صراع الرئاسات في تونس: مسارات إدارة الأزمة

اقرأ في هذا المقال
  • بقدر توقّع إسهام انتخابات 2019 في بلورة الحل وتذليل تلك الأزمة، إلا أنها تفاقمت لتصل ذروتها. فلا الرئيس سعيد سعى نحو الحلّ، ولا القوى البرلمانية المنسوبة للثورة كانت في مستوى الانتظارات المعلقة عليها.. ما هي طبيعة الأزمة التي تعيشها تونس وكيف تفاقمت في السنوات الأخيرة؟

د. منجي المبروكيأستاذ الإعلام والاتصال، جامعة قرطاج

مقدمة

تعيش تونس “حالة الهشاشة الديمقراطية”، وتختزل أزمتها أعراض “صعوبات الانتقال الديمقراطي”((مبروكي، منجي وآخرون (2019)، “الانتقال الديمقراطي والانتقال الإعلامي: قراءة في خصائص التجربة التونسية”، في: الاعلام والانتقال الديمقراطي في العالم العربي، تنسيق الزرن، جمال ، الميلادي، نور الدين، منشورات سوتيميديا، ص. 318، ط1، تونس.)) التي عاشتها كل التجارب الديمقراطية دون استثناء؛ فهي منذ سنة 2011، تبحث عن الخروج من حالة الاضطراب الشامل، عبر حلول مرحلية تعتمد الوفاق السياسي؛ من أجل تثبيت التجربة الديمقراطية الفريدة عربيا، والنجاة بها من كل أصناف الاستهداف المحلي والإقليمي.       

تُورِّث الحكومات التي مرت بتونس منذ سنة 2011 (يقارب عددها عشر حكومات بمعدل حكومة في كل سنة) بعضها البعض الأزمات أكثر مما تسهم في تقديم الحلول. وهناك أكثر من رؤية تفسيرية للصعوبات، بعضها يستند لكيد القوى المضادة للثورة داخليا وخارجيا، وبعضها يتعذّر بحداثة التجربة الديمقراطية وفقر الحكّام الجدد على مستوى تسيير الدولة والدراية بواجباتها، خاصة مع تمدد مراحل الانتقال، وغياب الاستقرار الحكومي، في حين أن الأزمة هي تقاطع لتلك العوامل مشتركة ونتيجة لتفاعلاتها.       


وبقدر توقّع إسهام انتخابات 2019 في بلورة الحل وتذليل تلك الأزمة، إلا أنها تفاقمت لتصل ذروتها، فلا الرئيس سعيّد سعى نحو الحلّ، ولا القوى البرلمانية المنسوبة للثورة كانت في مستوى التوقعات المعلقة عليها. تختزل تلك الديباجة إشكالية المقال، ونعيد صياغتها في الأسئلة التالية:

  1. ما هي طبيعة الأزمة التي تعيشها تونس وكيف تفاقمت في السنوات الأخيرة؟
  2. ما هي مسؤولية الأطراف المختلفة في الأزمة وفي أفق صياغة حل لتجاوزها؟
  3. ما هي مسارات الحل المحتملة وفق تقديرات قابلية الحل للتطبيق؟

  1. الأزمة الاقتصادية والسياسية: الملامح والتجليات

            من طبيعة الثورات أن تجعل مجتمعاتها ميّالة للاعتقاد أنها أقوى من الدولة، بما أنها ثارت على خياراتها وأدائها، وهي تنشد تغييرها وتطويعها نحو إرادة الفئات المؤمنة بالتغيير ومصالحها. وقد اضطرت الدولة التونسية لفعل ما تريده شرائح من المجتمع تحت طائلة الضغط الشعبي، لكن بفوضوية عطّلت ترتيب الأولويات، فأجّلت بذلك استحداث فرص العمل لصالح تحسين وضع من هم يعملون، كما عمد بعض السياسيين إلى تعطيل الإنتاج وإيقاف نسق النمو لتحميل الخصوم السياسيين وزر “فشلهم في الحكم”.

            وقد زادت جائحة “كوفيد-19” الوضع تعقيدا وتسببت في تراجع اقتصادي غير مسبوق. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انكماش إجمالي للناتج المحلي الحقيقي بنسبة قدرها 8,2% في عام 2020، وهو أكبر هبوط اقتصادي شهدته تونس منذ استقلالها. كما لامس معدل البطالة نسبة 16,2% في نهاية سبتمبر الفارط، وتقلصت فرص تشغيل العمال ذوي المهارات المتدنية، خاصة من النساء وفئة الشباب، وقد تسبّب ذلك في سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية. ((صندوق النقد الدولي ، بيان صحفي رقم 21/52، “المجلس التنفيذي يختتم مشاورات المادة الرابعة لعام 2021 مع تونس”، 21 فبراير 2021.)) ومن مظاهر الأزمة الاقتصادية مؤشرات تظهر أن إيرادات قطاع السياحة الحيوي هوت بـ65% من قيمتها الإجمالية (746 مليون دولار)، بينما انخفض عدد السواح بـ 78% سنة 2020، وهي تراجعات حادة بمفعول جائحة “كوفيد19”. كما يقدّر إجمالي  الديون المستحقة التي يجب سدادها هذا العام (2021) بـ16 مليار دينار (حوالي 5.9 مليارات دولار)، بارتفاع يناهز 11 مليار دينار (حوالي 4 مليارات دولار) مقارنة بالسنة السابقة. كما ينبه صندوق النقد الدولي إلى إن إجمالي نفقات الأجور في القطاع العام تبلغ حوالي 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من بين أعلى المعدلات في العالم(( رويترز، 21مارس2021.))؛ وقد حثّ صندوق النقد السلطات التونسية على التخفيض من ذلك، والحّد من دعم الطاقة لتقليص العجز المالي. وتعد تلك الإجراءات إكراهات تجد الحكومة صعوبة في تمريرها بعد اختلال ميزانية تونس وخاصة منذ سنة 2014.(( أنظر لموقع مرصد الميزانية للاطلاع على قاعدة البيانات المتعلقة بالميزانيات السنوية للفترة 2014-2020.))

            ولا ينفصل البعد الاقتصادي والاجتماعي للأزمة عن أبعادها السياسية الناجمة عن انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، نتيجة تباين خلفياتهم السياسية – الإيديولوجية، وهو ما يظهر أن جلّ الأحزاب التونسية لا تتقبّل الاختلاف فيما بينها إلى حدّ القطيعة، في الوقت الذي يقبلون فيه على التعامل مع حلفاء خارجيين (إقليميا ودوليا) بمرونة وتقبّل لا يظهرونها في علاقاتهم مع شركاء الوطن.

ولئن حافظت الثورة التونسية على مكسبَي  الديمقراطية والحرية ( تصنيف منتدى دافوس الدولي أفاد بأن تونس هي البلد الديمقراطي الوحيد في العالم العربي، تصنيف فريدوم هاوس الأمريكي أفاد بأن تونس الدولة العربية الوحيدة المصنفة “حرة” بدرجة 70%)((عربي21، “مؤشر للديمقراطية: تونس الوحيدة عربيا والهند تتراجع”، 06 مارس 2021.))، فإن نزوع بعض القوى الحزبية، خاصّة الموصولة منها بجهات استعمارية أو إقليمية، إلى تسهيل التدخلات الخارجية يمثّل تهديدا حقيقيا لتلك المكاسب.

            لقد تبيّن أن تأسيس قواعد مستدامة للديمقراطية التونسية، لا يتحقق فقط بإجراء عمليات انتخابية واحترام نتائجها، على أهمية ذلك المُنجَز وما يعطيه من صيت وإشعاع لتونس؛ لأن ذلك غير كاف لإخراج البلاد من أزمتها المركّبة: الدستورية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ ما لم تعرف   استقرارا حكوميا، واختيارات برامجية ملائمة، يتيح التفرّغ  لحل المشكلات  ومعالجتها معالجة مستدامة، تضمن تدريجيا تحقيق التوازنات المالية والاقتصادية.

            فكل الانتخابات التي عرفتها تونس منذ سنة 2011، وما اتّسمت به من نزاهة وشفافية في العموم، لم يلــِها تحقيق الإقلاع الاقتصادي؛ بل إنه بعد كل انتخابات (2011، 2014، 2019) تنحدر البلاد لأسوأ مما كانت عليه في جميع المؤشرات، وكأن ثمة جهة تبذل كل ما في وسعها لجعل التونسيين ييأسون من الديمقراطية وآلياتها (انتخابات، تنافس حر، وتداول على الحكم…إلخ)، بما أنها لا تحقِّق نموا بمثل ما تحقَّق زمن الاستبداد، ولا تُتِيح رغدا في العيش، ووفرة في الإنتاج، وانخفاضا في الأسعار مثلما يطيب لأنصار النظام القديم التذكير به، والتفاخر بأن ما تحقّق حينها مثّل “نتائج مرجعية” استحال على سُلطات ما بعد الثورة تحقيقها. ((ديوان، إسحاق، ” تحدي تونس المقبل  إصلاح الاقتصاد قبل فوات الأوان”، مبادرة الإصلاح العربي، 23-9-2019.))

          إذا كانت الانتخابات والآليات الديمقراطية حصيلتها ما تعيشه البلاد اليوم من مؤشرات مالية واقتصادية مزرية، تهدّد سيادة البلاد، واستقلالها الحقيقي؛ فإن السؤال يُطرح عن مسؤولية الهيئات الحكومية، والأحزاب السياسية، وكل الفاعلين والقوى المؤثرة في الحالة الوطنية الراهنة، عن ما آل إليه الوضع من تأزّم شامل، وتراجع لكل المؤشرات؟ فهل من الأسلم إلقاء كل المسؤولية على من هم في دفّة الحكم ويرفع الحساب عمن سواهم؟ أم أنّ حكم تونس اليوم هو حكم جماعي ومجتمعي بالضرورة، ولكل نصيب من المسؤولية في تقديم الحلول و تعطيل تنزيلها في الواقع؟


  1. مسؤولية الفاعلين الرئيسيين عن الأزمة وأفق تجاوزها

لا يمكن للأحزاب السياسية المساندة للحكومة أو المعارضة لها،  وللناشطين السياسيين والفاعلين في كل هياكل المجتمع المدني، أن يتجاهلوا مؤشرات تأزم الوضع في البلاد، ولا ينتبهوا لمظاهر التأزّم ولمن يتحمّل مسؤولية ذلك. فبدل اللجوء إلى الاستقطاب والاصطفاف وراء الأطراف الإقليمية والدولية، التي تختلق تناقضا هُوِياتيا بينها، وجب التساؤل عن أسباب انسداد مجال التواصل بين السياسيين في تونس، حتى يتسنى اشتراكهم في تصوّر الحلول والنهج الأسلم لتنزيلها. ((بشارة، عزمي (2012)، الثورة التونسية المجيدة بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، ص 32.))

    هناك أكثر من مثال لتتبادل الأطراف السياسيّة الاتّهامات بخصوص مسؤوليتها عن القطيعة بينها، وعن أسباب تعطيل النشاط الاقتصادي أو البرلماني أو غيره؛ فالحزب الدستوري الحر يرفض الجلوس إلى طاولة حوار تشارك فيها حركة النهضة، بدعوى أنها ذات خلفية إخوانية، والتيار الديمقراطي وحركة الشعب ورئيس الجمهورية يرفضون إشراك “المفسدين” في الحوار، وذلك في تلميح لحزب قلب تونس الذي تحوم حول رئيسه شبهاتٌ لم يحسمها القضاء بصورة جلية. وائتلاف الكرامة يرى أن لاتحاد الشغل جزءا من مسؤولية تفشي مظاهر الفساد، مقابل ذلك يلتقي أنصار الرئيس (حزب التيار وحركة الشعب) مع الحزب الدستوري الحر وجل مكونات المنظومة الإعلامية في تجريم ائتلاف الكرامة وعزله بتهمة ممارسة العنف والدفاع عن الإرهاب. ونفس مظاهر النفي والإقصاء، ترفعها مكونات الجبهة الشعبية اليسارية المنحلة تجاه النهضة، واتهامها باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي، وهي اتهامات غير صادرة عن القضاء. إن فرز القوى السياسية لبعضها هو فرز مبني على الإقصاء ولا يسمح بالتواصل وهو الأرضية الدنيا للإشراك في صياغة الحلول.

   كان الفرز في انتخابات 2019  امتدادا لمعركة التنافي سابقة الذكر، لذلك فإن المعركة كانت بنفس الأدوات وبتغيير للشخصيات فقط. لقد كشف فشل تشكيل حكومة حبيب الجمني، ثم السقوط السريع لحكومة إلياس الفخفاخ، وتكرار نفس منوال اختيار حكومة هشام المشيشي، أنّ خيار للديمقراطية لم يكن ضمن أولويات الرئيس قيس سعيد، ولا الجهات المساندة لمشروعه؛ فـ”حالة الوعي” التي انتشرت بعد فوز الرئيس سعيد في الانتخابات سرعان ما تبيّن أنها لا تنتسب لأحلام الشباب في معالجة مشاكله؛ لأن ما يدعو له الرئيس بعد ذلك يتناقض مع التعددية الحزبية، ويستهدف التجربة الديمقراطية بشعارات وقع ترديدها لعقود في الجارة الشرقية لتونس، دون أن يُرافقها إقلاع لليبيا بكل ثرواتها. ((“حالة وعي” حملة أطلقها الشباب استبشارا بالعودة لوعود الثورة لصالح الشباب، وتمظهرت في حملات تنظيف البلاد وتزيينها بروح وطنية جامعة.)) فكيف يمكن لتلك الشعارات أن تكون سبيلا للإقلاع بتونس بمشاكلها المتراكمة وقلة مواردها المتاحة؟

   يبدو النزاع بين الرئاسات الثلاث حالة سريالية يتعذّر معالجتها؛ فالرئيس يقوم مقام المحكمة الدستورية، في نزاعات هو طرف فيها، ورئيس الحكومة يصعب عليه بناء علاقات متوازنة بين رئيس يعّينه بقصد أن يدين له بالولاء، مقابل أغلبية برلمانية توصله لرئاسة الحكومة على ألّا يتحوّل إلى خصم لها، بل حامل لبرنامج عملها، وتلك معادلة تستقيم لمن يرجَّح كفّة موازين القوى لصالحه عبر تمرير الحكومة ومساندتها. لذلك وجدت الأطراف الحزبية الرئيسية صعوبة في بناء توافقات مستدامة، تقوم على التنازل المتبادل وتقديم المصلحة العامة؛ فنزع  البعض منها إلى تعطيل المنافس وإفشاله، ولو اقتضى ذلك تعطيل هياكل الدولة وإفشالها، وحصاد كل ذلك يتحمّله المجتمع التونسي بفئاته الهشّة والضعيفة.

     لقد تبيّن أن التحشيد الحزبي والتنازع السياسي، والتمسّك الشكلي بالصلاحيات (4)، والاستقواء بقوى استعمارية وإقليمية ليس من مصلحتها وحدة البلاد ومناعتها؛ لا يؤدي إلّا لمزيد تأزيم الوضع؛ فتهدر العهدة الانتخابية البرلمانية والرئاسية الحالية، لا في معالجة مشاكل التونسيين، بل في تأثيم الأطراف السياسية بعضها لبعض؛ في مناخات تدفع الشعب التونسي تدريجيا نحو فقدان الثقة في كل المسؤولين، وفي جل ممثلي الطيف السياسي، حيث لا تبدو حلّ مشاكل المواطنين أولوية ولا موجها للبوصلة. يكون حصاد الانتخابات شخصيات عَرَضية، مسقطة على الساحة السياسية، لا تاريخ لها  ولا خيارات بديلة تحملها، بل هي شخصيات مُسقطة وفق أجندات لا علاقة لها بمعالجة الأزمات والصعوبات، ولا ينتبه لحقيقتها ولا تُكتشف سُفسطائيتها وخطورتها  إلا بعد فوات الأوان.

             وليس أخطر من أن يحتكر الرئيس السعيد تأويل الدستور، وإصراره على الاستمرار في ذلك بتعطيل تشكيل المحكمة الدستورية، ذات المكانة الأعلى في سلّم المؤسسات المؤتمنة على فرض احترام الدستور وعلى ضمان مقومات النظام الديمقراطي والجمهوري((البكوش، ناجي (2015)، إرساء المحكمة الدستورية”، ورد في دراسات قانونية عدد 22، ص18.)) ، بدعوى فوات أجال تشكيلها، وهو عذر لم يلق القبول لدى المختصين ولا الهواة. وقد سبق للرئيس قراءة الدستور بما يراه مناسبا في اختيار رؤساء الحكومات الثلاث الأخيرة (حبيب الجمني، وإلياس الفخفاخ، وهشام المشيشي). فأُسقِطتْ حكومة الجمني رغم كل التوافقات والترضيات المتبادلة، وهو ما جعل سقوطها يبدو من تدبير الأحزاب المكونة للأغلبية حينها، وغير بعيد عن رغبة الرئيس في أن تعود له صلاحية اختيار رئيس الحكومة. وقد ظهر إلياس الفخفاخ ، وسيّر حكومته طيلة فترة وجوده القصيرة، بمعايير الوزير الأول في النظام القديم، ودون التزام حقيقي بروح دستور 2014. وقد أُملِيتْ عليه الاستقالة حين تأكّد الرئيس سعيد أن سحب الثقة منه مآلا حتميا. وقد آلت الأمور نحو اختيار السيد هشام المشيشي مرشحا لرئاسة حكومة ثالثة في أقل من سنة، بنفس آلية اختيار سلفه، التي احتكرها الرئيس سعيد. وحين اختار المرشح الجديد فريقه الوزاري بغير توجيهات الرئيس سعيد بحثا منه عن أغلبية برلمانية تضمن استقرار حكومته، تغيّر الموقف منه جذريا؛ وأصبح إسقاط المشيشي أولوية؛ لأنه “خان أمانة الرئيس”. لقد تبيّن أن احترام مقتضيات الدستور، وعدم التلاعب بمعايير تعيين رئيس الحكومة وقع التلاعب بها، وتكرر ذلك في مناسبتين متتاليتين، و كان مآلها أن جرّ إلى صراع مفتعل بين الرئاسات، يزيد على ما للبلاد من صعوبات موضوعية، صعوبات المكابرة والتصلّب في المواقف، بدل المرونة والتواصل السلس الذي يعلي مصلحة البلاد.

ولم تخفِ المنظمات الاجتماعية قلقها من استمرار انسداد أفق الأزمة، حيث أكد  الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نورالدين الطبوبي، على ضرورة تنظيم حوار وطني يتّسع لكل الفرقاء السياسيين(( الاتحاد العام التونسي للشغل، “مبادرة للخروج من الأزمة في اتجاه خيارات وطنية جديدة”، فريق الإعلام والنشر، 1 ديسمبر 2020، الرابط: http://www.ugtt.org.tn/2020/12/    )) ؛ وحمّل الرؤساء الثلاثة مسؤولية الأزمة التي تعيشها البلاد. وهو ما يُظهر أنّ العقل الجمعي السياسي التونسي، في حاجة إلى مراجعات عميقة، حتى يستجيب لمتطلبات معالجة مستدامة للأزمة. ويُدرك أن التوافق هو طريقة التسوية الأسلم، عملا بقاعدة الربح المشترك، بدل التسليم بجبرية الربح والخسارة وفق ما تمليه موازين قوى التنافس والصراع.

تزامن تفاقم الأزمة الحالية في تونس مع حركية دبلوماسية كبيرة، شملت كل المعنيين بها، والمنشغلين بتداعياتها؛ فقد عبّر سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس دونالد بلوم عن ضرورة دعم المسار الديمقراطي التونسي، ودعت دراسة صادرة عن المعهد الأميركي للسلام ومركز كارنيغي الإدارة الأميركية الجديدة إلى اعتماد مقاربة متعددة الأطراف تستند إلى عمل صندوق النقد والبنك الدولي، وإلى التنسيق مع أوروبا في السعي لمساعدة تونس على تجاوز أزمتها الاقتصادية الحالية((سعيد، كرم، “لماذا الصراع بين الرئيس والنهضة حول تعديل الحكومة التونسية؟”، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 2 فبراير 2021.)).

تدل حصيلة المخاض الداخلي والتحركات الخارجية ألّا محيد للتونسيين بكل مكوناتهم عن معالجة الواقع بروح جماعية مهما طفحت الاختلافات؛ لأن مقاربة الأطراف الدولية وخاصة الإدارة الأمريكية الجديدة، لا تقوم على إسقاط حلول خارجية غير متوافقة مع القواسم المشتركة لأهم القوى الوطنية التونسية؛  فكيف نتوقع مسارات حلّ الأزمة التونسية ضمن تلك السياقات، وأخذا بكل الاعتبارات المؤثرة؟


  1. المسارات المحتملة ومنافذ الخروج من الأزمة

إن أزمة تونس اليوم تختزل ما أفرزته السنوات العشر الأخيرة من مخاض، وصراع إرادات لتقرير الوجهة المستقبلية لتونس من حيث: منوالها التنموي، واختياراتها الاقتصادية، ونمط علاقاتها الإقليمية والدولية، وهي اختيارات وعلاقات تضع على المحك: مقبولية استمرار نمط استنزاف الثروات الوطنية على إرث ما خلّفته حقبة الاستعمار الفرنسي، و منطقية محافظة دولة الاستقلال على ذلك الوضع، دون أن تُدخل عليه تعديلات جوهرية. فحتى مكاسب الجلاء العسكري والجلاء الزراعي لم يكن لها الأثر العميق؛ لأن التمكين للهيمنة الفرنسية على الاقتصاد التونسي، لم تتقلص رغم تغيّر المسميات، فاستمرت السيطرة الفرنسية، واندمجت ضمن الحضور الأوروبي الذي يحتكر النسبة الأكبر من التبادل التجاري لتونس، ومن انتصاب مؤسساتها الاقتصادية، كاستمرار لامتيازات الحقبة الاستعمارية. 

 إن الأزمة الحالية مهما وقع الاختلاف في تحديد طبيعتها، تختزل كلفة التغيير والانتقال الديمقراطي، بما فيه من مخاطر المساس بمصالح قوى الهيمنة الداخلية وتحالفها الموضوعي مع قوى هيمنة خارجية، حيث تقاوم قوى الهيمنة الداخلية والخارجية معا كل تغيير لذلك الواقع ولو اقتضى ذلك اغتيالات وتصفيات وتحكّم في مآلات الانتقال، لذلك فإن ما تعيشه تونس هو في جوهره مخاض الانتقال الذي لم تقطع فيه مع ملامح “وضعها السابق”، ولم تتوصل بعد إلى بناء “نموذجها المنشود”. وسيرورة الانتقال تقتضي التعويل على الحوار والابتكار والتقييم  والمشاركة في بناء جماعي، يُفضي تدريجيا إلى تغيير المعادلات، وفق ما تمليه الإرادة الوطنية من شروط العيش الجماعي المشترك.  

والصيغة المثلى للخروج من الأزمة هي عقد حوار تتداعى له كل الأطراف الحزبية، والمؤسسات الوطنية، والمنظمات الكبرى، دون شروط مسبقة ولا أبوية مفرطة، وعدم الاستثناء من المشاركة في الحوار، بتعلّة الفساد، أو ممارسة العنف، أو الخيارات البرامجية، وكذلك عدم قبول أي مانع للمشاركة إلا إذا استند إلى أحكام قضائية.

 إن إشراك الشباب في الحوار، بمختلف مستوياتهم وجهاتهم يقتضي اختيار آلية تمثيل بصيغ عملية ناجعة، وغير موجَّهة، من خلال مؤسسة شبابية جامعة ومنتخَبة، وذلك لاختيار شباب مرشحين للحوار من بين أعضائها.

 إن حدّة الأزمة الراهنة ليست قدر التونسيين، لذا فإن الخروج منها يقتضي رؤية لتصريفها، لا تُبنى على الأمنيات وإنما على الممكنات، وهي تفترض التدرّج في عرض مسارات الحل، انطلاقا من أوفرها حظا في القابلية للإنجاز، وصولا إلى أكثرها عسرا وتعقيدا.

  1. تجميد الخلاف: يقوم على قرار إعفاء أي من الوزراء المتهمين بتضارب المصالح وتعويضهم بوزراء آخرين، إذا ما ثبت ترجيح الاتهامات بناء على تأكيدات قضائية جازمة، ويفضل أن يخضع هذا الحلّ لمداولات الحوار الوطني والمصادقة عليه.
  2. تدوير الخلاف: يقوم على قرار إعفاء أي من الوزراء المتهمين بتضارب المصالح وتعويضهم بوزراء آخرين، إذا ما ثبت ترجيح الاتهامات بناء على تأكيدات قضائية جازمة، ويفضل أن يخضع هذا الحلّ لمداولات الحوار الوطني والمصادقة عليه.
  3. تصاعد الصدام: سحب البرلمان الثقة من الحكومة، لتعود الأولوية لحزب الأغلبية؛ ليرشح رئيسا جديدا الحكومة. يفضل في هذه الحالة ضبط الترتيبات الواجب اتباعها؛ من أجل ضمان الأكثرية المساندة للحكومة، وفق برنامج عمل يُسند على أساسه منح الثقة، كما يفضّل أن تكون التركيبة الحكومية وبرنامج عملها من مخرجات الحوار الوطني الذي يكون هدفه الأساس معالجة الأزمة الراهنة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
  4. الخيار المؤجل (خيار الإنقاذ): تنظيم حوار شامل من أجل إجراء مراجعات كبرى تهم استكمال المؤسسات الدستورية بما فيها: تشكيل المحكمة الدستورية، وهيئة الإعلام؛ علاوة على تنقيح القانون الانتخابي، ووضع القوانين المنظمة للإشهار وسبر الآراء، وضوابط تمويل الأحزاب، والتوصل إلى صيغ تضمن التكامل والتنسيق بين السلطات ومختلف مؤسسات الدولة، و عند تعذّر صيغ العمل المشترك وتواصل انعدام الثقة وتعطيل عمل مؤسسات الدولة، يقع تدارس صيغة تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها..

خاتمة

          بعد عشر سنوات من الثورة لا تأخذ مشكلات  التونسيين طريقها إلى الحلّ في آجال منظورة، وهم لا يتفقون على من يتحمل مسؤولية ذلك؛ لأن الحقيقة ليست هاجس الجميع. والدعوة للحوار كمنهاج لاجتراح الحلول، وللتوافق على ضمانات ألا تستفرد جهة ما بفرض حلول ليست موضع اتفاق؛ فالدرس الأهم في التعامل مع الأزمة الحالية، هو أن الاستقواء بالأجنبي ليس الخيار الأمثل لنجاعة الحلول واستدامتها، غير أن الأجنبي ليس الغريب عن وطنك فحسب، فأبناء الوطن الواحد يمكن أن يكونوا غرباء عن بعضهم البعض؛ نتيجة القطيعة النفسية والثقافية، وغياب تمارين تذويب الاختلاف بفهم الآخر وتفهّمه. كيف لا والرئيس رمز وحدة التونسيين، حين يتكلم عن المختلفين معه، يتكلم بلغة حربية يستعير فيها المنصات وحاملات القذائف؟ و يرميه منتقدوه بنفس العيار، مشككين في نواياه و كل ما بدر منه. واستعارة صورة الرئيس ومن يختلفون معه هي للاستدلال على حدة الهوة بين المختلفين من التونسيين، لذلك فالاستعانة بالحوار الوطني للوصول للقواسم المشتركة بينهم هي الخطوة الأولى وربما الأهم؛ من أجل أن يتحول الحوار إلى آلية للعيش المشترك، وتوطين التونسيين على تقبّل تنوعهم. والاختلاف لا يكون مداره فقط المعتقدات والاتجاهات لأنها الأكثر رسوخا وتعقيدا، بل ليكون موضوعها حلولا وخيارات لمشكلات تهم الأشياء قبل الذوات؛ فهي أيسر تقبلا.

إن التنافس حول من يقدّم براءة الاختراع الملائمة لحاجة أو غرض أو مصلحة في أي شأن من شؤون الحياة، هي الصيغة العملية للخروج من الأزمة. فحين يكون اختيار حلول مشكلات المجتمع هي مجال التنافس الحقيقي بين الكفاءات التونسية بمن فيهم من السياسيين، حينها نقترب فعلا من المعالجة السليمة للصعوبات. إن القصف عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو عبر المنابر الصحفية أو عبر الخطب الرئاسية، لا تزيد إلا في شحن المواطنين بعضهم عن بعض، وهي ممارسات سئمها التونسيون، وملّوا اجترارها، إذ لم تسهم في تقدمهم، بل نالت من روحهم المعنوية، وأذكت الكراهية بينهم، في حين أن  التجربة التونسية تحتاج خطّة اقتصادية واجتماعية طويلة المدى، قادرة على القضاء على منابع الإرهاب المُتمثلة في البطالة والتهميش والإقصاء والفقر والجهل والحيف الاجتماعي والفوارق الجهويّة(( الرمضاني، مسعود (2017)، تونس: الانتقال الديمقراطي العسير، ص 11.))، تلك مشاكل التونسيين الحقيقية، وليس اختلافهم أو تنوعهم.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى