(لا كاسا دي بابل).. هل تستطيع إسبانيا اختراق المنطقة العربية من خلال السينما؟

اقرأ في هذا المقال
  • لقد أحدث مسلسل “لاكاسا دي بابل” بترجمته العربية “بيت الورق” ضجة في أوساط المشاهد العربي، حين حقق أرقاماً قياسية لنسب المشاهدة على منصِّة “نتفليكس” ليسجل أعلى مشاهدة لغير الناطقين بالإنجليزية خلال أسبوع واحد من عرضه،

 

 

 

توطئة:

لقد أحدث مسلسل “لاكاسا دي بابل” بترجمته العربية “بيت الورق” ضجة في أوساط المشاهد العربي، حين حقق أرقاماً قياسية لنسب المشاهدة على منصِّة “نتفليكس” ليسجل أعلى مشاهدة لغير الناطقين بالإنجليزية خلال أسبوع واحد من عرضه، وقد شاهده 34.3 مليون حساب.

اللافت في الأمر أن منصة “نتفلكس” استعانت لأول مرة باليوتيبر السعودي “محمد الشهري” للترويج للجزء الثالث من المسلسل، والذي دخل لأماكن التصوير، وأجرى لقاءات حيوية مصورة مع الممثلين، يعكس ذلك رغبة السنيما الإسبانية في تعزيز آليات الدخول للمشاهد العربي، والتي عرضت سابقاً جزء من مسلسلاتها على شاشات عربية، ساهمت وفق تقرير دائرة الهجرة الإسبانية في زيادة عدد السياح العرب لإسبانيا، ويتقاطع أداء السينما الإسبانية مع سعي إسبانيا لزيادة مراكزها الثقافية في المنطقة العربية.

على مدار الأربعين عامًا الماضية، مرَّت إسبانيا بعملية إصلاحات تاريخية لتحديث البلاد، فمن الناحية السياسية، اعتمدت نظامًا ديمقراطيًّا يرتكز على أحزاب سياسية منظَّمة تنظيمًا جيِّدًا، ومجتمع مدني ناشئ، ونموذج مواطنة مسؤول. وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية القائمة حاليًّا، فيمكن القول بأنَّ الاقتصاد الإسباني اقتصاد فَتِيّ، ويمكن مقارنته بأكثر الاقتصادات تطوُّرًا في العالم.

ولسنا ندَّعي حين نقول إنَّ إسبانيا تُعدُّ من أهمِّ المنتديات الاقتصادية والسياسية الفنِّية العالمية، إذ إنها كانت مركزًا لاجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي، ومجموعة العشرين، ومنظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. هذا على الصعيد الاقتصادي، أمَّا في القطاع الخاصِّ العابر للحدود، فتُعدُّ إسبانيا موطنًا أصليًّا لشركات متعدِّدة الجنسيات (مثل ريبسول، وأبنجوا، وسانتاندر بنك، وبي بي فا، وزارا…)، منتشرة في جميع القارَّات الخمس. وعلى مستوى المجتمع المدني، فقد ساعد مشاهير مثل أنطونيو بانديراس، وفنَّانون مثل بيكاسو، ورياضيون مثل رافائيل نادال، في رفع مكانة إسبانيا على مستوى.

وقد كانت الدبلوماسية الإسبانية -وما تزال- وسيلةً رئيسية للتغيير في الخارج. حلِّل هذه الورقة دور القوَّة الناعمة الإسبانية الموجَّهة من خلال السينما والتلفزيون، في اختراق المجتمعات، وبثِّ رسائل السياسة العامَّة الإسبانية إليها، في ضوء المسلسل الدرامي الإسباني واسع الانتشار: La Casa De Papel (بيت من ورق).


وقد حاولت جميع الحكومات الإسبانية -بغضِّ النظر عن أيديولوجيتها- تبنِّي نموذج جديد للدبلوماسية، وكان الدافع وراء هذا التغيير عاملان رئيسيان: أولهما تطوُّر المؤسَّسة الدبلوماسية نفسها، والآخر تحوُّل إسبانيا إلى دولة حديثة وتنافسية.

وفي ظلِّ التسابق الحاصل على المنطقة العربية، تَدافَع كثير من الدول المحيطة، مثل إيران وتركيا وإسبانيا، إلى إعادة توجيه الدراما إلى المجتمعات العربية، لزيادة المعرفة الثقافية بالدول المنتجة للدراما. فثمَّة تجرِبة تركيا التي نجحت في رفع منسوب السياحة الخارجية، وتعزيز الثقافة واللغة التركية في المجتمعات العربية، ويمكن إدراج إسبانيا في السياق ذاته، وهو التمدُّد نحو المنطقة العربية لتحقيق مصالح وأهداف مختلفة.
وتحاول هذه الورقة تسليط الضوء على سياسات القوَّة الناعمة التي تتبعها إسبانيا للتأثير في المجتمعات المستهدفة، خصوصًا المنطقة العربية، بصفتها محطَّ أنظار مهمٍّ للدول الفاعلة في السياق الدولي من خلال السينما والتلفزيون.

أولاً: تقديم تاريخي للسينما الإسبانية

[popup_anything id=”2042″]كانت بدايات السينما الإسبانية مبكِّرة جدًّا، فقد أنتجت فيلمًا قصيرًا مدَّته دقيقة واحدة عام 1896، يصوِّر خروج مجموعة من الناس في أثناء خروجهم من كنيسة، وفي عام 1897، أُنتج فيلم (مُشادَّة في مقهًى – Pelea en la Cafeteria)، فكان أول فيلم روائي قصير صامت في تاريخ السينما الإسبانية. أمَّا أول فيلم روائي طويل في تاريخها فكان (حياة كولومبوس واكتشاف أمريكا)، وقد عُرض عام 1916، وكانت مدَّته 110 دقائق. بعد ذلك تتابع إنتاج الأفلام الإسبانية، لكنها لم تكن إلَّا محاكاةً وتقليدًا لموجات السينما الأوروبِّية، خاصَّةً الإيطالية والفرنسية. وقد أُسِّست أول شركة إنتاج سينمائي في إسبانيا عام 1932، وبين عامَي 1945 و1957، بدأت التحوُّلات السياسية التي اتَّبعها فرانكو، والتي اتَّسمت بالانغلاق، وفي تلك المدَّة ظهرت الأعمال الفنِّية الإسبانية، بما اصطُلح على تسميته بـ(السينما الجديدة)، فبدأت تحصد الجوائز في المهرجانات الدولية. وكان من بين تلك الأعمال: (الطريق) لخوزيه أنطونيو كوندي عام 1951، الذي قدَّم قصَّة عائلة قروية اضطُرَّت إلى الهجرة إلى المدينة بسبب الجوع.

وقد أدَّت السينما الإسبانية دورًا مهمًّا في تحويل إسبانيا إلى بلد ديموقراطي، لا سيَّما بعد وفاة فرانكو عام 1975، بل وحتى في السنوات الأخيرة السابقة لوفاته. وشهدت هذه السينما زَخْمًا كبيرًا بعد 1975، نتيجة ظهور عدد من المخرجين الجدد المتميِّزين، مثل كارلوس ساورا، وأستاذه لويس بونويل، وماريو كاموس، وخوسيه لويس غارسيا. وفي العهد الاشتراكي لغونزاليس، في عام 1982، استُحدِثت مديرية عامَّة للسينما، فبدأت الحرِّيات الإبداعية والفنِّية في الظهور مع صدور قوانين لحماية السينما الإسبانية وزيادة دعمها، واعتراف المهرجانات العالمية بقيمتها. فحصل ماريو كاموس حينها على الجائزة الذهبية لمهرجان برلين السينمائي عن عمله (خلية النحل)، وحصد ساورا جائزتين في مهرجان كان السينمائي عن عمله (كارمن)، فيما فاز خوسيه لويس غارسيا بالأوسكار عن عمله المتميِّز (لنبدأ ثانيةً)، وتلاه في التسعينيات المخرج فرناندو تروبيا، ثم بيدرو ألمودوفار، وأليخاندرو أمينابار.

وقد بلغ الإنتاج السينمائي في إسبانيا عام 1990: 42 عملًا فنيًّا، وارتفع العدد عام 2000 إلى 104، ليصل عام 2018 إلى نحو 156 فيلمًا، وبلغت عائدات نوافذ التذاكر للأفلام الإسبانية حول العالم 209,752,101 دولار.

أمَّا على صعيد الإنتاج التلفزيوني، فكانت مدينتا مدريد وبرشلونة أول مدينتين تعرفان التلفزيون في إسبانيا، وذلك عام 1948 و1956 على التوالي. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1956، بدأ التلفزيون الرسمي الإسباني أول بثٍّ منتظم له في البلاد عبر القناة الرسمية، وقد تأسَّست أول قناة تلفزيونية خاصَّة في إسبانيا عام 1990.

ولم يتأخَّر الإنتاج الدرامي كثيرًا، فبعد أشهر قليلة من الانطلاقة الرسمية للتلفزيون الرسمي الإسباني، عُرض أول مسلسل باللغة الإسبانية، وهو المسلسل الكوميدي “Los Tele-Rodríguez”، في فبراير/شباط 1957، وقد كان مكوَّنًا من 13 حلقة، مدَّة كلٍّ منها 25 دقيقة. ثم تبعه مسلسل “Cuentos para Mayores” (حكايات للمسنين) في 1958-1959، ثم مسلسل “Érase una vez” (ذات مرَّة) ذو الـ100 حلقة. واستمرَّ بعد ذلك إنتاج المسلسلات التلفزيونية الإسبانية، لكن بأعداد ضئيلة.

وفي السنوات الأخيرة ومع النجاح الذي حقَّقته بعض المسلسلات الإسبانية، مثل “la casa de papel” الذي انتشر في كلِّ أرجاء العالم لا سيَّما المنطقة العربية، أصبحت إسبانيا -وخاصَّةً مدريد- مركزًا لصناعة المسلسلات، سواءٌ الإنتاج الإسباني، والإنتاج المشترك، والمسلسلات الأجنبية التي تُصوَّر في إسبانيا.
وعلى رغم النجاح الكبير الذي حقَّقته الدراما الإسبانية بمسلسل “la casa de papel”، فإنَّ الفرق لا يزال كبيرًا من ناحية الإنتاج الفنِّي السينمائي والتلفزيوني، بينها وبين ما يمكن أن نطلق عليهم عمالقة الإنتاج السينمائي، مثل هوليوود وبوليوود، أو عمالقة الإنتاج التلفزيوني، كالولايات المتَّحدة، وتركيا في الآونة الأخيرة.
ووَفقًا لتقرير “PricewaterhouseCoopers”، فقد أُنتج في إسبانيا العام الماضي (2018) 58 مسلسلًا، وساهم قطاع المسلسلات ذلك العام بأكثر من 738 مليون دولار في الاقتصاد الإسباني. أمَّا السينما الهندية فقد أنتجت حينها 1813 فيلمًا، لتصبح الأولى عالميًّا من حيث عدد الأفلام المنتَجة وعدد التذاكر المَبيعة، إلَّا إنها الثالثة عالميًّا من حيث عائدات نوافذ التذاكر، فقد حقَّقت 2.44 مليار دولار، وذلك بسبب تدنِّي أسعار التذاكر محلِّيًّا.

كما أنتجت السينما التركية العام الماضي 180 فيلمًا بإيرادات بلغت نحو 95 مليون دولار، وفي مجال الإنتاج التلفزيوني، أنتجت نحو 50 مسلسلًا جديدًا، علاوةً على استمرارها في إنتاج حلقات مسلسلات بدأت قبل ذلك واستمرَّ عرضها. وقد حقَّقت تركيا عائدات بلغت 350 مليون دولار من تصدير المسلسلات إلى الخارج، لتصبح الثانية عالميًّا في تصدير المسلسلات بعد الولايات المتَّحدة الأمريكية. أمَّا عملاق صناعة السينما والإنتاج التلفزيوني في العالم، الولايات المتَّحدة، فقد أنتجت العام الماضي 879 فيلمًا، وبلغت عائداتها على مستوى العالم 11,893مليار دولار، في حين أنتجت 495 مسلسلًا تلفزيونيًّا.

ويُعدُّ “7 días al desnudo” المنتَج عام 2005 أول المسلسلات الإسبانية التي عُرضت في الشرق الأوسط، من خلال شاشات دولة الإمارات العربية المتَّحدة. لكنَّ المسلسل الذي حقَّق شهرة عالمية كان “Águila Roja” (النسر الأحمر) من إنتاج عام 2009، واستمرَّ عرضه حتى 2016، وفي 2017 بدأ عرضه على شاشة أبو ظبي دراما.

بيد أنَّ النجاح الكبير والانتشار الواسع الذي حقَّقه (لا كاسا دي بابل)، خاصَّةً في المنطقة العربية، أدَّى إلى إعادة التذكير بالدراما الإسبانية، وزيادة الاهتمام بالثقافة واللغة الإسبانية، الأمر الذي زاد من عدد الراغبين والمتقدِّمين لتعلُّم اللغة الإسبانية، في فروع المركز الثقافي الإسباني (ثربانتس) في العواصم العربية، بالتزامن مع عرض المسلسل، كما أدَّى إلى زيادة ملحوظة في أعداد السيَّاح العرب في إسبانيا.

وقد انصبَّ اهتمام المنصَّات الرقْمية -مثل نتفليكس- على إنتاج المسلسلات الإسبانية قبل مسلسل (لا كاسا دي بابل)، إذ أنتجت نتفليكس أول مسلسل إسباني، وهو “la chicas del cable” (فتيات الكابل)، في أبريل/نيسان 2017، في حين عُرضت أولى حلقات (لا كاسا دي بابل) على التلفزيون في شهر مايو/أيَّار من العام نفسه. إلَّا إنَّ (لا كاسا دي بابل) كان له الأثر الأكبر في زيادة اهتمام نتفليكس بإنتاج مسلسلات إسبانية، أشهرها “Vis A Vis” و”Elite”، اللذين حقَّقا أعلى نسب مشاهدات على نتفليكس خلال 2018، فقد وصلت إلى 20 مليون مشاهدة. هذا بالإضافة إلى إنتاج نتفليكس للجزء الثالث من (لا كاسا دي بابل)، والذي حطَّم الأرقام القياسية لنسب المشاهدات على المنصَّة، ليسجِّل أعلى مشاهدة لمسلسل غير ناطق بالإنجليزية خلال أسبوع واحد من عرضه، إذ بلغ عدد الحسابات التي شاهدته نحو 34.3 مليون حساب، أنهى 70% منها كلَّ حلقات الموسم خلال أسبوع واحد. وتشير إحصائيات لمجلة Television Business International نُشرت في فبراير/شباط 2018، إلى أنَّ 12.5 مليون شخص شاهدوا المسلسل عبر الإنترنت في تركيا فقط.

وعلى رغم أنَّ الدراما الإسبانية انفتحت مبكِّرًا على الخارج، فإنها لم تستطع أن تجاري الدراما التركية، سواءٌ من ناحية عدد الأعمال المصدَّرة إلى الخارج، ومن ناحية الإيرادات. إذ يُعدُّ مسلسل “Deli Yürek” أول عمل تلفزيوني تركي يُصدَّر إلى الخارج، وبدأ عرض أولى حلقاته في تركيا في أكتوبر/تشرين الأول 1998، في حين بدأ تصديره إلى الخارج في 2001-2002، حتى قبل انتهاء حلقاته في تركيا في يونيو/حَزِيران 2002، وعُرض كذلك في كازاخستان وأذربيجان. أمَّا مسلسل “Gümüş” فكان بداية الانطلاقة للمسلسلات التركية في الشرق الأوسط، في أبريل/ نيسان عام 2008.

وكانت بداية انطلاقة الدراما التركية في أمريكا اللاتينية عام 2014، بعد عرض مسلسل “bin bir gece” في تشيلي، وبعدها في الأرجنتين ثم في باقي دول أمريكا اللاتينية. وفي بدايات 2018، بدأ عرض أول مسلسل تركي في التلفزيون الإسباني، وهو مسلسل “Fatma Gülün Suçu Ne”، ثم تلَته ثلاثة مسلسلات أخرى في العام نفسه، وما زالت الكثير من المسلسلات التركية تحقِّق نجاحات كبيرة في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، الأمر الذي انعكس على القطاع السياحي بزيادة عدد السيَّاح القادمين إلى تركيا من إسبانيا ودول أمريكا الجنوبية.

وأدَّى الانتشار الواسع للمسلسلات التركية والنجاحات التي حقَّقتها، إلى اهتمام المنصَّات الرقمية مثل نتفليكس بإنتاج مسلسلات تركية والاستفادة من نجاحها. فكانت أول تجرِبة لإنتاج مسلسل تركي من قبل نتفليكس عام 2018 مع مسلسل (المحافظ)، وحقَّق المسلسل مشاهدات تجاوزت 10 ملايين خلال أول أربعة أسابيع لعرضه، وَفقًا لبيانات أعلنتها المنصَّة.

ثانياً: بين القوَّة الناعمة والسينما

على الرغم من أنَّ مصطلح القوَّة الناعمة دخل الأدب في التسعينيات، فإنَّ هيمنة مصر الثقافية على العالم العربي في الخمسينيات وما بعدها مثلًا، توضِّح ما ينطوي عليه هذا المصطلح من أهمِّية. إذ تمكَّنت مصر حقًّا من توسيع مجال نفوذها في الوطن العربي دون استخدام القوَّة العسكرية أو الاقتصادية، والمضي قدمًا من خلال الاستفادة من الدبلوماسية العامَّة وأدوات القوَّة الناعمة. فيما أدَّت أدوات القوَّة الناعمة دورًا بارزًا في خروج الولايات المتَّحدة الأمريكية من الحرب الباردة منتصرةً، بفضل قدرتها على استخدام تلك الأدوات بشكل صحيح وفاعل.

في حين يُعدُّ الاتِّحاد الأوروبِّي المثال الأكثر فعاليةً للقوَّة الناعمة، وفي هذا الصدد، يمكن القول بأنَّ هذه المميِّزات التي توفِّرها القوَّة الناعمة ليست قطعية، إذ تُظهر البيانات أنَّ استخدام ديناميات هذه القوَّة جزء أو مرحلة من عملية إدارة السياسة العامَّة في أدبيات اليوم.

ووَفقًا لما ذكره جوزيف ناي، فإنَّ القوَّة الناعمة تستند إلى ثلاثة مصادر رئيسية، هي العلوم والفنُّ والاقتصاد. وفي كلِّ مصدر يمكن استخدام عدد من الأدوات وتمكينها من خلال وسائل الإعلام والجامعات والمنظَّمات غير الحكومية، والشركات متعدِّدة الجنسيات.

وعلى الأرجح، فقد ازدادت قوَّة وسائل الإعلام في العقد الأول من القرن العشرين لعدَّة أسباب، مثل سهولة انتقال التكنولوجيا، وتوافر الإنترنت في كلِّ مناطق العالم تقريبًا، والاستخدام الأكثر كفاءةً لديناميات البحث من قبل الجمهور، والمنافسة بين هيئات البثِّ، وظروفها الصعبة.

لذلك، يمكن مشاهدة برامج مثل المسلسلات أو الأفلام على أجهزة التلفزيون أو أجهزة الكمبيوتر الشخصية أو حتى الهواتف المحمولة، ممَّا لا يعني راحة الجمهور فقط، بل أيضًا سهولة وصول جهة البثِّ إلى المزيد من الأشخاص. ووَفقًا لناي، فإنَّ المشكلة هنا هي أنَّ الحكومات لا يمكنها التحكُّم في الثقافة الشعبية، على الرغم من أنها تنفق على الدبلوماسية العامَّة وبرامج البثِّ والتبادل، ومن الصعب عليها استخدام هذه الأداة أيضًا بصورة مباشرة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ تشجيع المنتجات الحكومية، وجعل صادراتها مريحة، وإدخال تحسينات في هذا القطاع، ميزاتٌ إضافية حالَ وُجدت.

وتركِّز هذه الدراسة على تأثير السينما والتلفزيون الإسباني -بصفتهما أداة قوَّة ناعمة- في المنطقة العربية، بدراسة حالة مسلسل (لا كاسا دي بابل)، فتحاول الإجابة عن التساؤلات التالية: هل يمكن أن يكون هذا المسلسل مصدرًا للإلهام الثقافي لتوفير الانطباع والكفاءة في الدبلوماسية العامَّة الإسبانية؟ وهل يمكن تجرِبته باستخدام أدوات مختلفة؟ وهل يمكن عدُّ تأثير السينما والمسلسلات التلفزيونية ذا بُعد مستمرٍّ على المستوى الاستراتيجي؟

أمَّا التفاصيل الأخرى التي يجب تأكيدها فهي الطرق التي تُعرض بها الأفكار على الجمهور في الإنتاجات التلفزيونية. على سبيل المثال، يرتبط مسلسل (السنافر) الكرتوني مباشرةً بمبادئ الشيوعية، مع أنه لا يقدِّم مشاهد مباشِرةً للدعاية الشيوعية، لكن ثمَّة انطباع بأنَّ بعض تفاصيله تُختار أيديولوجيًّا وتُقدَّم بشكل إيجابي.
من ناحية أخرى، تُنتِج بعض الأنظمة أعمالًا فنِّية تحمل دعاية موجَّهة، وأفضل الأمثلة ذات الصلة هي الأفلام التي أُنتجت في ألمانيا تحت الحكم النازي، وثمَّة مسار آخر يتمثَّل في استخدام المنتجات المخصَّصة للَّاوعي، والتي تُستخدم بشكل عامٍّ لإعلانات المنتجات. وعلى الرغم من أنَّ الادِّعاءات المتعلِّقة بالرسائل المموَّهة، لها تغطية واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي، فثمَّة سؤالان مطروحان على الطاولة، الأول عن مدى نجاعتها، والثاني عن كونها متعمَدة أم لا.

وبشكل مطابق لمثال (السنافر)، تبثُّ هوليوود إنتاجها إلى العالم. فعلى سبيل المثال، يُعرض في إنتاجها أنَّ الكثير من الكوارث تحدث في الولايات المتَّحدة، ثم يتغلَّب العلماء الأمريكيون على هذه الكوارث دائمًا، أو مثلًا أنَّ الجيش الأمريكي يحلُّ دائمًا مشكلات مواطنيه ورعايا الأقلِّيات في المناطق التي تهدِّدهم في العالم، وينقذهم من حالة الرعب أو الحرب التي كانوا تحت تهديدها، ويمنحهم الحياة العادلة. ويمكن رصد الكثير من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي عملت بصفتها دعايةً إيجابية وأدوات قوَّة ناعمة في السياسة الخارجية الأمريكية، مثل “Black Hawk Down” و”Pearl Harbor” و”United 93″ و”The Interview”.

ولا يبدو أنَّ بثَّ الأفلام أو المسلسلات التي تُنتج مباشرةً للدعاية في بلد آخر، أمر معقول في ظروف اليوم، ولا توجد أيُّ أمثلة ذات صلة. لكن يبدو أنه من الممكن فقط حدوث مثل هذا من قبل الحكومة لمجتمعها الخاصّ. ويمكن عدُّ الرسوم المتحرِّكة القصيرة المسمَّاة (شافيز في الجنَّة) أداةَ دعاية فعَّالة اليوم في فنزويلا على سبيل المثال. ومن ناحية أخرى، فإنَّ تأثيرها مثير للجدل، ومن المستحيل الحصول على بيانات محدَّدة لها.

بيد أنَّ الطريقة الأكثر ملاءمةً والتي يمكن استخدامها قوَّةً ناعمة، هي مثال ما تفعله هوليوود، إذ يكون تأثيرها أكثر عقلانيةً. ومن خلال التفكير على المدى الطويل للحكومات، وطريقة طرحها لأفكارها السياسية، وتبادل الأهداف عبر العقود، والعمل من أجل تحقيق تلك الأهداف مع الأدوات الأخرى، يبدو الأمر أكثر واقعيةً. وعلى الرغم من أنَّ الدعاية تعني فرض المنتجات بدلًا من جعلها مرغوبة، فإنَّ وضع المنتج/الخدمة في خطَّة تسويق قصير الأجل، هي أكثر ملاءمةً للأغراض التجارية، لا لترويج السياسات الدولية.

ثالثاً: تفسير مسلسل تلفزيوني بصفته عنصر قوَّة ناعمة

قدَّم جوزيف ناي مثال هوليوود بصفته أحد العناصر التي تشكِّل القوَّة الناعمة الأمريكية، ومن ناحية أخرى، يَعدُّ ميخائيل داكاس الإنتاجَ التلفزيوني الإسباني، والذي يشاهده ملايين البشر، عنصرًا فعَّالًا في جعل التصوُّر المأخوذ عن إسبانيا إيجابيًّا. وعند إعادة النظر في أيٍّ من الحالات التي يُعاد فيها عرض المنتجات مثل الأفلام والمسلسلات والرسوم المتحرِّكة، يبرز تأثير الإنتاجات المقدَّمة إلى الجمهور في أوقات معيَّنة، فيجعل الموقف أو الفكرة إيجابيةً، ويساهم في قبولها بشكل طبيعي.

لكنَّ المسلسلات التلفزيونية ليست مناسبة لغرض الدعاية المباشرة، حتى إذا أُنتجت لهذا الغرض، إذ من الصعب للغاية ترويجها في بلد أجنبي، لأنَّ الحكومات لديها فرص محدودة في بلاد غيرها للترويج لنفسها. لذلك كان من الأنسب في هذا الصدد بثُّ رسائل ضمنية مموَّهة من خلال المسلسلات، عن طريق وضع الكثير من أسماء المنتجات والخدمات الناشئة في بلد ما، بالإضافة إلى الشعارات أو الأفكار الأيديولوجية، وهي طريقة تجارية يستخدمها المنتجون، وتوفَّر مجَّانًا في ظلِّ عدَّة شروط. أمَّا الإنتاجات التي لا تكشف عن المطلوب بشكل صريح، ولكن يمكن أن تُستوعب في مدَّة معيَّنة و/أو تنطوي على معايير مقبولة (مثل أفلام الدراما الرومانسية في بوليوود أو أفلام الأكشن في هوليوود)، فيمكنها أن تعطي نتائج أكثر واقعيةً.

وقد ركَّز مسلسل “Gran Hotel” الإسباني الشهير مثلًا على تقديم رسائل بصرية مرتبطة بحقبة زاهية في تاريخ المملكة الإسبانية، من خلال شكل المدينة الجميل، ووسائل المواصلات الكلاسيكية، وموضة الملابس الرجالية والنسائية في تلك الحقبة، وغيرها من رسائل الرومانسية والغرام البصرية، بالإضافة إلى رسائل سمعية من خلال إظهار أناقة اللغة والموسيقى الإسبانية ووقْعها على المتلقِّي، باستخدام مقاطع موسيقية وأخرى غنائية من المدرسة الفنِّية الإسبانية.

وبطبيعة الحال، كان ثمَّة رسالة تُمرَّر، مثل «ننتظركم سيَّاحًا في إسبانيا، لمَ لا تجرِّبون هذا النوع من الحياة لوقت قصير؟»، فما ردُّ الفعل الذي أظهره الجمهور حال تلقَّى هذه الرسائل؟ كما رأينا، حقَّق المسلسل نجاحًا كبيرًا في زمنه، لُوحظ من كمِّ الإيرادات التي حصَّلها من إنتاجه، وجرى موضوعه على ألسنة الناس، إذ كان ممتعًا، وأُصيب الجمهور بالفضول بشأن الجزء التالي.

وفي السياق ذاته، فقد ذاع صيت مسلسل “7 días al desnudo” الإسباني في بعض الدول، ومن بينها الإمارات العربية المتَّحدة، إذ لُوحظت زيادة تفوق 30٪ في عدد السيَّاح الذين زاروا إسبانيا في وقت رواجه، وَفقًا لتقرير أصدرته وزارة الهجرة الإسبانية في مارس/آذار 200. وعليه، فعندما يُنظر في مصطلح القوَّة الناعمة من خلال هذه المسلسل، ينبغي عدُّ جذب السيَّاح إلى إسبانيا إنجازًا. من ناحية أخرى، فإنَّ قبول المسلسل التلفزيوني بصفته أداةً من أدوات القوَّة الناعمة، يمتدُّ خلال مدَّة معيَّنة عن قصد (تلك المرغوبة) أو عن غير قصد، بدلًا من استخدام أدوات الدعاية المباشرة أو الفكرة أو موضع المنتج بشكل أكثر واقعيةً.

رابعاً: تحليل نفسي لـ”La Casa de Papel”

يقوم هذا العمل الدرامي على سيناريو محكم تدور قصَّته حول عملية سطو مثالية؛ لا أحد مهدَّد بالموت خلالها، ولا يُسرق مال من أحد أيضًا، ومع ذلك فإنَّ اللصوص يهربون بمبلغ يفوق 2.4 مليار يورو. هذه هي الخطَّة التي طرحها «البروفيسور» الغامض (سيرجيو ماركينا) للمسلسل التلفزيوني “La casa de papel” أو (بيت من ورق). ومجموعة اللصوص الذين جمعهم البروفيسور سينفِّذون عملية سطو شديدة الدقَّة، إذ عليهم أنَّ يستغرقوا خمسة أشهر على الأقل «لتعلُّم» خطَّته و«إتقانها»، ولكنَّ فلسفة الخطَّة تتعدَّى عملية السطو إلى مواجهة السلطات بطريقة جديدة وأكثر إقناعًا للجمهور الحانق على هذه السلطات. إنَّ من السهل رؤية انعكاسات ما يسمِّيه الفيلسوف جان بودريار «التذويت والمحاكاة» في أطروحته “Simulacra and Simulation”، إذ يقترح بودريار فيها أنَّ التذويت يشكِّل تهديدًا أكبر للسلطة من التهديد «الحقيقي»، لأنه قد يكون في سريرة المتذوِّت أنَّ «القانون والنظام ذاتيهما قد لا يكونان سوى محاكاة لواقع غير موجود».

وقد يبدو انتقاد المعايير الأساسية للقانون والنظام بعيدًا عن مسلسل تلفزيوني اشترته نتفليكس، ومع ذلك، فإنَّ عملية السطو تلك تعالج واقع الأداء والصراع الطبقي والمقاومة والتمرُّد، بصفتها موضوعات أساسية تحاكي الواقع السياسي الصعب والأفكار نفسها التي تمرُّ بها المنطقة العربية بعد حالة الاكتئاب السياسي التي أعقبت الثورات، حديث الظلم والفساد والمال، ثم فكرة «روبن هود» الجديد الذي يسرق المال لإنقاذ الناس. وفي الجانب النفسي، صوَّر المسلسل علاقات غرامية غايةً في الغرابة وفي ظروف معقَّدة، كانت أكثر فنتازيا ورغبةً للجمهور العربي من تلك التي جرت عليها عادة المسلسلات التركية.

ففي خضمِّ عملية السطو، تسأل مفتِّشة الشرطة، راكيل موريلو، البروفيسورَ عن المدَّة التي درس خلالها أساليب الشرطة في المقاطعة، فيجيبها: «لأكون أمينًا: نصف حياتي» (S1E06 0:27:14). وهذه الدراسة هي ما يتشاركه البروفيسور أساسًا مع بقية فريق السطو، والدرس الأساسي منها هو أهمِّية الأداء في تنفيذ الفعل الثوري. تقول طوكيو، عضو الفريق المنفِّذ والراوية: «إنَّ حياة البروفيسور تدور حول فكرة واحدة، هي المقاومة» (S1E13 0:49:02). فصمود البروفيسور وتشبُّثه بمعتقداته هو العنصر الذي يبدأ في تغيير فريق السطو وتوجيههم إلى الأهداف، ومساعدتهم على فَهم كيفية مقاومة السلطة من خلال إعادة التعلُّم المشترك والتضامن.

ويساعد المفهوم الذي أطلقه الكاتب والمخرج الألماني Bertolt Brecht، «المسرح الملحمي»، في تحليل الفرق بين السطو العادي وزعزعة استقرار السلطة بشكل أعمق. إذ يفترض Brecht نوعًا من المسرح السياسي الذي يسعى إلى تكوين جمهور نشط يفكِّر، بدلًا من أن تكون علاقاته «مع الكثير من الأشخاص الخاملين». فعند Brecht، توجد طرق محدَّدة لإنتاج المشاركة الاجتماعية في الجمهور، وLa Casa de Papel يوظِّف الكثير منهم، سواء في هيكل السلسلة، وفي المخطَّط نفسه. وعلى وجه الخصوص، فإنَّ استخدام فريق السطو الأداء أداةً للخداع طَوال القصَّة، يسمح بـ«تأثير الاغتراب» بين الجمهور والشخصيات، بحيث يتابع الجمهور ما يحدث، لكنه لا يحدِّد بالضرورة الإجراءات والخِيارات الخاصَّة بالشخصيات.

إنَّ المظهر الرئيسي لهذا التركيز على الأداء في La Casa de Papel هو خطَّة البروفيسور. ففي جميع أنحاء العالم، يحظى «اللصوص» بشريحة من الجماهير -بَدءًا من الشرطة ومرورًا بالرهائن وحتى الجمهور الإسباني- الذين يؤيِّدونهم، وَفقًا لتلك الخطَّة التي تُختبَر بدقَّة. وفي بعض الأحيان، يكون المشاهدون على علم بالنية الخادعة لفريق السطو، كما يحدث عندما يُختار برلين -الذي يُعدُّ أقسى رجال فريق السطو- للتحدُّث باسم الفريق إلى الصحافة. وهنا، نرى المزج بين التصريح والأداء وهو يردُّ على ادِّعاء الشرطة الخاطئ بأنه كان «قوَّادًا». كما أنه يناشد الشعب الإسباني مباشرةً، موضِّحًا أنَّ مجموعةً من الرهائن قتلوا أحد أعضاء فريقه في محاولة للهروب، وأنه هو نفسه يعاني مرضًا، وقد بلغ ذروته بتحدٍّ عاطفي للشرطة للكشف عن السجلَّات المزعومة لجرائمه الكاذبة (S1E04 0:45:10). طَوال ذلك، يستمرُّ تأكيد فكرة أنَّ أعضاء الفريق هم «كمثل أيِّ شخص آخر في الدولة»، ويريدون «ترك شيء من أجل عائلاتهم» ​​(S1E04 0:46:40). إذ يقول بودريار عن الأفعال المحاكاة: «ستختلط شبكة العلامات الصناعية -بشكل لا ينفصم- بعناصر حقيقية»، وهذه الديناميكية هي ما يفعله برلين. إنَّ الأداء الذي قدَّمه فريق السرقة، بالانغماس في الواقع والخروج منه، يفرض مجموعة من المعايير التي تقوِّض الدولة وتفرض النظام الأخلاقي والقانوني البرجوازي، على الرغم من أنه يناشد الرؤى الشعبية لـ«الحياة الطبيعية» والقِيَمية.

في الواقع، لا تحدِّد خطَّة البروفيسور التصوُّر الداخلي لفريق السطو فحسب، بل أيضًا قراءات الجمهور المحتمَلة له. وتأتي الخطَّة نفسها من والد البروفيسور، الذي رواها لابنه من على سرير المرض، في حين أنه سرق البنوك لدفع تكاليف العلاج. ومن ثَمَّ، فإنَّ الخطَّة لا تكون جوهر العملية فقط، بل إنَّ أخلاقيتها وحتى عاطفيتها تدعم إنجاحها. وحتى الآن، بوصفها جوهرًا غامضًا -بعبارات بريشتية- فهي لا تفترض قبول المشاهدين لها، بل تجعلها مسألة رئيسية في المسلسل. فضمن القصَّة، يقدِّم فريق السطو الأداء للأمَّة الإسبانية، الذي يكشف عن أيديولوجية عملية للدولة الرأسمالية في ما يتعلَّق بقيمة حياة الإنسان والنظام والسلام. يرى المشاهدون هذا الأداء، ولكن أيضًا التوتُّرات والتعارض «وراء الكواليس». يصف بريشت كيف أنَّ هذا المنظور «يُنفِّر» الجمهور، و«يسمح لنا بالتعرُّف على موضوعه [في القصَّة]، ولكن في الوقت نفسه، يجعله يبدو غير مألوف.

إنَّ ما يمكن للجمهور إدراكه هو المخاطر فقط. ويشدِّد تعقيد الخطَّة على الخطر الذي تشكِّله العيوب الفردية على تنفيذه وتماسك الفريق بشكل عام. فشؤون الحبِّ غير الناضجة، ونوبات الغضب المتسرِّعة، فضلًا عن الانتهاكات السادية للسلطة، كلُّها عوامل تهدِّد الخطَّة ومن ثَمَّ حياةَ فريق السطو.
إنَّ أسلوب الطرح الجديد الذي يلامس رغبات الجمهور العربي أكثر من أيِّ جمهور آخر -من القضاء على الفساد، والتوزيع العادل للثروات- هو ما جعل المسلسل يلاقي رواجًا هائلًا في أوساط المنطقة العربية. وهنا يُظهِر فريق المسلسل كيف روَّجوا الجزء الثالث بإحضار (يوتيوبر) سعودي لإعداد حلقة مع فريق العمل، رغبةً منهم في التمدُّد أكثر نحو الجمهور العربي. وظهرت اقتراحات جديدة بإدخال فنَّانين عرب بأسماء عواصم عربية في الأجزاء القادمة.

وقد يصعب تحديد الأخطاء الشخصية لعضو الفريق مع الرغبة الجَذرية في النجاح. لكنَّ هذا جزئي، لأنَّ هؤلاء «الأبطال» لا يندرجون في النموذج الأصلي المتعارَف عليه للبطل، إذ تحقِّق العيوب الشخصية النجاح (كما هو الأمر في Marvel’s The Punisher وDC’s Batman)، بل هم أبطال مأساويون. فأبطال La Casa de Papel يرتكبون أفعالًا تُعدُّ دنيئةً في مجتمعاتهم، بدلًا من ارتكابهم مخالفات عاطفية أو تعويضية، خاصَّة في حياتهم الجنسية. فالبروفيسور ودنفر وبرلين جميعهم يمارسون الجنس غير المتوازن في القوَّة  وتحت ظروف مقعدة، ويحدث ذلك تحت ذرائع زائفة. مثلًا، يرتكب برلين الإيذاء العاطفي والاغتصاب العنيف ضدَّ رهينة، وهذا مرتبط -سرديًّا- بمرضه المتأزِّم، ممَّا يوحي أنه نوع من العدالة السردية. علاوةً على ذلك، فإنَّ إساءة معاملته لأعضاء فريقه تشعل مؤامرةً لقتله بعد إتمام المهمَّة، والتي أخفقت فقط لأنه قُتل على أيدي الشرطة في الهروب الأخير. وتُبرِز قضية برلين اتِّجاهًا أوسع لاستخدام الموت والحياة أو النجاح والإخفاق بصفتها مؤشِّرات أخلاقية، فمن أجل تنفيذ عملية السطو بنجاح، يتعيَّن على أعضاء الفريق أن يغيِّروا -بشكل أساسي- فَهمهم لأنفسهم. يقول بريشت: «إنَّ الوَحدة الاجتماعية الأصغر ليست هي الشخص الوحيد، بل الشخصان»، ويبدو أنَّ برلين غير قادر على إعادة التفكير في طبيعته الفردية، وبذلك لا ينجو. وأبطال المسلسل تهدِّدهم أخطاؤه وأخطاء كلٍّ منهم، لكن بشكل عامّ، فإنَّ قدرة الفريق على البقاء متَّحدًا تتيح لكلٍّ منهم التغلُّب على أوجه القصور الفردية، والنجاح في الكفاح ضدَّ السلطة. في الواقع، يأتي جزء كبير من دراما La Casa de Papel في مناقشات ساخنة، وحلِّ مشكلات جماعية كالتي تحصل عند التعامل مع التجاوزات الشخصية.

يضع La Casa de Papel شخصياته وسلوكياتهم على خلفية المواجهة العنيفة بين السكَّان والدولة، ممَّا يشجِّع الجمهور على وصف ما وصفه بريشت بأنه «يوقف القُوى الدافعة لمجتمعنا، أو يستبدل الآخرين به… ومن ثَمَّ، يسمح للقُوى الدافعة الحقيقية بالتخلِّي عن طبيعتها، لتصبح قادرة على التلاعب». ويصوِّر المسلسل سرقة المال انتصارًا على السلطة من قِبل أشخاص مجروحين أو متعرِّضين للأذية، وغالبًا ما يؤدِّي عدم نضج فريق السطو وأنانيته إلى صعوبة الارتباط به، ولكنه يشير أيضًا إلى أنَّ البطولة أو الكمال ليسا شرطين مسبقين للنجاح الثوري. في الواقع، إنَّ الافتقار إلى التعاطف الذي ولَّده الجمهور، يخلق مساحة للتفكير في كيفية خوض المعارك ضدَّ القُوى البرجوازية في عالمنا.

خلاصة:

لا يمكن عدُّ القوَّة الناعمة أداةً للتأثير من تلقاء نفسها، دون أن تُدرَج من قبل الدبلوماسية العامَّة بوجه خاصٍّ ضمن خطَّة واضحة، فهي جزء لا غنًى عنه من هذه العملية. وفي هذا الصدد، يجب عدم التغاضي عن القوَّة الذكية، وكذلك عدم الجمع بين القوَّة الصلبة والناعمة. وعندما يُقبل وجود توازن من حيث القوَّة، فمن المفهوم أنَّ القوَّة الناعمة هي بالتأكيد جزء من هذا التوازن.
يبدو واضحًا أنَّ المسلسلات التلفزيونية هي أداة من أدوات القوَّة الناعمة، ولكنَّ الأهداف التي تسعى إليها شركات الإنتاج، أو الرسائل التي تقدِّمها، لا يمكن فَهمها تمامًا. والجانب الإيجابي للموقف هو أنها فعَّالة في جذب السيَّاح إلى إسبانيا، وتمكين الجمهور من التفكير جيِّدًا في إسبانيا لغةً وثقافةً، دون إغفال التاريخ الإسلامي الأندلسي هناك.

وقد شهد عام 2010 وما تلاه نقلةً نوعية في عدد المسلسلات التلفزيونية الإسبانية، التي اخترقت شاشات المشاهدين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى الرغم من استمرار تصدير المسلسلات التلفزيونية الإسبانية إلى تلك البقعة الجغرافية، فإنَّ عدد المسلسلات المؤثِّرة في المنطقة قد كان محدودًا، مقارنةً بنظائرها التركية على سبيل المثال. وقد بدا الأمر عاديًّا لما لتركيا من مزايا تفضيلية تربطها بتلك المنطقة الجغرافية بالمقارنة مع إسبانيا، إذ عملت الروابط التاريخية للشعوب، وروابط الدين والأيديولوجيا وغيرها، على حضور المسلسلات التركية الدائم على الشاشات العربية، لكنَّ التمدُّد الإسباني في المنطقة العربية بدأ يظهر بصفته فاعلًا جديدًا وأداةً من أدوات التأثير للقوَّة الناعمة الغربية.

 

المصادر والمراجع:

  • Aldecoa, F. and J.A. Sotillo. (2007). ‘Claves para interpretar la Politica Exterior Española y las Relaciones Internacionales en 2006.’ Anuario Internacional CIDOB 1: 325–7.
  • Alonso, G., J.L. Manfredi, and R. Rubio. (2012). Retos de nuestra accion exterior: Diplomacia Publica y Marca España. Madrid: Cuadernos de la Escuela Diplomatica.
  • Berridge, G.R. (2012). Embassies in armed conflict. New York: Continuum. (2010) Diplomacy: Theory and Practice, 4th edn. Basingstoke, UK: Palgrave Macmillan.
  • Berridge, G.R., M. Keens-Soper and T.G. Otte. (2001). Diplomatic Theory from Machiavelli to Kissinger. Basingstoke: Palgrave MacMillan.
  • Cross, M.K.D. (2007). The European Diplomatic Corps: Diplomats and international cooperation from Westphalia to Maastricht. Basingstoke, UK: Palgrave Macmillan.
  • Bilgin, Pınar and Eliş, Berivan, “Hard Power, Soft Power: Toward a More Realistic Analysis”, Insight Turkey, Vol. 10, No. 2, 2008.
  • BP Statistical Review 2009. Retrieved from: http://www.bp.com/productlanding.docategoryId=6929&contentId=7044622.
  • Cox, Robert W., “Social Forces, States and World Orders: Beyond the International Relations Theory”, Millennium – International Relations Theory, Vol. 10 No. 2, 1981.
  • Hobsbawm, Eric, “Language Culture and National Identity”, Social Research, Vol. 63, No. 4, 1996.
  • Alphan, M. (2011) Türkiye’nin yumuşak gücü: Dizileri, http://www.hurriyet.com.tr/turkiye-nin-yumusak-gucu-dizileri19414165 (14.02.2017)
  • Deloitte Türkiye, TV’lere diziler nefes aldırıyor,
  • Valbjorn, M. (2009) Arab nationalism(s) in transformation: From Arab interstate societies to an Arab-Islamic world society. In B. Buzan & A. Gonzalez-Pelaez. (Eds.) International Society and the Middle East (pp. 140-169). Hampshire: Palgrave Macmillan.
  • See here Baudrillard’s final major publication in English, The Intelligence of Evil, where he discussed the political fallout of what he calls “Integral Reality”.
  • Strong, Benjamin (13 November 2008). “Synecdoche, New York: Welcome to the Simulacra – New York – Music – Sound of the City”. Village Voice Blogs. Archived from the original on 14 May 2013. Retrieved 17 August 2013.

Links:

https://www.the-numbers.com/Spain/movies#tab=year 

https://es.statista.com/temas/2942/industria-del-cine-en-espana/?fbclid=IwAR3o9d3Cucpy_-Nu5KSc4SPZuLo0YkT58QiqFFrgjYvE7OCUMjZwoFwriko

https://www.expatica.com/es/living/telecommunications/tv-radio-101417/#targetText=It%20was%208%20years%20later,were%20officially%20discontinued%20in%202010.

http://www.rtve.es/rtve/20170629/programacion-primeros-anos-tve/1573400.shtml?fbclid=IwAR1ED29hQY1QVgoaYlmVjFbEdaPYk_krKmBpBiyEkz50FwpMI8-dYyphLBc

https://www.thelocal.es/20190717/how-madrid-is-fast-becoming-the-hub-for-tv-series-production

https://www.sabah.com.tr/yasam/2018/12/13/dizi-ihracatinda-rekora-gidiyoruz

https://www.boxofficemojo.com/yearly/

https://www.ntv.com.tr/yasam/turk-dizilerinin-yurt-disi-rekoru,CY7-sW9le0OflWKCNOz9bA?_ref=infinite

https://theculturetrip.com/europe/turkey/articles/the-rise-and-rise-of-turkish-tv/#targetText=In%201999%2C%20Deli%20Y%C3%BCrek%20became,expected%2C%20market%3A%20Latin%20America.

https://www.pegem.net/dosyalar/dokuman/132673-20120428104557-deniz-4.pdf

http://www.ranini.tv/ozel/35557/1/ispanyadaki-turk-dizileri

https://www.vox.com/2019/1/17/18187234/netflix-views-numbers-first-time-bird-box-bodyguard-you-sex-education

https://deadline.com/2019/08/money-heist-la-casa-de-papel-part-3-netflix-global-household-records-ratings-1202659512/

 

أحمد أبو الطرابيش

باحث في اقتصاديات الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى