هذه الدول، في صيغتها الحالية، من معادلة التنمية بديمقراطية على المقاس. هذا في الوقت الذي خضعت فيه كافة المجتمعات العربية لتحولات متسارعة عديدة، من تجلياتها الانتقال الديمغرافي البارز، والتحول من العائلة الممتدة إلى الأسرة النووية، وتزايد نسبة التمدن، وتنامي دور الطبقة الوسطى، وانتشار التعليم، وتفشي بطالة الشباب، واهتزازات في القيم وفي العلاقات الاجتماعية، وفي الوعي بالذات وبروز تعبيرات الفردانية.((محمد نور الدين أفاية، “الفاعلون السياسيون والاجتماعيون في التحولات العربية الراهنة”، في: التحولات الاجتماعية في العالم العربي، تجارب مقارنة، ط 1 (الدار البيضاء: مطبعة البيضاوي، 2012)، ص 15.))

لم تكن المملكة في معزل عن هذه الفاعلية الاحتجاجية؛ نزل الشباب إلى الشارع مطالبين بمغرب آخر، وتوزيع آخر للثروة والسلطة في آن واحد، ومؤسسات أخرى، ولعبة سياسية أخرى، وإعلام آخر، وتعليم آخر…إلخ((مراد دياني (محرر)، 20 فبراير، أو معضلة التحول الديمقراطي “اللامتناهي” في المغرب، في: 20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب، ط 1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص .17)). أبرزت سنة 2011 التطور الذي حدث على مستويات شكل الحركات الاحتجاجية ومضمونها ومجالها والمشاركين فيها، بصورة تعكس أن المسار الإصلاحي المتميز الذي اتخذته منذ سنوات لم يشفع لها في التخفيف من وتيرة الممارسة الاحتجاجية رغم الحديث بصيغة الماضي عن الحزب والنقابة واليسار.

ج- السياق المحلي

تاريخيًّا، بينما استمرت الحركة الوطنية في التشديد على أن الاشتراك في المسؤولية يفضي إلى اشتراك في اقتسام السلطة بعد الحصول على الاستقلال، اختارت الملكية لنفسها منطقًا آخر، هو منطق الدولة((المصدر نفسه)). بتعبير عميق ممزوج بقدر واضح من النقد الذاتي في “ذاكرة ملك”، يقول الملك الراحل الحسن الثاني رحمة الله عليه: “لم تكن هناك قوتان، وإنما كان تياران، أحدهما صبور وكان يمثله والدي الذي كان يعتقد أن الطريقة المثلى المُؤدِّية إلى محمود النتائج هي عامل الزمن. والتيار الآخر كان عديم الصبر…كانت مطالبهم في مستوى درجة إدراكهم للأشياء، كان لديهم ميل طبيعي لإضفاء أبعاد ضخمة على الجزئيات، كانوا يهتمون بما هو ثانوي على حساب ما هو جوهري، وفي بعض الأوقات كان الحوار لا يسوده أيّ تَفهُّم، إذ كان كل منا يحلّق على ارتفاع يختلف عن ارتفاع الآخر. كانت حقًا مأساة بالنسبة للمغرب”.((الحسن الثاني ملك المغرب، ذاكرة ملك، أجرى الحوارات إيريك لوران، ط 2 (الرياض: الشركة السعودية للأبحاث والنشر، 1992)، ص 24.)) ليس إذن صدفة أن تبرز حاجة الدولة والمجتمع إلى جيل جديد من العلاقات، تجسدت في إشراك “خصوم الأمس” في الحكـم، في إطار حكـومة التناوب. غيـر أنه إذا كان الهـدف المعلن للتناوب التوافـقي هـو فسح المجال لتنافس القوى السياسية، سرعان ما اتضح أن وصول هذه القوى إلى مواقع التدبير لا يعني الوصول إلى سلطة القرار ((عبد الأحد السبتي، “الشعوب العربية وعودة الحدث”، في: عبد الحي مودن، عبد الأحد السبتي وإدريس كسيكس، أسئلة حول انطلاق الربيع العربي، تقديم الطيب بن الغازي، سلسلة بحوث ودراسات؛ 49 (الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2012 )، ص .50-49))في نظام سياسي له خصوصياته التاريخية ونمطه التثقيفي((عبد الله ساعف، “كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية: الحالة المغربية”، في: كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية دراسة حالة: الأردن- الجزائر- السعودية- السودان- سوريا- العراق- الكويت- لبنان- مصر- المغرب- اليمن، ط 1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، يوليو/ تموز 2010)، ص 511.))، تُشكِّل فيه الحكومة الطابق الثاني داخل الجهاز القراري الذي يحتل فيه الملك المكانة الأساسية. وهو ما يفسّر عدم توصل الحقل السياسي إلى إقرار التقاطب المفترض في البرامج والتصورات، وإنتاج الانتخابات لائتلاف حكومي ينقصه الانسجام التام، وفرق معارضة تُصوّت أحيانًا لصالح الحكومات، وأحزاب تزاوج بين لغة الموقع الحكومي ولغة موقع المعارضة((المصدر نفسه، ص 528.)).

يتفق الفاعلون المؤسساتيون الذين تمت استشارتهم من قبل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد حول المكتسبات الديمقراطية والإنجازات المتعددة التي يمكن للمغرب أن يفخر بها. غير أنهم “يؤكدون على التفاوت الحاصل بين روح الدستور والوعود التي يحملها وبين حقيقة ممارسة السلط والحريات والاختصاصات”((المملكة المغربية، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، النموذج التنموي الجديد (التقرير العام)، أبريل 2021، ص .20)). لا يمنع هذا التفاوت المؤسسات الدستورية وأجهزة الضبط والتقنين من القيام بدورها على أكمل وجه. وبالإضافة إلى ذلك، جاء في التقرير العام للجنة أن هؤلاء الفاعلين يرون أن “ضعف المقروئية الذي يطبع كيفية اتخاذ القرار تجعل تدبير الزمن السياسي محاطًا بعدم اليقين ويغذي ضعف الثقة لدى المواطنين إزاء المؤسسات”، كما تدل على ذلك نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية أو المحلية.((المصدر نفسه.))المستفاد من ذلك أنه على الرغم من الكشف عن تَقدّم ملموس في عدة مجالات خلال العقدين الأخيرين، يبدو أن رهان الديمقراطية لا يزال مقيّدا بإكراهات عدة تجعل من الصعب الحفاظ على دينامية ومسار الإصلاح، وتعزيز المكتسبات الضرورية للانتقال إلى مستوى مُرْضٍ في مجال الديمقراطية والتنمية.

قبل 2011، ظهر أن هناك اهتمامًا أكبر بالبحث عن وسائل((محمد عابد الجابري، في غمار السياسة: فكرًا وممارسة، الكتاب الأول، سلسلة مواقف، الأعداد 4-1 (بيروت: الشركة العربية للأبحاث والنشر، 2009)، ص 9.)) معالجة المشاكل الاجتماعية وإعداد مساحات أكبر للقوى الديمقراطية لطرح مطالبها السياسية والاجتماعية التي لم تكن متاحة لها حتى وقت قريب. لكن يبدو أن الإصلاحات لم تتّجه نحو إصلاح جذري يهمّ البنية المؤسِّسة للدستور على الرغم من المرونة التي أبداها النظام السياسي من خلال فتح ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العهد السابق، وبلورة مفهوم جديد للسلطة، وإبداء انفتاح حول المطالب النسائية بإدخال إصلاحات جديدة على مدوّنة الأسرة، ثمّ فتح نقاش واسع حول آفاق التنمية.

بالموازاة مع هذه الملاحظة، نسجل أن المغرب يمرّ في المرحلة الراهنة بفترة مفصلية من تاريخه. من جهة، تسجيل هيمنة عنصر الشباب على الأقل من الناحية الديموغرافية. من جهة ثانية، معاينة تشكّل قطائع واضحة بين جيلين: جيل ارتبط بالحركة الوطنية والكفاح من أجل التحرر وبناء الدولة المستقلة، وجيل آخر، هو الجيل الحالي الذي يمكن أن نربطه بفترة الملك محمد السادس وزملائه في الدراسة الذين يشكلون ما اصطلح عليه بالنخبة المولوية المرتبطة بالملكية((عبد القادر بوطالب، “الشباب والسياسي: طبيعة التمثلات وعوامل انحسار ظاهرة الانتساب الحزبي في المجتمع المغربي، سياسات عربية، العدد 38 (ماي 2019)، ص .66))؛ إذ يمكن الإقرار بموت الجيل الأول أو نهايته.((Jacques Palazzoli, «La mort lente du mouvement national au Maroc», Annuaire de l’Afrique du Nord, vol. 11 (1972), pp. 233-234.))

أنتجت هذه التحولات على المستوى القيمي والنفسي مشاعر قلق وتوتر متعددة المظاهر: هشاشة الرابط الاجتماعي بين الشباب والأسر، وبالخصوص في المناطق التي تعاني الفقر، والأمية، وانعدام السكن اللائق، بالإضافة إلى ضعف الثقة بالمؤسسات والسياسات. الأمر الذي يفرز أشكالًا متنوعة من الاحتجاجات.(( التقرير السنويللمجلس الاقتصادي والاجتماعيوالبيئيلسنة 2011، ص 68.)) بماذا يمكن أن نعزز هذا التفسير؟ تكون الخلاصة المُحيّنة التي توصل إليها “ريمي لوفو” بمثابة أجوبة جد مركزة عن هذا التساؤل، غير أنها دالة، وتنسجم مع الوضع الذي رسمناه سابقًا. يقول في هذا الإطار: “غداة الاستقلال، كنا نسمع الأحزاب والنقابات وهي تدّعي ممارسة السلطة باسم الكتل الجماهيرية التي لم تكن لها تمثيلية إلا بشكل محدود، بيد أن النظام الملكي قد أزاح هذه الأحزاب والنقابات بدون صعوبة تُذكر بفضل دعم العالم القروي والقوات المسلحة((لوفو، ص .281))”، و”رفض دومًا أن يرهن نفسه بشكل مباشر من وراء تشكيلة سياسية ما، وظل يسهر على تأمين نوع من التعددية من بين أولئك الذين يعبّرون عن وفائهم غير المنقوص لفكرة السلطة الملكية ولشخص الملك بالذات”((المصدر نفسه، ص .291))، ليهيمن “بكامل السهولة في إطار المعيش اليومي”.((نفسه، ص .281))

لا يعدم دور هذا “التأمين” في تعزيز فرضية “تاريخية” اتخاذ معادلة الوساطة والتمثيل منحى مقلوبًا، حيث شرعية “الوسطاء” و”الممثلين” تستمد من الأعلى، وليس من المجتمع بالضرورة. تاريخيًا، بدأت الحياة الحزبية المغربية بثلاثة أحزاب، وهي: حزب الشورى والاستقلال، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي المغربي. اللحظة، يناهز عددها ستة وثلاثين حزبًا. مهما تكن أسباب هذا التناسل/ الانقسام، هل ذاتية أو موضوعية، هل هي راجعة لنجاح الملكية تدريجيًا في تثبيت تراتبية مؤسسية لا تتجاوز فيها الأحزاب السياسية وظيفة التسويق السياسي لاختيارات معينة((عبد الرحيم العماري، “في الحاجة إلى نقد الدولة المزدوجة: انتخابات 7 شتنبر 2007 بالمغرب وفاعل الواقع في النسق السياسي العام بالمغرب”، المجلة المغربية للسياسات العمومية، العدد 4 (ربيع 2009)، ص 239.))، أو بسبب الصراع بين النخب الحزبية على المنافع المادية والمعنوية((عبد اللطيف أكنوش،»”سكرات موت” أحزاب الحركة الوطنية «، أنفاس بريس، شوهد في: 13/06/2020، في: https://cutt.us/J9nCe))، فقد استطاعت -إلى حدّ ما- فكرة كلود بالازولي Claude Palazzoli حول “الموت البطيء للحركة الوطنية المغربية” أن تصمد لأزيد من خمسين سنة. طاول التغير المجتمعي جوانب متعددة، والأحزاب السياسية مطالبة بدورها بتجديد خطابها ونظرتها لنفسها وما يحيط بها. هل هو سرّ أن وحدة الخطاب وتعدد الممارسة السياسية واختلالها يقوّي سلطة الملك ويضعف موقف الأحزاب؟ ألا تضعف التعددية القدرة التفاوضية للنخب الحزبية وتأثيرها السياسي(( Jean-Claude Santucci, “Les partis politiques marocains à l’épreuve du pouvoir: Analyse diachronique et socio-politique d’un pluralisme sous contrôle”, Remald, no. 24 (2001).))؟ قليلة هي الأحزاب التي تمتلك، اليوم، الحد الأدنى من الامتداد المجتمعي والقدرة على التواصل والانخراط في عملية تخطيط السياسات العمومية ومراقبة تنفيذها في الأوقات العادية أو الاستثنائية، وكثيرة تلك التي تفتقر لهذه الشروط الدنيا وتحتاج إلى إصلاحات عميقة من الداخل.

في علاقة بهذا الاختلال، تعلّمنا الأدبيات الأكاديمية أن التنظيم السياسي إما سيكون “ضعيفًا” أو “فاشلًا” في تمثيل الشخصية الاعتبارية((المادة الثانية من القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية.))، أو التأطير والتعبئة وممارسة السلطة.((الفصل السابع من دستور .2011))  وما يزيد الأمر التباسًا أن تداخُل المصالح والمقاعد المُوّرَثة والعادات الموروثة يصهر تدريجيًا -وبدون عناء كبير- الأجيال اللاحقة في حقل سياسي رسَم/ رسَّم قواعده وشرعن لغته وثوابته وأهدافه. النتيجة أن حوالي 69 بالمائة من المغاربة لا يثقون في جميع الأحزاب السياسية، 25 بالمائة فقط تثق بالنقابات العمالية، وتصل الثقة بالحكومة حوالي 23 بالمائة.((المعهد المغربي لتحليل السياسات، “مؤشر الثقة وجودة المؤسسات: نتائج أولية”، شوهد في: 06/08/2020، في: https://mipa.institute/7118)) وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل جسّد المشاركون في حركة 20 فبراير مركز الضغط الذي تمّ إخلاؤه، بصفة متفاوتة، من طرف جلّ الأحزاب؟

ثانيًااستراتيجية النظام السياسي في تدبير الاختلاف غير المؤسساتي

في كتابه “الأمير”، يرى “ميكيافيلي” أنه “من الأصوب أنْ نعتبر أنّ الحظ يحكم نصف أعمالنا، ويترك لنا النصف الآخر”، ثم يضيف: “إني أشبّه الحظ بالنهر الهائج القوي سريع التيار، الذي يفيض على السهول، ويقتلع الشجر، ويهـدم المباني، وينقل التربة مـن شاطئ لآخر، يفرّ الناس أمامه، ومع ذلك ورغم طبيعته هذه فإن الناس يظلون قادرين على مواجهته والاحتـراس مـنه، فهـم يبنـون السـدود والجسور حيـن يكـون هادئًا، فإذا ما هاج يـجــري في قناة أو تقل خطورته واندفاعه”((نيكولا ميكيافيلي، الأمير، ترجمة أكرم مؤمن (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 2004)، ص .119)). يظهر منذ الوهلة الأولى أن ثمة ذكاءً سياسيًا، يرْهَن قرار الأمير بالحظ، غيـر أنه ليس حظًّا مطلقًا؛ لأن نصفـه ملأه بضـرورة الاحتراس. من هنا، أفترض أن الملكية ظلت تجسد مركز القرار، وعملت على استباق الزمن واستيعابه، والمسارعة إلى التزام موقف المصاحبة والاحتواء لدينامية الاحتجاج والمنازعة(( محمد الأخصاصي، “الإصلاحات في المغرب: الحصيلة والمستقبل”، المستقبل العربي، العدد 444 (فبراير/شباط 2016)، ص .26)).

أ – قرار المراجعة الدستورية

أهم قرار أقدمت عليه السلطة السياسية، من الناحية الاستراتيجية، تحريك مسطرة الفصل الثالث بعد المائة من دستور 1996 السابق قصد مراجعة الدستور. كان الرهان وراء الاستجابة السريعة لمطالب حركة 20 فبراير، وعدم اللجوء إلى موقف العنف والمناهضة، هو المسارعة إلى تحويل “لائحة المطالب الاجتماعية والسياسية” التي أعلنت عنها استراتيجية الشارع، في خطوة لإعادة بناء الفضاء السياسي والاقتصادي والحقوقي في المغرب، إلى استراتيجية الدولة. لماذا هذا التحويل؟ لأن النظام السياسي راهن على الرجوع إلى القنوات التقليدية المكوِّنة للنسق السياسي التي جبلت عليه مـنذ 1962، غداة بـداية التحديث المؤسساتي بالمغــرب، إلى العـمل داخل فضاء سياسي بأحادية المرجعية السياسية ومركزية المؤسسة الملكية((محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب، ترجمة محمد حاتمي ومحمد الشكراوي (الدار البيضاء: نشر الفنك، 2001)، ص .70-95))؛ لأنه بعد أن أطفأ التوافق بين الملكية والمكونات الحزبية فتيل الصراع، وقطع مع مرحلة من العنف والعنف المضاد، أصبحت المؤسسة الملكية تقدّم نفسها كواضع حصري للاستراتيجية السياسية وكمسيِّر أساسي للمعالم الرئيسية للسياسات العامة((عبد الله حمودي، الخروج من التسلطية:المغرب يبحث عن مخرج، في: الرهان الثقافي وهم القطيعة، دار توبقال للنشر بالدار البيضاء، بتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس، أكدال/الرباط، 2011، ص .169-187)). من ثمة، سارعت الملكية إلى احتواء مطالب الحركة((Vincent Geisser, «Les protestations populaires à l’assaut des régimes autoritaires: une révolution pour les sciences sociales?», L’Année du Maghreb, VII (2012), p. 23.))وإعادة تصريفها من خلال القنوات (التنظيمات) التقليدية الرسمية((Michel Crozier et Erhard Friedberg, L’acteur et le système, les contraintes de l’action collective? (Paris: Seuil, 1977), p 79.)).

في محاولة واضحة لامتصاص أولى موجات الغضب الجماهيري المتصاعد، وتخفيف الاحتقان الاجتماعي، تجنبًا لاتساع مدى حركة التظاهر، وتفاديًا لانخراط فئات جديدة، كانت منهجية الإصلاح الدستوري الذي أعلن عنه الملك في خطاب 9 مارس/ آذار 2011 برغماتيةً سلكت أسلوبًا مباشرًا يزاوج بين التواصل والإشراك بدل طريقة المذكرات الكتابية((محمد المريني، الكتلة والإصلاح الدستوري (الدار البيضاء:دار النشر المغربية، 1999)، ص .104)) التي لجأت إليها أحزاب الحركة الوطنية في تسعينيات القرن الماضي((محمد كولفرني، “دينامية معارضة حركة 20 فبراير في المغرب لدستور 2011“، سياسات عربية، العدد 17 (نونبر 2015)، ص .83)). باستحضار تعدّد زوايا القراءة والاختلاف بين الفقهاء الدستوريين من حيث العناية بزوج “شكل الدستور أو مضمونه”، مقاربتي محكومة بأثر الفعل الاحتجاجي الذي تمثّله الحركة على التعديل الدستوري، خطابًا ونصًّا. مهمة فهم الأثر وقراءة أبعاده ستنصب على مسطرة وضع الدستور كما حدّدها الخطاب الملكي، وكذلك مضامين الوثيقة الدستورية، في علاقتهما بجدلية الثابت “ملكيًّا” والمتغير “احتجاجيًّا”.

هناك من ذهب إلى كون النقاش العمومي حول التعديلات الدستورية، قد انتقل من معادلة تقليدية هي معادلة الأحزاب/ الدولة((حسن طارق، “عودة إلى تاريخ النقاش حول مسطرة وضع الدستور”، في: “دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية”، ط 1 (الرباط: منشورات سلسلة الحوار العمومي، 2011)، ص .77  ))، إلى “مرحلة مأسسة الحوار والتشاور” حول ملامح الدستور الذي نريده أن ينقل المملكة من الناحية المؤسساتية إلى عهد دستوري جديد، يزاوج بين الشرعيتين الملكية والشعبية؛ وهي معادلة جديدة، بفاعل جديد، يجسده ميدانيًا الحراك الشبابي والمجتمعي الذي يشهده المغرب، مع العلم أن مطلب “الملكية البرلمانية” ظل اليسار حاملًا له منذ عقود.((طارق، “المراجعة الدستورية”، ص .109  ))

يقدَّم خطاب التاسع من مارس/ آذار عمليًّا كأرضية للانطلاق وكحد أدنى للتجاوب مع مطالب الكتلة الديمقراطية التي ظلت تعبّر عنها منذ 1991، وإلى غاية 2009، فيما يبدو أن نـقـطة وصـوله القـصـوى وسقــفه الأعـلـى يكـاد يـصـل إلى مـطالب حــركة 20 فبـرايـر. وإذا كان ما يؤاخَذ على لجنة التعديل المقترحة هو أنها هيئة معيّنة غير منتخبة، وتقنية غير سياسية، بل وأن تركيبتها تنتمي إلى الرعيل الأول من الموجة الدستورية التقليدانية التي صبغت فترة السبعينيات والثمانينيات، مما ينم على أن سقف تفكير اللجنة سيكون لا محالة دون مستوى الطموحات الإصلاحية الملكية((شفيق بوكرين، “الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بالمغرب على ضوء دستور 2011“، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 116 (ماي/ أيّار- يونيو/ حزيران 2014)، ص .176))، فهذا الطرح أصبح متجاوزًا، إذ أن اللجنة أوكلت رئاستها إلى السيد عبد اللطيف المنوني بدلًا من فقيه القانون الدستوري الأستاذ محمد معتصم، بالإضافة إلى تطعيم اللجنة بالحضور النسائي، والمنظور اليساري لفقهاء دستوريين أغلبهم مغاربة ذوو تطلعات إصلاحية، تعكسها دراساتهم النظرية وممارساتهم السياسية، إلى جانب تبني تقنية التشاور والحوار مع مختلف الفعاليات السياسية، الحزبية منها أو الجمعوية، التي سمحت بتفادي أيّ مزايدات سياسية على الوثيقة الدستورية((بوكرين، ص .176)).

بالمقابل، هناك من استخلص، بالرغم من تغيير طريقة وضع الدستور، بالمقارنة مع ما كان معمولًا به سابقًا، وحرصه على تعدد الاقتراح الدستوري، مظاهر احتكار الملكية للمبادرة الدستورية من خلال الخطاب((منار، “دستور سنة 2011″،ص .9-8))،  في وضع خارطة طريق إعـداد الوثيقة الدستورية وتنفيذها(( مدني، “الدستور الجديد”، ص .86  ))، في إشارة إلى أن ما وصفه أحد الباحثين بـ”مرحلة مأسسة الحوار والتشاور” يحتاج إلى الكثير من التدقيق، لأن أغلب ما حدث، سواء فيما يتعلق باللجنة الملكية الاستشارية، أو بآلية التتبع، كان مشوبًا بما يخدش في مأسسة الحوار، إلا إذا كان الحوار شيئًا آخر غير الأخذ والرد، وغير الرأي والرأي المخالف.((منار، “دستور سنة 2011″،ص .12))

من جهة، لم تتجاوز المبادرة الملكية، من حيث منهجية إعداد الدستور، عتبة ما كان سائدًا خلال التعديلات الدستورية التي عرفها الدستور المغربي في الماضي((عبد اللطيف حسني، “حركة 20 فبراير بالمغرب: الجذور-المسار-الآفاق”، وجهة نظر، العدد 50 (خريف 2011)، ص .6)). الملك هو الذي أعلن عن المراجعة الدستورية(( رقية المصدق، “سلطة تأسيسية فرعية أم أصلية مكتسحة؟”، في: الدستور المغربي الجديد على محك الممارسة، تنسيق عمر بندورو ورقية المصدق ومحمد مدني (الرباط: منشورات ملتقى الطرق، 2014)، ص .11)) كما هو الحال منذ أول تعديل دستوري، عندما تم تجريد الوزير الأول من السلطة التأسيسية الفرعية سنة 1970، وتم تجاهل المؤسسة البرلمانية منذ البداية.((مدني،“الدستور الجديد”، ص .86)) الطريقة التي استجابت بها الملكية لحراك الشارع، لا تتجاوب مع مطالب حركة 20 فبراير((حسني، “حركة 20 فبراير”،ص 6.))، التي رفعت شعار “الدستور الديمقراطي شكلًا ومضمونًا”، في إشارة إلى وجوب انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور على غرار ما حدث في تونس ومصر، إلا أن التجاوب الرسمي اقتصر على تعيين لجنة استشارية لوضع دستور جديد (أو بالأحرى تعديل دستور 1996)((عبد الرحيم العلام، الملكية وما يحيط بها في الدستور المغربي المعدل؛ 33(الرباط: دفاتر وجهة نظر، 2015)، ص .8))، تفتقد لسلطة القرار السياسي، وتنحصر مهمتها على الجانب التقني في مسألة الإصلاح الدستوري .((محمد كولفرني، “منطق الإصلاح الدستوري بالمغرب بين إمارة المؤمنين والملكية البرلمانية”، نوافذ، العدد 52-51 (فبراير 2012)، ص .176))من جهة ثانية، لم تستطع اللجنة أن تدمج حركة 20 فبراير، وتنفتح على باقي التيارات السياسية المدعّمة للحركة، مثل جماعة العدل المحظورة قانونيًا، واليسار الموحّد وحزب الطليعة والنهج الديمقراطي((مدني،“الدستور الجديد”، ص .87)). ثالثًا، الخطاب الملكي نفسه تفادى أي ربط مباشر بين هذه المبادرة ومستجدات الوضع السياسي العام للبلاد، أو مستجدات الساحة السياسية العربية، حتى لا يعطي الانطباع بكون مبادرته تدخل في سياق المطالبة بالإصلاح الشامل والعميق بمرافق ومؤسسات الدولة.((بلمليح، ص13.)) الملك في خطاب 9 مارس/ آذار، وما تلاه من خطابات ملكية، ربط المراجعة الدستورية بالجهوية الموسعة، واعتبر ذلك تطورًا طبيعيًا في المسار الديمقراطي والتنموي، ولم يُشرْ صراحةً لتلك المستجدات، ولا لِمَا طالب به بعض المغاربة من خلال حركة 20 فبراير، وبعض القوى السياسية((منار، “دستور سنة 2011“، ص .8)). لكن ألم يكن قرار الإصلاح الدستوري اعترافًا ضمنيًا بتأثير الحراك الداخلي وتسارع الأحداث على المستوى الخارجي؟ وكيف لا يكون الخطاب خطوةً استباقيةً في وقت فرض ضرورة التدبير الجيد لعامل الزمن والمخاطر المتوقعة وغير المتوقعة؟ وهل فعلًا كانت ولادة التعديلات الدستورية طبيعية أم أنها محصّلة التفاعل مع الحراك الشعبي الذي قاده شباب حركة 20 فبراير؟

بغض النظر عن كون المغرب حقّق مكاسب وطنية كبرى، كما جاء في خطاب التاسع من مارس، بفضل إرساء مفهوم متجدد للسلطة، وإصلاحات وورش سياسية وتنموية عميقة، ومصالحات تاريخية رائدة، رسَّخ من خلالها ممارسة سياسية ومؤسسية، صارت متقدمة، بالنسبة لما يتيحه الإطار الدستوري الحالي((مقتطف من الخطاب الملكي لـ 9 مارس/ آذار .2011))، تبقى العلاقة بين إعلان التعديل الدستوري وتصاعد حدة الاحتجاجات، وتطور شعارات المتظاهرين، قوية وقائمة. لماذا؟ لأن تاريخ وتوقيت الخطاب لم يكن عاديًا، كما أن قرار الإعلان عن مراجعة الدستور كان استثنائيًا، ويُنْذِر بوجود طارئ، ما عاد بالإمكان تجاهله، ويلزم احتواؤه الحزم اللازم. ما جاء به الدستور من تعديلات لم يأت من فراغ، وإنما نتيجةً لمخاض عسير من الضغط الشعبي، وردّ فعل استباقي لسحب البساط من حركة 20 فبراير، والحد من مدّها الاحتجاجي الذي كان مُرشّحا للتطور من جهة ثانية((منار، “دستور سنة 2011“، ص .16))، ولا سيَّما أن تقرير لجنة الجهوية، كما جاء في خطاب 9 مارس / آذار نفسه، لم يوص بـ”دسترة” “الجهوية المتقدمة” أصلًا، بل اكتفى باقتراح إقامتها بقانون، و”ذلك في أفق إنضاج ظروف دسترتها”.((بلمليح، ص14 .)) بيد أن ما يستحق الذكر، ضمن إشكالية الاستجابة للمعطى الإقليمي المستجد، هو أن مبادرة الإصلاح الدستوري، بمدلولها السياسي، ومحتواها الموضوعي، ومقاربتها المنهجية، بمقدار ما كانت محكومة بإكراهات الظرفية السياسية الداخلية والخارجية، كانت خاضعة كذلك لنواميس التحولات المجتمعية، في ترابطها الجدلي مع مقومات وتوازنات البنية الكلية للنظام السياسي((الأخصاصي، ص .30)).

ب – المبادرات ذات الطبيعة المؤسساتية والاجتماعية

بالموازاة مع خطوة تعديل الدستور التي أدت إلى خفوت دعم تنظيم “باركا” التابع لشبيبة العدالة والتنمية، وشبيبة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ونقابات الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل بعد توقيع التزام أبريل/ نيسان((عبد اللطيف حسني، “في تخريب التنظيمات النقابية، موقف الحركة العمالية المغربية من حراك 20فبراير”، وجهة نظر، العدد 59 (شتاء 2014)، ص .35))، لجأ النظام السياسي إلى اعتماد تدابير جديدة((عبد الله ساعف، اليسار في المغرب، الضرورة والتوترات، سلسلة نقد السياسة؛ 8 (الرباط: منشورات دفاتر سياسية، 2015)، ص .101)) ذات صبغة حقوقية واجتماعية؛ حيث تمّ إحداث مندوبية وزارية لحقوق الإنسان، وإصدار ظهير جديد يرتقي بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وإنشاء مؤسسة الوسيط، إلى جانب إقرار مجموعة من مشاريع القوانين والمراسيم المتعلقة بمكافحة الفساد، والإفراج عن 190 معتقلًا، من بينهم خمسة من القيادات السياسية، كان قد تمّ اعتقالهم سنة 2009 ارتباطًا بما يسمّى بقضية بلعيرج.((منار، “محصلة التحركات الراهنة”.))

في موقف مفاجئ للحكومة، ومن داخل نفس خطاب الأزمة والصعوبات الاقتصادية التي تحيط بملف تشغيل المعطلين، بادرت إلى الالتزام رسميًا بإلحاق عدد منهم بالوظيفة العمومية، عبر آلية التوظيف المباشر آنذاك، كما تم ضخ اعتمادات مالية مهمة في صندوق المقاصة، بعد أن كان النقاش حول السبل الكفيلة بالحد من العبء الذي يشكله بالنسبة للموازنة العامة للدولة وعمدت الحكومة أيضًا، استجابةً لمطالب بعض المركزيات النقابية برفع الأجور، بهدف الحفاظ على السلم الاجتماعي، وإن كان لهذه التدابير الظرفية أثر على عجز الميزانية الذي بلغ مستوى %6,1، مما يصعب تحمله على المدى الطويل((المملكة المغربية، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ملخص التقرير السنوي لعام 2011، ص .8)). الحكومة حينها لم تَشْغَل نفسها بالتساؤل عن الانعكاسات الخطيرة على مالية الدولة، بقدر ما تعاملت مع تداعيات الحراك العربي، كما يقول الراحل إدريس بنعلي، بما يسميه الفرنسيون «pilotage à vue»((حوار موقع جيل بريس مع الراحل إدريس بنعلي، شوهد في: 04/07/2020، في: https://cutt.us/iGAsG))، أي أنه عندما امتد الحراك إلى المغرب، وخرج الناس إلى الشارع وطالبوا بإسقاط الفساد، سارعت الحكومة إلى الرفع من الأجور وتوظيف المعطلين لتهدئة الأوضاع.

ج- أسلوب “التحييد” لعزل الحركة

لم تكتف السلطة السياسية باتخاذ هذه القرارات لمصاحبة واحتواء ضغط الشارع وامتصاص غضبه، بل لجأت كذلك إلى أسلوب التحييد neutralisation قصد كبح وعزل حركة 20 فبراير، من خلال إبعاد كل الأطراف والجهات التي يمكن أن تصطف لجانبها.((Desrues, p. 387.)) وإذا كان من اليسير فهم تراجع أو انسحاب بعض الأشخاص العاديين من معترك الاحتجاج بالفضاء العام، إثر الاستفادة من مكتسبات مادية أو رمزية، يستعصي بخلاف ذلك معرفة الحقيقة كاملة حول الوقائع المرتبطة بهذا التحييد بالنسبة لأشخاص وجهات أخرى استعانت بالصمت والكتمان. في هذا الاتجاه، غير خاف، على سبيل المثال لا الحصر، الخلاف القوي الذي شهده حزب العدالة والتنمية بين قياداته، بلغ حدَّ تقديم ثلاثة منهم الاستقالة من الأمانة العامة للحزب، بخصوص كيفية التعامل مع نداء التظاهر يوم 20 فبراير/شباط. كان هناك رأي يدعو إلى النزول إلى الشارع ومساندة المطالب الإصلاحية المعبَّر عنها تحت سقف الملكية البرلمانية، وموقفٌ ثانٍ يَحسِب أن الاكتفاء بمساندة المطالب فقط يفي بالغرض، مخافة أن يُسهم قرار المشاركة في رفع سقف المطالب بالشكل الذي يؤثر في الاستقرار ويهدد أمن البلاد((حوار أجراه المختار بنعبدلاوي مع عبد العلي حامي الدين حول “واقع التدافع السياسي المغربي الراهن”، رهانات، العدد 24 (خريف 2012)، ص .36)).

يشكّل هـذا المثال نموذجًا مصغّرًا عـن الكرسي الفارغ الذي تركـته الأحزاب السياسية، والصمت(( Laurent Beurdeley, « Le mouvement protestataire du 20 Février et la révision constitutionnelle au Maroc Ou comment le Makhzen a confisqué l’espoir d’une mutation du régime », in: Les révoltes arabes contre l’humiliation Processus et acteurs (Paris :éditions du Cygne, 2012), p. 55.)) والحيطة والحذر الذي طبع تعاملها مع تظاهرات الحركة، كتنظيمات أو كأشخاص، وهو ما برز بجلاء في انخراط جلّ الأحزاب في حملة مؤيدة لدستور لم تتضح معالمه بعد.((المصدق، ص .25)) استكانت القيادات الحزبية إلى مدرسة سياسية تنظر إلى السياسة كمجال لتدبير العلاقة مع الدولة، وكمجال لالتقاط وتشفير الإشارات والرسائل والرموز الملقاة من أعلى، وتنظر إلى الصراع السياسي كتدافع للنخب المعزولة عن المجتمع من أجل أن تقترب أكثر من الدولة.((حسن طارق، “مرحلة ما بعد 20فبراير”، في: “دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية”، ص .53  )) ظاهريًا، نقرأ إرهاصات هذه النظرة إلى السياسة في مختلف البلاغات والبيانات التي صدرت عن الأحزاب السياسية((Pour plus d’informations sur les organisations qui appuient le mouvement du 20 février et les réactions des acteurs sociaux et politiques, voir: Desrues, pp. 363 -364.))، كما تُفهم ضمنيًا من سكوت باقي الأحزاب، سواء تلك التي كانت ضمن الأغلبية الحكومية أو المعارضة، والتي يبدو أنها سارت في اتجاه وضع مسافة بينها وبين الحركة، إما عن طـريق التبرؤ منها صـراحة، أو الكيل بمكيالين خفية، أو تبني موقف الترقب، في انتظار ما ستسفر عنه الأحداث. لكن بالرغم من أن وضعية كهذه كانت فيها الأحزاب خارج دارة الضغط بصفة متفاوتة، فإنها لم تفقد كل الهالة التي تجعل انخراطها في الحملة الاستفتائية السابقة لأوانها دون أهمية. أكثر من ذلك، فالتطلع إلى دعم واجهة الالتفاف الحزبية بوافدين جدد على رأسهم حزب العدالة والتنمية- مع الاحتفاظ بولاء القدامى مثل حزب الاستقلال- لم يستبعد خضوع وضع الدستور لمنطق المساومات في قضايا تتعلق بتعزيز المرجعية الإسلامية وتقوية الهوية الوطنية.((المصدق، ص .26))

ثالثًا: أين يكمن الخلل في النصّ الدستوري في الممارسة أم في التأويل؟

مرّت عشر سنوات على تفعيل الوثيقة الدستورية، أليست مدة كافية للحكم على مدى انسجام “الأماني المنتجة” من قبل الدستور مع الممارسة ورهانات التحول إلى الديمقراطية؟ حتى نفهم دلالة هذا التساؤل لا بدّ أن نتفق أوّلا على أن الدستور، أيّ دستور، يكون قبل ميلاده الرسمي أو أثناء اللحظات الأولى لتفعليه حمّالًا لبذور تطوير الحياة السياسية وتأهيل الفاعلين(( محمد أتركين، مباحث في فقه الدستور المغربي، ط 1 (دار النشر المعاصرة، يونيو 2020)، ص .353))، لكن الممارسة وحدها من تُعين على نفاذ الأفكار الدستورية الجديدة والقطع مع القراءات الماضوية أو الخطابات الشعبوية أو التأويلات السياسية الضيقة. مؤشرات عديدة تؤكد أن الانبهار بما حفل به الدستور من تجديدات، سرعان ما اصطدم، تبعًا لتفعيل فصوله، بهشاشة “القطائع” التي سعى إلى إرسائها. هل يكمن السبب في النزوع إلى التحلل/ أو التحرر من قواعد لعب جديدة غير مألوفة؟ ألم يحتفِ الفاعلون السياسيون بالقواعد الجديدة للدستور أم أن التقاليد السياسية الموروثة لا تسعف في الحفاظ على روح الدستور وغاياته؟

تقنيّا، تمّ التخلي نسبيًا عن الفصل التاسع الذي كان في البداية “مجرد بنود تشريفية”، ليحيل بعد ذلك على وظائف “الخلافة”((المرجع نفسه، ص .13))، ليشكّل، في النهاية، وللمفارقة، نصًّا ديناميًا وحمّال أوجه شتى في نظر المؤسسة الملكية، وفي الفقه الدستوري مُعبِّرًا عن حقيقة واحدة تقليدانية ممتدة في المكان والزمان. لكن عمليًا، هل تغير شيء ما؟ تتباين الإجابات، غير أن الحيرة المُقدّرة هي نفسها تقريبًا لربما وجود قراءتين لهندسة سلطة الملك وتحديد الصلاحيات الناجمة عنها في دستور2011  يؤكد هذا الأمر.

  • القراءة الأولى ترى أن غياب تحديد مصفوفة الانتقال من الحقل الديني )إمارة المؤمنين) إلى الحقل السياسي (رئاسة الدولة) بشكل واضح ينتصر لفكرة أن الحقل الديني مازال متغيّرًا أصليًا في معادلة السلطة داخل المملكة((محمد الغالي، “دستور المملكة المغربية لسنة 2011 في ضوء الربيع العربي: جدلية الثابت والمتحوّل، تبين، العدد 4 (2013)، ص .118))؛ لا يزال الملك يمارس سلطاته بواسطة الظهائر في الدستور، سواء تلك التي تسمح له بممارسة صلاحياته الدينية (الفصل 41) أو تلك المرتبطة بوظيفة رئيس الدولة (الفصل 42). لكن وجود هذا التمييز لا يعني أنّ هناك فرقاً في طبيعتهما.((مدني، ص .25)) سواء بصفته “أميرًا للمؤمنين” أو “رئيسًا للدولة”، فقد احتفظ الملك باختصاصات وصلاحيات واسعة وفعلية، تسمح له بأن يظل مركز النظام السياسي والمحدد الرئيس لتوجهاته وقراراته((أحمد بوز،»الاختيار الديمقراطي” في الدستور المغربي الجديد«، في: الدستور المغربي الجديد، ص .11)).
  • بينما تذهب الثانية إلى أن هناك تغييرًا جوهريًا في طريقة تصريف الملك لوظيفته من خلال هذين الحقلين؛ بالنظر لتكوينه والسياق الذي تولّى فيه الحكم أو وجد نفسه مطالبًا باتخاذ القرار المناسب تجاهه، إذ أصبح الملك باعتباره أميرًا للمؤمنين يحترم كل الدستور، بما فيه الطبق السفلي المتعلق باللعبة البرلمانية. لم يعدْ يتخذ قراراته بصفته الدينية في الأمور المتعلقة بتنظيم المجتمع في طابعه المدني. وإذا كان الدستور قد تخلص ظاهريًا من الفصل التاسع عشر، وأعاد توزيعه على الفصلين الواحد والثاني بعد الأربعين، فهذا لا يعني أن الملك يتصرف بالضرورة وفق رؤية تقليدانية. المشكل وفق هذه القراءة أن الطبقة السياسية هي التي لم تتخلص بعد من هذه الرؤية الماضوية، وظل سلوكها موسومًا بـ”التحكم الذاتي”((عبد اللطيف أكنوش، “الممارسة الدستورية للملكية وللطبقة السياسية في المغرب”، شوهد في: 18/09/2020، في: https://cutt.us/kINZc))، وهو ما يعطي الانطباع بأن الممارسة الدستورية تبدو أقرب ما يكون إلى مرحلة ما قبل دستور 2011 .

وبغضّ النظر عن الاختلاف بين القراءتين، يبدو أنهما تلتقيان عند قاسم مشترك: الممارسة السياسية تمثّل الثابت الذي يعكس الثقافة السياسية السائدة التي تجعل الأحزاب مترددة -إن لم أقل مستسلمة- أمام إغراء ثقافة الدستور الضمني غير المكتوب، وسطوة تقاليد الإشارات السياسية وخطاب التوافق والتراضي. ويكمن المتحوّل في النص الذي قد تتغير صياغاته أو تتقدم تركيباته دون التأثير القوي في بنية السلطة وجوانبها التقديرية. لربما فهْم هذا القاسم سيجعلنا ندرك خلفيات تداول “المخيال السياسي” للرغبة في احتفاظ الملكية ـــ ولو بشكل غير صريح ـــ على مستوى تدبير نتائج الانتخابات التشريعية باختيار أسماء بعينها للاستوزار وتقلُّد المسؤولية (أو تحديد المعفيين منها)، إلى جانب استمرار هيمنتها على بعض القطاعات أو الوزارات التي تعتبرها استراتيجية، منها الداخلية والدفاع والأوقاف والشؤون الإسلامية والخارجية، حيث يُعدُّ المعينّون أشخاصًا من دون انتماء سياسي ومعروفين بولائهم للمؤسسة الملَكية.((الغالي، ص .116))

ولأن مظاهر التفاوت بين النص والممارسة متعددة على الرغم من الحسنات الكثيرة التي تضمنها دستور فاتح يوليوز 2011، سأقتصر -من باب التمثيل- على بعض الحالات:

أ –فيما يخص السلطة التشريعية:

نقرأ في الفصل السبعين من الدستور أن البرلمان “يمارس السلطة التشريعية. يصوّت البرلمان على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيّم السياسات العمومية”. ظاهريًا، البرلمانمصدر وحيد للتشريع الذي اتسع مجاله بالمقارنة مع التجارب الماضية، لكن هل ينفرد فعلًا بهذا الاختصاص من بين السلطات الدستورية في التصويت على القوانين؟ دون إغفال الإشارة إلى المحافظة على “الثنائية المجلسية” Bicaméralisme والتماهي مع “العقلنة البرلمانية” وترك المجال التنظيمي مفتوحًا، أمكن القول إن البرلمان اكتسب بعض “النقاط” الجديدة في علاقته بالحكومة وليس في علاقته بالملك الذي احتفظ، تقريبًا، بجميع الصلاحيات التي كان يتمتع بها في علاقته بهذه السلطة، اللهم إذا استثنينا انتقال صفة “ممثل الأمة” من الملك إلى البرلمان.((بوز، “الاختيار الديمقراطي”، ص .116)) باستقراء نصوص الدستور، وتحديدًا الباب الثالث المتعلق بالملكية، ليس هناك حرفيًا ما يمنع الملك من التشريع، بشكل عام، بمقتضى ظهائر. علاوة على ذلك، بقدر ما وسّع الدستور من مجال القانون، الممارسة السياسية تسير نحو تضييقه، ولا سيّما أن الكثير من الفاعلين السياسيين قد يجدون في التخفّي وراء التأويل السياسي أو السياق الضاغط فرصةً للتحلل من حرفية النص والتنصل من “سموّ أحكامه”.

أسوق بعض الإشارات على ما أزعم، وغيرها كثير لمن يريد التوسع في هذه المسألة (منها مثلًا ردود الفعل حول تقاعد البرلمانيين وتعويضاتهم). دون الخوض في القوانين التي تزامنت مع حالة الطوارئ الصحية، أستغرب اطمئنان معظم “ممثلي الأمة” للقراءة المحكومة بخلفيات غير قانونية (مع قلة إبداع رغم الإمكانات المتوفرة) تتعسف في تأويل الدستور والنظام الداخلي للبرلمان بشأن تفويض التصويت أو احتساب أصوات أعضائه المتغيبين. ألا ينصّ الفصل الستون من الدستور على أن أعضاء البرلمان يستمدون نيابتهم من الأمة، وحقهم في التصويت حقٌ شخصي لا يمكن تفويضه”؟ ألم تؤكد المادة السادسة والخمسون بعد المئة من النظام الداخلي لمجلس النواب هي الأخرى أن “التصويت يكون برفع الأيدي أو بواسطة الجهاز الإلكتروني المعدّ للتصويت”؟ المستفاد أنه لا يكفي أن نتوفّر على وثيقة دستورية مكتوبة متقدِّمة عن سابقتها حتى نطمئن على المسار الديمقراطي؛ ذلك أن الممارسة تكشف وجود تصرفات تتجاوز روح الدستور ومنطوقه بشكل واضح. ولعل من تابع المشاورات بين وزير الداخلية مع الأحزاب السياسية بخصوص القوانين والترتيبات التي ستؤطر 2021 سيفهم جانبًا من هذه الفكرة؛ إذ الحرص على احترام دورية الانتخابات وتبنّي مقاربة تشاركية في وضع إطارها القانوني والتنظيمي لها “عادة محمودة” على الرغم من طابعها المغلق، لكن التساؤل الذي يتسلل إلى الذهن إزاء هذا التشاور: أيّ مشكل سياسي وأخلاقي يجعل من المعقول والمقبول الخوض في نفس “جزئيات اللعبة الانتخابية” كلّما حان موعد الانتخابات دون ربط هذه المحطة بالحاجة إلى إصلاح شمولي عميق يمسّ وظيفة المنتخب ورجل الإدارة أو السلطة، وحدود العلاقة بينهما في مختلف مستويات العمل التمثيلي أو الإداري أو الترابي؟

وحتى إذا سلمنا بانتظام وشفافية وتنافسية العملية الانتخابية -بنسب معينة – لعام 2021، فهل أفرزت بالضرورة تحالفات ومجالس منتخبة متماسكة ومتجانسة؟ وهل هذا التغيير الذي طرأ على القوانين الانتخابية وقضى بحذف العتبة، وبتوزيع المقاعد على اللوائح بواسطة القاسم الانتخابي المحتسب على أساس عدد المصوتين (الأصوات الصحيحة والأصوات الملغاة)، وليس فقط على أساس عدد الأصوات الصحيحة كما كان سابقًا، سيبقى هو نفسه في الانتخابات القادمة أم سيظل عدم استقرار القوانين الانتخابية قائمًا؟ يصعب نفي أو إثبات ذلك نحو مطلق بسبب ملحظين: الأول توظيف الدستور أو القانون من أجل أهداف حزبية ضيقة، وليس بالضرورة تحقيقًا للمصلحة العامة. وبصرف النظر عن الفوائد أو التأثيرات العددية لموقع بعض الأحزاب في الانتخابات القادمة، يجدر استحضار أن تعزيز الثقة في الخيار الديمقراطي يقتضي، مستقبلًا، ضرورة ترجيح توقُّف السلطة التشريعية، في الفترة التي تقترب من الانتخابات، عن تشريع أيّ قوانين لها علاقة بالمشرّعين أنفسهم، من قبيل الزيادة في تعويضاتهم أو إطالة مدة بقائهم في المؤسسات، أو الزيادة في مدة ولايتهم أو غيرها من التشريعات التي يكون فيها النائب البرلماني مستفيدًا منها على نحو مباشر.((عبد الرحيم العلام، “القاسم الانتخابي الجديد بين الدستورية والتأثير في نتيجة الأحزاب”، مجلة مغرب القانون، شوهد في: 27/03/2021، في: https://cutt.us/4Qmj5)) وهذا ما تَوفَّر في مستجد المادة الرابعة والثمانين من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب التي غيّرت بشكل جذري التشريع المعمول به في النمط الانتخابي؛ وذلك باعتمادها قاسمًا انتخابيًا لا يُحتسب على أساس الأصوات الصحيحة المعبّر عنها، وإنما “توزع المقاعد على اللوائح، هذه المرة، بواسطة قاسم انتخابي يستخرج عن طريق قسمة عدد الناخبين المقيدين في الدائرة الانتخابية المعنية على عدد المقاعد المخصصة لها. وتوزع المقاعد الباقية حسب قاعدة أكبر البقايا، وذلك بتخصيصها للوائح التي تتوافر على الأرقام القريبة من القاسم المذكور”((الفقرة الثانية من المادة 84 من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب.)).

ولا شكّ أن الباحث في سياقات وحيثيات هذا الاختيار سيهتدي إلى أن النقاش حول القاسم الانتخابي وقاعدة توزيعه، لم تكن تحكمه حينها اعتبارات قانونية وسياسية خاصة بالمكونات الحزبية التي اختارت في هذه المحطة التعليق الظرفي لمبدأ التوافق والحوار الذي تأسس بينها خارج إطار الشكلانية الدستورية منذ عقود، بل يتقاطع مع الملحظ الثاني الذي يحيل على استراتيجيات ذات علاقة باختيارات سياسية، مُؤسَّسة على فكرة التوازن أو التناوب داخل المجال السياسي المغربي، والسبل المطلوبة لتوجيهه والتحكم في استمراره وديمومته(( امحمد مالكي، “القاسم الانتخابي في المغرب.. جدلٌ قانوني بعمق سياسي”، عربي 21، شوهد في: 04/04/2021، في: https://cutt.us/F4rM0)) لأن أيّ تغيير يطاول طريقة توزيع المقاعد بمجلس النواب سيؤثر بالضرورة على نتائج الانتخابات، ومن ثمة على تشكيل الحكومة.

وهل سنضيف شيئًا إذا قلنا إن إعادة النظر في طريقة احتساب القاسم الانتخابي هي نتيجة لتعبير المشرّع عن إرادته في الأصل؟ وحتى إن لم يتمكن الرافضون لهذا الطريقة من ترجيح رأيهم على رأي الأغلبية، وكانوا، كما يقال، على خطأ من الناحية القانونية لكونهم أقلية من الناحية السياسية((محمد أمين بنعبد الله، “المحكمة الدستورية والقاسم الانتخابي: نعم…ولكن!”، تيلكيل- عربي، شوهد في: 18/04/2021، في: https://cutt.us/akqd4))، فالأمر لا ينفصل عن المــمارسة الديمقــراطـــية، أليس كـــذلك؟ يمكــن نظريًا، غيـــر أن الأمـــر لا يفهم فهمًا سليمًا إذا فُصل عن التأويل القضائي له، أي قرار قضاة المحكمة الدستورية الذين تحال إليهم، طبقًا للفقرة الثانية من الفصل الثاني والثلاثين بعد المئة من الدستور، القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها من لدن رئيس الدولة، ليبتوا في مطابقتها للدستور. وما دام أن قرارات المحكمة الدستورية متمتعة بحجية الشيء المقضي به، مما يحصنها من كل طعن ويجعلها ملزمة لكل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية فور صدورها، سيكون أيّ رأي- على الرغم من أهميته- أشبه بمن يحاول -عن حسن نية- امتصاص الماء من قطعة ثـلج لا تسمح ظروفها الفيزيائية بحدوث ذلك!

قانونيًّا، مارست المحكمة الدستورية الوظيفة المخولة إليها بمقتضى الدستور المتمثلة في التصريح بدستورية أو عدم دستورية القانون التنظيمي المعروض عليها وجوبًا، لكن هل تضمنت هذه الممارسة قدرًا وافيًا من العمل البيداغوجي والإقناعي من حيث المبدأ؟ تتعدد وجهات النظر، غير أن ما يجدر التنبيه إليه هو ضرورة أن يستحضر كل باحث عن الجواب المناسب عن معطيين أساسيين: الأول يلفت الانتباه إلى أن مبدأ انفراد البرلمان بتقدير الحاجة للتشريع (ضرورته) واختيار نوعية التدابير القانونية التي يرتضيها لا يجب أن تُجزّأ، بل يجب أن يمتد أثره لكل القوانين دون تمييز؛ لأن أيّ استثناء يطاول هذا التقدير والاستقلال لاحقًا بدعوى خصوصيات البرلمان أو طبيعة قواعد اللعبة السياسية سيضع هذه السلطة، ومعه قرارات المحكمة الدستورية، وحتى بعض وجهات النظر، موضع حرج وسؤال؛ والثاني يشدد على أن وظيفة القاضي الدستوري لا تنحصر في القراءة الحرفية للنصّ؛ لأن القاضي الدستوري ببساطة ليس قاضيًا بمعنى قضاة المحاكم العادية، فهو قاضٍ سياسي في المقام الأول((عبد اللطيف أكنوش (تقديم)، في: محمد أتركين، الدستور والدستورانية: من دساتير فصل السلط إلى دساتير صك الحقوق، ط 1 (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2007)، ص .8))، بمعنى أنه ملزم في كثير من الأحيان بأن يأخذ في الحسبان قراءة الفاعلين السياسيين للوثيقة ومدى اتفاقها مع الخيار الديمقراطي والعدل السياس، وأثرها عليهما مستقبلًا في نفس الوقت، لكن مع الحرص على عدم تحويل الفقه القضائي إلى مجرد تعليق على الأحداث، أو محاكمة سلوك الفاعلين وأداء المؤسسات، أو بلورة خطاب “نضالي” مغلّف بعبارات علمية منزوعة من حقلها المعرفي ودلالاتها الحيادية((محمد أتركين، الدستور المغربي وفرضية نهاية “الدستور الوثيقة”، دراسات، ع 2 (شتنبر 2021)، ص 7 وما بعدها.)) التي يتعين أن تظل وفيّة، بدرجة أكبر، للنصّ الدستوري وروحه.

ب – على مستوى السلطة التنفيذية:

في الفقه الدستوري، مسؤولية الحكومة ثابتة لأنها مكلَّفة ببلورة السياسات العمومية وتنفيذها، ودستور 2011 لم يشذ عن هذه القاعدة. بالرجوع إلى الباب الخامس الذي يؤطر مقتضيات السلطة التنفيذية، ينصّ الفصل التاسع والثمانين على أن الحكومة “تمارس السلطة التنفيذية. وتعمل تحت سلطة رئيسها على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية”. لكن هل معنى هذا أن الحكومة هي التي تحدد السياسة العامة للبلاد وإدارتها؟

إذا كانت بعض القوى السياسيّة قد قلَّلت من شأن الصلاحيات الدستورية، على اعتبار أنَّ الحكومة في النسق السياسي والدستوري لا تعني الحكم، وأنَّ المؤسَّسة الملكيّة لا تزال مهيمنة على مختلف المؤسّسات الدستورية؛ فإنَّ قوًى سياسيّة أخرى – ضمنها حزب العدالة والتّنمية – ترى فيها إمكاناتٍ مهمّة لم تُتح من قبل، ومن ثمَّ، فإنّه ينبغي اغتنامها بالشّكل الأمثل، وترجمتها إلى سياسات عامّة تستجيب للانتظارات التي عبّرت عنها حركة 20 فبراير.((محمد باسك منار، “التجربة الحكومية بقيادة حزب العدالة والتنمية في المغرب: السياق والمحصّلة الأولية والمآلات المحتملة“، سياسات عربية، العدد 3 (مايو/ أيّار 2013)، ص .76)) لكن اللافت للانتباه أن القراءة الفاحصة لوثيقة الدستور لا تساعد على الإقرار بأننا أمام ثنائية تنفيذية متمايزة ومتكاملة، كما هي الحال في التجارب البرلمانية المُتميّزة، حيث تتجاور الملَكيةُ مع الحكومة المنبثقة من الأغلبية البرلمانية. فالملَكية التي وردت مرتبة في الباب الثالث، بعد الأحكام العامة والحريات والحقوق الأساسية، ظلت رغم الإشارات الملكية خارج التقسيم الأفقي للسلطات الدستورية الثلاث.((مالكي، “قراءة في الهندسة العامة للدستور”، ص.100)) لو حصرنا الحديث عن السياسات العمومية (القطاعية في السياق المغربي)، ومن باب التدقيق تدبير الأمور الإدارية اليومية العادية، يكون السؤال خارج العمل الحكومي. إذا تأملنا، مثلًا، الإجراءات التي اتخذت لتدبير تحديات جائحة فيروس كورونا المستجد، ودققنا في الدلالات السيميائية التي تحيل إليها “جلسات العمل برئاسة الملك” والقرارات المترتبة عنها، نعي أن الأمن الصحي، كسائر القطاعات الأمنية أو “الاستراتيجية” الأخرى، يُدبَّر من قبل الملك و”معاونيه” بغضّ النظر عن صفتهم أو مهمتهم أو السند القانوني لوظيفيتهم!

خاتمة

لا يمكن للبحث في سياقات الإصلاح الدستوري واستراتيجية احتواء السلطة السياسية للتوترات الاجتماعية والسياسية إلا أن يجدد التساؤل عن نفسه. وإن كان الربط بين الدستور وسياقه لا يستهوي بعض الفقه الدستوري، أجد أنه لا بدّ من إعادة الاستفهام عن مدى نجاح هذا العمل في تبيان أن الوثيقة الدستورية لعام 2011 لم تتخلّص تمامًا من كونها ميثاقًا لتدبير ديناميات “الفضاء العمومي”. ويجب أن ينتبه الباحث عن جواب أو أجوبة لهذا الانشغال البحثي لمسألتين أساسيتين: الأولى تحيلنا إلى كون نسبة ما جرى إلى طرف بعينه دون آخر ينطوي على مغالطة وجب الانتباه إلى تهافت حججها، ذلك أن القرارات المتخذة أسهمت فيها قوى متعددة، رسمية وغير رسمية، وإن كان ميزان القوة يفرض التسليم بالتفاوت في القدرة التأثيرية بينها. والثانية تعكس الأبعاد الثلاثة المتداخلة للإقدام على الإصلاح الدستوري: التراكم والاستباق وطبيعة التوافق، وهي بمثابة رسائل تفيد أن مصير الديمقراطية غير مقيّد بقوى تاريخية وبنيوية لا غير، وإنما هو أيضًا نتاج نضال وجرأة وتعاقدات وخيارات وطنية يلتزم بها الفاعلون السياسيون.

يحيل التراكم على أن المشرع الدستوري لم يمس البنية العميقة لتوزيع السلطة، بل اعتمد خيار التغيير ضمن الاستمرارية، أي أن متن الدستور أُعِدّ وأقِّر لكي يضمن للملكية الاستمرارية على الحالة التي هي عليها. ولفهم الاستباق ما علينا إلا أن نتذكر أنه ما بين لحظة بداية توسُّع الطلب والنقاش المجتمعي حول فكرة “الملكية البرلمانية”، مرورًا بالعرض السياسي المفاجئ الذي قدمه الخطاب الملكي يوم الأربعاء 9 آذار/ مارس 2011، وصولًا إلى خطاب يوم الجمعة 17 حزيران/ يونيو 2011 الذي قدَّم مشروع الدستور بعدما استكملت اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور عملها، تَحقَّق الهدف. أيُّ هدفٍ؟ أقصد حصر وظيفة حركة 20 فبراير في المعارضة التقليدية، واختزالها في حركة لا تعبّر عن كافة مكونات الشعب، بمقدار ما تعكس وجهة نظر الجهات المشكِّلة لها فقط. النتيجة الأولى النجاح في اختزال معظم المعضلات والانتظارات السياسية والاجتماعية في المسألة الدستورية، والثانية التمكن من إضعاف الحركة وتعميق الخلافات الإيديولوجية بين مكوناتها، خصوصًا بعد بروز الصراع على الزعامة، مما شلّ قدرتها على إنضاج مبادرة سياسية تحفز على الصمود والمساندة. أما آلية التوافق، فتعَدُّ إحدى منتوجات “الذكاء الجماعي” بين الفاعلين السياسيين، والذي استطاعت المملكة من خلالها أن تضمن أمنها واستقرارها وتدفع، بمقتضاها، بمختلف الأحزاب، بما فيها المعارضة، إلى المشاركة في ممارسة السلطة وتدبير الشأن العام وفق قواعد متفق عليها. ولئن كان هذا المنتوج، في نظر عدد غير قليل من الباحثين، شيّد جسرًا من الحوار بينهم خارج إطار الشكلانية الدستورية، وأعاد نوعًا من الثقة السياسية في ورثة الحركة الوطنية، يرى آخرون أن لا أحد يذهب بهذا التراضي بعيدًا إلى الحد الذي يوحي فيه بوجود مشروع مجتمعي متـكامـل؛ لأن الدولة وأغـلب القـوى السياسية –رغـم كـل ما تقوله- تخـشى أكـثر ما تخشى الاتجاه الوحيد أو المهيمن، ثم إن التوافق تابع للشرعية الذاتية للملكية التي تفضّل أن تبقى حكمًا قريبًا من الميدان إلى حين ربّما نضج العمل الحزبي بما يكفي ليكون هو نفسه مقبلًا بدوره على الديمقراطية، وخاضعًا لشروطها ووفيًّا لمقتضياتها على حدٍّ سواء. بغضّ النظر عن الاختلاف بين الرأيين بخصوص هذه الآلية الأقرب إلى التسوية أو المقايضة إن صحّ التعبير، فحسناتها في إنجاح التفاعل والتدرّج قائمة. لكن الملاحظ أن هذا التدرّج، بحكم الواقع، لم يتخلص بعد، عن قصد أو جهل، من استمرارية ممارسة سياسية ودستورية لم تتخلص بعد من ثقافة الدستور غير المُدوَّن؛ وهــذا ثابت يقـوم عـليه أكثر من دليل في المغرب وفـي ثقافته السياسية منـذ الاستــــقلال. قد يسأل سائل مجدّدا: ما الضرر وتحريف المسؤولية عملة رائجة؟ أعترف أن السؤال وجيه، بيد أن عملية التحقق من أن صاحبه جادّ غير مراوغ ينبغي أن تسبق أيّ محاولة لسبر أغواره، وحينها فقط سيظهر أن التعاقد الدستوري هو أحد المداخل الممكنة للتقليل من منافذ التسلط أو تعطيلها، وليس منتهاه. علينا أن نتذكر أن مسار التقليل أو التعطيل طويل وشائك، وأن بقدر ما تتقدم وتتجدد النصوص والتعاقدات الدستورية، تنتعش، في العادة، ثقافة أسبقية السياسي على الدستوري، وهو ما يعطي لفرضية هشاشة فكرة الدستورانية مصداقيةً أكثر، وتمنّي تقويتها بالممارسة حضورًا أدوم.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى