المسار الديمقراطي في تونس بعد 25 يوليو: أفق التغيير

اقرأ في هذا المقال
  • يتوجّه مخاض الأحداث في تونس إلى نوع من الفرز بين الموالين للرئيس وقناصة الفرص من حوله، وبين المتشككين في خياراته، والمعارضين لانزلاقها نحو نوع من الاستبداد، يتزامن مع أولوية مقاومة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة التونسية. فكيف سيحدّد الرئيس بوصلته؟

د. منجي المبروكي | جامعة قرطاج-تونس

تمهيد:

إن مبادرة الرئيس قيس سعيد إلى تجميد البرلمان، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي بغض النظر عن مصوغاته، أفضت إلى تفكيك أهم أركان منظومة السلطة القائمة، وتفرّده بقيادة فترة حكم استثنائية. فهل هي بداية حقبة جديدة تتخلص من كل أثقال المرحلة السابقة؟ وهل تتوفر للرئيس شروط إنجاح هذا التغيير؟ وكيف تكون إعادة الفرز بين من انحاز لمحور الرئيس سعيد ومن احترز على ذلك؛ ووقف موقف الناقد أو المعارض لتغيير غير واضح المعالم؟

يبدو أن الوضع الجديد في تونس بقدر ما يُعزّز تشكّل بيئة سياسية داعمة لاتخاذ خطوات اقتصادية حاسمة، وإجراء إصلاحات كبيرة بهدف مواجهة الأزمات التي تعانيها البلاد على مدار السنوات الماضية، بقدر ما يحتمل الانتكاس نحو خيارات “شعبوية” تغازل عواطف الجماهير دون أن تحقّق الإنقاذ والإصلاح.((LAZAR ,Marc (2019), « Populismes de droite, populismes de gauche en Europe », dans Bertrand Badie et Dominique Vidal (dir.), Le Retour des populismes. L’État du monde 2019, Paris, La Découverte, p. 118-126.))

إن لتاريخ الشعوب منعرجات حاسمة تطبع مصائرها لعقود، فهل تكون الأزمة الحالية فرصة للشعب التونسي الذي أبهرت ثورته العالم قبل سنوات قليلة؟ أم أن الأزمات المختلفة وتفشّي الفساد، تتسبّب في إضاعة الفرصة، خاصة أن الرئيس الذي تقع على عاتقه القيادة المصيرية لهذه المرحلة، تعوزه الخبرة السياسية، والمرونة الكافية من أجل التوصّل إلى معادلة النجاح الصعبة في مرحلة مفصلية من تاريخ تونس الحديث.

يتوجّه مخاض الأحداث في تونس إلى نوع من الفرز بين الموالين للرئيس وقناصة الفرص من حوله، وبين المتشككين في خياراته، والمعارضين لانزلاقها نحو نوع من الاستبداد، يتزامن مع أولوية مقاومة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة التونسية. فكيف سيحدّد الرئيس بوصلته؟ ويحدّد فريق قيادته؟ وكيف سيتفاوض داخليًا وخارجيًا من أجل تذليل الصعوبات التي تواجه تونس؟

  1. ملامح الأزمة في تونس: السياقات والتداعيات

إن السند الحقيقي لما حدث، هو تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس خلال السنوات العشر الماضية؛ نتيجة تحولات سياسية غلب عليها اضطراب الأوضاع الأمنية، والاحتجاجات الشعبية والاضرابات العمالية المتواصلة، والمطلبية المشطّة والزيادات المتوالية في الأجور دون زيادة في الإنتاج؛ وهو ما فاقم التحديات الاقتصادية بانخفاض في النمو الاقتصادي، وبارتفاع في معدلات البطالة والفقر، وبعجز في المالية العمومية وبانخفاض مطرد للمبادرة الخاصة والعامة، وبتعطّل لمحركات النمو وأهمها الاستثمار الداخلي والخارجي. وقد مثّل غياب الاستقرار الحكومي أحد الأسباب التي أخّرت تبني رؤية واضحة للإصلاح، واختيار منوال اقتصادي ملائم لذلك، ووضعه موضع التنفيذ حتى تنبعث ديناميكية اقتصادية تفضي لدوران عجلة التنمية. وقد زادت جائحة كوفيد-19 الأوضاع الاقتصادية في تونس وفي العالم مزيد التردي في جُلّ القطاعات.

لم تكن الأزمة الاقتصادية وانتشار الفساد هي المظاهر الوحيدة لتردي الوضع في البلاد، بل فاقمتها الخلافات بين الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان) التي ظلّت مستعرة دون تحكيم في غياب المحكمة الدستورية؛ فتعطلت شؤون الدولة وزاد تردي الوضع الاقتصادي، وانخرط أغلب الفاعلين السياسيين التونسيين في ترذيل بعضهم البعض؛ حتى اتسع امتعاض التونسيين من عبثية صراع نخبهم السياسية، على حساب اهتمامهم بواقع الناس وصعوباتهم المتفاقمة. 

لقد برهن عدد هام من الأحزاب التونسية، والجمعيات والمنظمات الوطنية، أنهم يقدّمون الخصومة الحزبية، والمناكفات الإيديولوجية، وتصفية الحسابات مع منافسيهم أو غرمائهم، على تفعيل الديمقراطية وربط تطبيقها بما ينفع الناس، في بيئة تونسية انغرس فيها الاستبداد لعقود طويلة؛ لذلك لم يكن عسيرًا على الرئيس سعيّد أن يكرّس عمليًا تعطيل التجربة الديمقراطية الناشئة، في حين أن الديمقراطية تقوم بإصلاح نفسها بالمنافسة بين الفاعلين داخلها، وبمراقبة وسائل الإعلام لأدائها.

هذا؛ ويخضع تعاطي التونسيين مع سائر حياتهم السياسية إلى نمط نظامي ساكن، ولا يؤول إلى نزعة احتجاجية إلا في الحالات القصوى التي تختل فيها التوازنات القائمة بين المجتمع والهياكل الوسيطة (أحزاب، ونقابات، وهياكل المجتمع المدني وخاصة الحقوقية منها) والدولة. وعندما تفقد الدولة آليات إدارة الحوار مع المطالب الاجتماعية، تندلع أشكال الاحتجاج العفوي أو المنظّم، السلمي أو العنيف، حسب السياقات التي تتنزل فيها. فحين تتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مثلما وقع في 25-7-2021م يكون الاحتجاج، ويسمح ذلك للغاضبين أو الذين يخططون لاستغلال ذلك الغضب، بما في ذلك أنصار الرئيس قيس سعيّد، لتأليب الأمور والدعوة لتقويض منظومة الحكم.

نلاحظ أن تحريك الاحتجاجات، لا تخفي نزعة توظيف المطلبية الشعبية من أجل تأجيج الأزمة واستثمار تداعياتها. وفي هذا السياق يُقرأ بروز الرئيس سعيّد كزعيم منقذ، يُقدّم الحلول لمشاكل عويصة، تمّ تحمِيلها كُلِّيًا لخصومه. وقد طغى على غير العادة خطاب تمجيد الرئيس المنقذ، باستثمار ما تختزنه الذاكرة الجماعية من تضخيم لصورة الرئيس الذي يمسك بكل السلطات؛ تحيل صورة الرئيس ضمن المخيال الجمعي، وبناء على تجربة الرئيسين الأسبقين بورقيبة وبن علي، قدرات لا حدود لها لتذليل أي أزمة مهما كبرت؛ لذلك فإن الرئيس سعيّد ميّالٌ لإحياء تلك الصورة المختزنة لرئيس يصنع المعجزات لشعبه، بتحويل كل صلاحيات السلطة التنفيذية إلى إشراف الرئيس، وهو لا يخفي ميله لدستور 1959م، الذي بُني على خلفية التمكين للرئيس والتوسيع من مجال تدخّله. كما لا يداري امتعاضه من دستور 2014م. مع التأكيد أن النظام الرئاسي يمكن أن يكون النظام الأمثل حين ينسجم مع ثقافة المجتمع وإرثه في إدارة الحكم، كلما وقع تحصينه بآليات تعديلية، وسلطة رقابية تمنع التغوّل والخروج بأسمى الوظائف الدستورية عن أنبل مقاصدها.

لا يخفي الرئيس سعيّد نزوعه إلى دغدغة سيكولوجيا الجماهير، بنموذج قيادة يعمل على تذويب الفرد في المجموعة، وتغييب الوعي الفردي ليخترقه الوعي الجماعي ويسيطر عليه. حينها تحلّ المشاعر محلّ الأفكار، ويسود الإحساس الانطباعي بدل التفكير والتدبّر في تلك المناخات يقع التركيز على الزعيم، وتنتشر مظاهر تقديسه، خاصة في مجتمعات تعاني الاغتراب، وتعيش حالة السيكولوجية الجماهيرية بكل ما تتسم به من عادات التواكل والتبعية للغير؛ فتنخفض الدافعية للعمل، وينتشر البحث عن الخلاص السريع((Cas Mudde et Cristóbal Rovira Kaltwasser(2018), Brève introduction au populisme, La Tour-d’Aigue, Éditions de l’Aube et Fondation Jean Jaurès, p. 19.)). هي سمات غير بعيدة عن مظاهر “الشعبوية” التي طفحت في المجتمع التونسي خلال العقد الأخير، بدءًا من الوعود الساذجة لـ”العريضة الشعبية” التي حصدت ثالث قوة سياسية في انتخابات 2011م؛ عبر مغازلة عواطف الفئات الشعبية واستثارة حاجياتهم، ومرورًا باستدعاء “نوستالجيا البورقيبية”، للتأكيد على أنه “ليس بالإمكان أحسن ممّا كان”؛ لتبخيس كل ما استجدّ بعد الثورة، والتخلص من الخصوم السياسيين دون التعويل على برنامج سياسي واقتصادي، بل الإحالة للماضي، وهي موجة رغم تزكية الإعلام لها، لم تصل لتغيير جذري للموازنات السياسية، وانتهاءً بـتجربة “الشعب يريد” التي لا تخفي نقدها الحاد للتمثيلية الحزبية كآلية لإدارة الحياة السياسية، عبر ترذيل الأحزاب وأداء النخب بصورة عامة، من أجل مشروع بديل يتبناه الرئيس، يقوم على التمثيل القاعدي-المجالسي، ويستبدل النخب وقادة الرأي التقليديين، بالغاضبين من الشباب والذين لم ينالوا حظهم فيما سبق. ويستخدم الرئيس حضوره القوي ونفوذ مركزه من أجل التبشير بهذا النموذج؛ بهدف إعادة تشكيل الواقع السياسي، وإفراز بدائل جديدة وفاعلين جدد يقوم عليهم مشروعه السياسي.

يُنظَر إلى عمليّة التغيير التي بدأت يوم 25 جويلية/يوليو من زاوية إرادة الرئيس وأنصاره والمتحمسين لنفاذ خطته، كما يُنظَر إليها من زاوية المتضررين من تلك العملية باعتبارها تهديدًا للحريات وللتجربة الديمقراطية الناشئة؛ لذلك فخطة كل طرف هي التموقع أو إعادة التموقع، إمّا من أجل إنفاذ التغيير أو مقاومته بصراع إرادات قد تؤدّى إلى تقويض المكتسبات، وإلى جرّ التونسيين إلى معركة لا تعنيهم في جوهرها، رغم أن الكل ناطق بـاسم “إرادة الشعب”.

  1. وضع ما بعد 25 جويلية / يوليو 2021م: تقدير المستفيدين والخاسرين:

إن ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد من تغيير لشكل السلطة ومراكز النفوذ داخلها، جُوبِه بمواقف متباينة داخليًا وخارجيًا، فيها الرفض والقبول والتغير في درجة الرفض أو القبول. فعلى المستوى الداخل حظِي حراك 25 يوليو/تموز بالترحيب من لدن أربع فئات رئيسية:

الفئة الأولى: تضم أنصار الرئيس العضويين (ممن يتماهون مع أفكاره الرافضة للتمثيل الحزبي، والقائمة على التمثيل المجالسي والقاعدي) والعرضيين (عرضية تحركها الانتهازية، أو البحث عمن يتبنى مطالبها) وهي فئة غير متجانسة، يجذبها مركز الرئيس، وتمايزه عن كل النخب السياسية، وتأكيده المستمر على رفض الفساد.

الفئة الثانية: تضم المناهضين لحركة النهضة: من أنصار أحزاب مثل الحزب الدستوري الحر(ليبرالي)، وحركة الشعب (القومية)، وحزب البديل(يساري)، والتيار الشعبي (قومي)، وحركة الراية الوطنية(يساري). وأحزاب مرحِّبة بقرارات الرئيس بشرط العودة للحياة الديمقراطية مثل حزب تحيا تونس(ليبرالي)، وحزب مشروع تونس(ليبرالي)، وحزب أفاق تونس(ليبرالي).

الفئة الثالثة: تضم الغاضبين من أداء منظومة الحكم، وخاصة حركة النهضة من غير الصنفين السابقين، وهي فئة ناقدة للعمل الحزبي في تونس، وترى أنه يجب أن يرتبط بما ينفع الناس، وهو مطلب فيه تحدٍ لكل الأحزاب؛ لأنه يدعوها لتخرج من طور النظر للتحزّب كتعبير عن إيديولوجيات وأفكار كبرى، نحو تنزيل تلك الأفكار إلى برامج وخيارات تتعلق بالمعيش اليومي في أبعاده المختلفة. وهو عمل ينتظر كل الأحزاب في تونس على غرار الديمقراطيات الناجحة في الغرب.

الفئة الرابعة: هي فئة أنصار الأحزاب المؤيدة دون إصدار بيانات صريحة، وتستشف مواقفها من تصريحات عرضية لقادتها مثل حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد (يسار) وأحزاب صغرى وشخصيات فنية وإعلاميين، ومواقف جلّ هؤلاء مبنية على مناكفة صريحة لحركة النهضة وأخذ مواقف ضدية لها.

أما الفئات المتحفظة عن حراك 25 يوليو/تموز فنميّز فيها بين ثلاث فئات رئيسية هي:

الفئة الأولى: تتألف من أنصار النهضة(إسلامي)، وأنصار ائتلاف الكرامة(إسلامي) الذين يرون فيما وقع “انقلابًا” يستهدف استبعادهم من السلطة، إن لم يضمِر إعادة استئصالهم بعد إحكام القبضة على مراكز النفوذ ((العلوي (نور الدين)، “هل يختلف انقلاب تونس 2021م عن انقلاب مصر 2013؟”، الرابط: https://www.noonpost.com/content/41415.))وهذه الفئة تعتبر أن تناول ملف الفساد هو تناول وظيفي لدغدغة المشاعر الشعبية، دون أن يتحول إلى مواجهة شاملة وغير انتقائية مع جيوب الفساد.

الفئة الثانية: تتألف من أنصار أحزاب سياسية مختلفة مثل التيار الديمقراطي(اجتماعي)، وحزب العمال(يساري)، والحزب الجمهوري(اجتماعي)، وحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري(اجتماعي)، وحزب أمل، وحزب قلب تونس (ليبرالي)، … وهي أحزاب ذات خلفيات متنوعة يسارية واجتماعية وليبرالية، ترى فيما وقع تهديدًا لمكتسبات الحرية والديمقراطية؛ رغم إقرار الجميع بضرورة مقاومة الفساد.

الفئة الثالثة: وتضم مكونات المجتمع المدني وشخصيات وطنية (كالرئيس الأسبق منصف المرزوقي)، ومثقفين وجامعيين من خارج المنتظم السياسي، وهي فئة تؤيد مقاومة الرئيس سعيّد لكل أشكال الفساد دون انتقائية، على أن يكون ذلك محكومًا بالضوابط الدستورية والقانونية، لكنهم يرون فيما وقع تهديدًا لمكتسبات الحرية والديمقراطية.

وقد بدا طيلة الأيام الفارطة أن مواقف الرفض والقبول بصدد التغير حسب مسار الأحداث والقطع مع ما كان سائدًا. إذ تحوّل موقف النهضة من حِدّة نعت ما وقع بالانقلاب، إلى نوع من التسليم بحصول التغيير والحرص ببقائه محكومًا بالضوابط الدستورية والقانونية. في الجهة المقابلة تبيّن أن أحزاب التيار الديمقراطي والدستوري الحر وحركة الشعب اضطروا للتقليص من حدة تأييدهم للرئيس؛ حين استشعروا أن موقفه السلبي من الأحزاب جامعٌ، ولن يشمل ضرره كما تمنوا حركة النهضة فحسب.

وبالرغم من أن ما بعد يوم 25 يوليو/تموز لن يكون كما قبله، إلا أن عملية الانتقال لن تكون سهلة ولا بسيطة، وهي لا تخلو من عقبات، سيتجلّى تعقيدها تدريجيًا، وستظهر كلفتها فيما بعد، وسيتحمّل تلك الكلفة أنصار قيس سعيّد ومن يقف قبالتهم بمقادير مختلفة. ولن تكون الأطراف الخارجية غير معنية بمآلات الوضع وتداعياته، بل إنها تراقب ما يقع ولا يُستبعد أن يكون لها صيغ للتدخل والتأثير في مجرياتها؛ لذلك يُفترض أن تُدار حاليًا عملية تفاوض بين كل الأطراف أو جلّها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ لأن كل تغيير لا يمكن أن يتغاضى عن مفعول المحيط الخارجي وعن إكراهات التعاطي مع السياسة الإقليمية والدولية، خاصة في حالة دولة مثقلة بصعوباتها الاقتصادية، ومديونيتها الثقيلة. ولن تخرج وجهة التغيير بعد ما يُحتمل من مخاض عن أحد السيناريوهات المتوقعة الآتية.

  1. أفق التغيير في تونس: أيّ سيناريوهات محتملة؟

إن القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس سعيّد قد تتحول إلى فرصة تستثمر كل ما لتونس من مقومات قوة تستند إلى تاريخها وموقعها ورصيدها البشري الثري والواعد؛ وذلك يتوقف على وضوح رؤية الرئيس، ومسارعته إلى تهيئة بيئة سياسية ملائمة لخيارات اقتصادية تفسح الأمل للتونسيين، وتُمكنهم من مواجهة المشكلات المركبة ببصيص من الأمل. والانطلاقة تكون بحسن اختيار رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، حتى يباشر عملية الإنقاذ، بترتيب أولويات لا تهمل مقاومة الفساد لكنها تركز، على تشغيل كل محركات النمو؛ فيعزّز ذلك ثقة التونسيين في دولتهم، وفي أنفسهم. وقد لا يهتدي الرئيس إلى اغتنام تلك الفرصة، حين يدفع بالبلاد نحو محنة جديدة يخسر فيها التونسيون سلمهم الاجتماعي، وقدرتهم على العيش المشترك، وينزلقون نحو استقواء بعضهم على بعض بدعم من جهات ميّالة إلى شقّ الصفوف، بدل تعزيز الوحدة الوطنية وحمايتها بقوة القانون. إن خيارات الرئيس وقراراته هي التي تحدّد هل أنّ البلاد تُقبل على فرص للإقلاع أم أنها تنزلق نحو كمائن الصراع؟

ويمكن تحديد الخيارات الأرجح لوجهة البلاد استنادًا إلى السيناريوهات الآتية:

أولًاسيناريو التغيير الناعم:

إن التغيير الملائم لطبيعة الشخصية التونسية هو الذي يكون سلسًا وناعمًا بدل أن يكون عنيفًا مدمّرًا، والتونسيون حتى إذا بالغوا في التلويح بالحسم الخشن، فإنهم في الغالب ميّالين إلى إبرام تسويات حتى وهم على حافة الهاوية ((وناس (المنصف)، الشخصيّة التونسيّة: محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2010.))؛ لذلك فإن التعامل الأمثل مع الأزمة الراهنة يُفضّل أن يتفاوض حوله التونسيون بإرادتهم حتى لا يُفسِح التنازعُ المجال لمزيد من التدخّل الأجنبي في شؤونهم. والحل الناعم يجب أن ينطلق من حيث انتهت الأزمة، فتكون البداية بتعيين رئيس حكومة وفريق وزاري مؤهلين لتلبية احتياجات المرحلة واستحقاقاتها. وتتمّ مصادقة البرلمان على تلك الحكومة. وتتواصل حملة مقاومة الفساد، ضمن شروط استثنائية تساعد الرئيس على مجابهة مراكز نفوذ “الفساد الكبير” إذا كان حريصًا على إضفاء الصبغة الدستورية على هذه المرحلة، ويواصل التزامه بالمحافظة على الحقوق والحريات((المدوري (هيثم)،”متشائل منعرج انقلابي أم فاصل ديمقراطي؟”، 28-7-2021، الرابط: https://ultratunisia.ultrasawt.com/)).لكن قد لا يكون يسيرًا ضمان استسلام المستفيدين الكبار من أخطبوط الفساد، إذا تبيّن لهم أن مقاومته ليست ظرفية ولا انتقائية، حينها تبدأ معركة كسر العظام الحقيقية، التي يحتاج فيها الرئيس إلى تعبئة داخلية قوية مساندة له، وإلى استمرار دعم المؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة له، كما حصل بتاريخ 25-7-2021م.((عطوان (عبد الباري)، “هل كَسِبَ سعيّد الجولة الأولى والأهم في صِراعه مع خصمه الأكبر الغنوشي؟”، 28-7-2021، الرابط: https://www.raialyoum.com/index.php/))

والتغيير الناعم لا ينسجم فقط مع خصائص الشخصية التونسية، بل ينسجم مع متطلبات وضع إقليمي ودولي لا يحتمل تهديد الاستقرار في تونس، وهي قاعدة ضمان الاستقرار في ليبيا، وفي المنطقة المغاربية عمومًا؛ لذلك يظل هذا الخيار أقل كلفة وأكثر مردودية، إذا كان الهاجس هو البناء والاستقرار والعيش المشترك.

ثانيًا: سيناريو التغيير الجذري:

وهو يقتضي أن يستمر الرئيس في تعطيل المؤسسات الدستورية، ويتعلّل بمشروعيّته المستمدة من التزكية الشعبية؛ فيدعو إلى استفتاء لتنقيح القانون الانتخابي، وتعديل الدستور للتحوّل من نظام حكم شبه برلماني، إلى نظام حكم رئاسي. يتلو ذلك أو يتزامن معه تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها من أجل استكمال أجندة الرئيس في التغيير بما يتلاءم مع رؤيته ومع موازين القوى التي يطوّعها لصالحه. ومن مخاطر هذا الخيار نزعته نحو التسلّط وفرض إيقاف التجربة الديمقراطية بدعوى أنها في صالح “الإسلام السياسي”، وأنها من إسقاطات “الربيع العبري”، في حين أن الدولة العبرية وحلفائها في المنطقة العربية يمرّون إلى السرعة القصوى من أجل وأد ما تبقى من ثورة انطلقت من تونس في الشتاء الفاصل بين 2010-2011م.

إن الحرص على التغيير العميق للواقع في تونس، يفترض الخضوع لبيداغوجية متدرجة في ترتيب الحلول، وتنزيلها في الواقع بما يتناسب مع قدرة المجتمع على تبني أنماط جديدة من التفكير والسلوك باعتماد الاقتناع والتقبّل لا الإكراه والإلزام؛ لكيلا تتهدّد مدنية الدولة وسلمها الاجتماعي. إن التغيير الجذري الذي لا يستغرق عقودًا من الزمن، هو خيار مغامرين يريدون صناعة “التغيير السريع” الذي يُفرض بالقوة والإكراه، وليس مناسبًا لمزاج المجتمع التونسي وخصائصه العامة، فهو أكثر المجتمعات العربية تأهّلًا للتحديث السياسي، بما له من سبق في حركة الإصلاح، وفي تحرير العبيد، وفي التأسيس المبكر للعمل النقابي والحقوقي، وتشكيل النواة الأولى للمجتمع المدني.

ثالثًاسيناريو التراجع من أجل مزيد التقدم:

يُبنى السيناريو الثالث على إمكانية خضوع سعيّد لضغوطات داخلية وخارجية من أجل التراجع والعودة إلى المسار الديمقراطي، وتشكيل حكومة لها أولوية اقتصادية. وفي الأثناء يراجع قيس سعيّد منهجية بنائه للتحالفات والتفاهمات؛ فتكون على أساس إنجاحه لخطة طويلة المدى تزاوج ما بين مقاومة الفساد وإجراء الإصلاحات الكبرى في البلاد، لتشمل الإدارة والتعليم والصحة والفلاحة والبحث العلمي وكل القطاعات الحيوية. وهذه الخطة لا تنسجم مع إصرار الرئيس على تقديم أولويات مشروعه السياسي على مطلَبَي الإصلاح ومقاومة الفساد، بل تفترض ألا يقوم ترتيب أولويات البلاد على مزاج الرئيس، وإنما على تقدير مصالحها ذات الأولوية، مع إمكانية التداخل بين المسارين.

يستحسن إن يترك الرئيس  سعيّد للزمن مفعوله من أجل تغليب بيداغوجية الحوار الموجّه والعملي وفق ما تقتضيه الأولويات أعلاه، وعبر بسط النفوذ القوي للقانون في مقاومة الفساد، وفي منهجية تسيير دفة الحكم. بعد ذلك بالإمكان الإعداد المحكم لإجراء استفتاء على كل مكونات النظام السياسي المعتمد في البلاد؛ وذلك بعد تكوين مجلس رئاسي يقود مرحلة انتقالية جديدة (مدتها سنتان)، تتحاور خلالها أهم القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية، من أجل وضع أسس الجمهورية الثالثة، بمقاربة تشاركية تضمن عدم استفراد أنصار الرئيس ولا المنافسين لهم بصياغة الوجه الجديد لتونس المنشودة. إن السبيل الأنجع حتى يضمن الرئيس تفهّمًا شعبيًا لخطوات الإصلاح، هو توخي الشفافية ومصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع، مع التخفيف من سقف التطلعات التي لا تقدر الدولة على تحويلها إلى منجزات.((الديب (إبراهيم)، “النهضة وقيس سعيّد: الدروس الاستراتيجية والسيناريوهات المتوقعة”، 1-8-2021، الرابط: https://www.aljazeera.net/opinions/2021/8/1/))

رابعًاسيناريو الوساطة والتحكيم:

إن انقضاء الشهر الأول دون حلحلة اختلافات الأطراف الرئيسية للأزمة يفترض اعتماد منهجية الوساطة والتحكيم التي تقطع تمامًا مع التغييرات القصرية وإكراه أحد الأطراف على التنازل، فيكون منهزمًا ويسلم للطرف الآخر بالانتصار. تلك منهجية ملائمة للصراعات المسلحة أو المعارك التي يُكره أطرافها على التعايش المختل بينهم. وفي الحياة السياسية وفي مثل الحالة التونسية يكون التحكيم أفضل الحلول إذا توفرت فيه الشروط التالية:

  • قبول الطرفين بمسار التحكيم، وما يقتضيه من تنازلات متبادلة. وهذا لا يبدو تقبّله بديهيًا من طرف الرئيس، إذا ما تهيأ له أن بيده ناصية المبادرة. ولا يتغيّر الوضع إلا إذا طالت الأزمة دون مؤشرات حل، وصعُب عليه تحمّل كلفة تواصلها. أما الجهة المقابلة (حركة النهضة) فهي أقرب للقبول بحكم وضعها، وبحكم قدرة رئيسها راشد الغنوشي على المناورة وعلى تقديم التنازلات من أجل ضمان التسويات.
  • وجود جهة تحكيمية يرضى بها الطرفان، وخاصة الرئيس سعيّد لما تتسم به شخصيته من صلابة ونقص في المرونة؛ حيث يبدو ميّالًا للاعتداد برأيه، واحتكار الكلمة إزاء مجالسيه. كما أن الوساطات التي تمّت لرأب الصدع بينه وبين رئيسي البرلمان والحكومة، أظهرت أنه متمركز حول رؤيته للأشياء، وقابليته لتعديل مواقفه تبدو شبه منعدمة.
  • حيادية وسائل الإعلام إزاء مسار التحكيم، وهي عملية غير مضمونة بالنظر لما درجت عليه جُلُّ وسائل الإعلام من تحيزات مفضوحة لهذا الطرف أو ذاك، كما أبانته تجربة هيئة الحقيقة والكرامة التي عانت كثيرًا من تحيّز الإعلام التونسي ضدها.

دون توفر تلك الشروط لا يُضمن إقبال أطراف الصراع في الأزمة الحالية على التحكيم من أجل المصالحة، إلا إذا كانوا مُرغمين على ذلك، كأن يكون قبول التحكيم ومخرجاته شرطًا لتقديم تسهيلات مالية تُخرِج تونس من اختلال ميزانيتها الذي وصل إلى مستويات غير معهودة. وهذا ينطبق على حالة تدويل الوساطة وجعلها لا تخضع للإرادة الداخلية للأطراف التونسية المتنازعة. ولا أخال أنّ الوضع في تونس بعيدٌ عن هذا الاحتمال المخيف، خاصةً أن العقلاء في هذا الوطن نبهوا كثيرًا إلى أن فسح المجال للصراع بين التونسيين وربطه بالنزاعات الإقليمية دون أي سقف يحفظ الاستقلالية؛ موصلٌ لا محالة إلى فقدان جانب من المناعة والسيادة الوطنية.

خامسًاسيناريو اليأس واللجوء إلى العنف:

إن إدارة الأزمة وِفق قاعدة خاسر/رابح، بحكم موازين القوى الظرفي، يُفضِي إلى بناء وضع متأزم يراكم الإحباط والخيبة، ويصبح بمرور الزمن بيئة مناسبة لتفجير صراعات تبدأ باستخدام أشكال ناعمة للصراع، وتصل إلى ممارسة العنف. وحين تبدأ سلسلة العنف والعنف المضاد بصورة عفوية، أو مُدبّرة من جهات تدفع بالمجتمعات إلى مستنقع التدمير الذاتي كما حدث في الجزائر طيلة العشرية السوداء، فلا يمكن التكهن بسقف لسوء المصير.((الديب (إبراهيم)، “النهضة وقيس سعيّد: الدروس الاستراتيجية والسيناريوهات المتوقعة”، 1-8-2021، الرابط: https://www.aljazeera.net/opinions/2021/8/1/))

إن المجتمعات التي تشجّع التربية على الحق في الاختلاف، وتحثّ على التعايش، هي تلك التي تحدّ من درجات الكراهية ومن منسوب العدوانية بين أفرادها وفئاتها وجهاتها، هي مجتمعات تتوقى العوامل التي تؤدي إلى العنف الذي قد يتحوّل إلى نوع من الإرهاب الذي يتهدد الجميع؛ فقد انزلق رواد الشبكات الاجتماعية بعد أحداث 25-7-2021م، وحتى قبل ذلك، إلى نسق مخيف من السب والشتم والتخوين بين أنصار الرئيس سعيّد ومن يقابلهم. ولم تكن وسائل الإعلام التقليدي بعيدة عن هذه الموجة. والأخطر أن النخبة السياسية وبعض أعضاء البرلمان سبق لهم الانخراط منذ سنوات في توجيه مفردات السب والترذيل لبعضهم البعض. بل إن رئيس الجمهورية نفسه في حالات انفعاله أصبح لا يتوانى عن نعت فئة من التونسيين بأنهم “جراثيم وفيروسات وأن مكانهم قنوات الصرف الصحي”، وبغض النظر عن دوافع الرئيس فإن استعمال تلك العبارات يندرج ضمن العنف اللفظي، وما كان ينبغي للرئيس استعمالها، وهو ما ينطبق أيضًا على قادة الأحزاب والسياسيين والإعلاميين.

إن المجتمع التونسي يعيش تهيّجًا نفسيًا حد الاضطراب، وقد زاده الوضع الوبائي وتردي الحالة الاقتصادية قتامة؛ لذلك لا بدّ من إطلاق نواقيس الخطر من أن تتحول موجات العنف الإعلامي والمدرسي والعائلي والمجتمعي بصورة عامة، إلى عنف ممنهج يهدد السلم الاجتماعي، ويمثّل أرضية للإرهاب وهو التعبير الأخطر عن انتشار العنف. يجب ألا نستبعد أن فشل الديمقراطية في تونس، لن تتضرّر منه حركة النهضة بمفردها، بل الحياة السياسية برمتها. أمّا سعي قيس سعيّد لأن يبني بديلًا للأحزاب عبر التنسيقيات المحلية، فهو مشروع لن نخوض حاليًا في أطروحته الفكرية، لكن نشير إلى أن تحوّله إلى إطار بديل له قيادات مقتدرة، ورؤى وبرامج عمل جاهزة، يقتضي حينًا من الزمن لا يمكن أن يختزله الرئيس في أشهر أو سنوات معدودات، والبلاد لا تحتمل الفراغ السياسي في انتظار ذلك.

خاتمة:

تُقبل الساحة السياسية في تونس على ارتدادات للتغيرات القصرية التي شهدها خلال الأسابيع الأخيرة، فما حدث لم يكن بالتغيرات الجذرية التي صرّح بها أنصار الرئيس قيس سعيّد، كما أن القوى غير المتحمسة للتغيير بدأت باستيعاب الصدمة، وبتدبير خطة إنقاذ تستفيد من أخطائها السابقة. وما سيحسم الأمور على المدى المنظور، ليس إرادة المتنافسين على إنفاذ التغيير أو تعطيله، بل اتجاهات الكتلة الصامتة من التونسيين، وهي الكتلة الأكبر، التي تراقب ما يحدث عن كثب، وتختبر مصداقية الوعود من هذا الجانب أو ذاك؛ فالعبرة لن تكون باستعراض النوايا والمغالاة في تسويق الوعود، وتهوين صعاب يرزح التونسيون تحت وقعها لسنوات؛ كما أن مآلات الأمور ستتأثر بإرادة المانحين الذين سيضخّون لميزانية الاقتصاد التونسي ما يضمن رتق اختلالاتها، والتقليص من عجزها الذي يزداد سنة بعد أخرى. وإدارة العملية برمتها لن تكون في منأى عن تدخل الإعلام بمحاذير عدم حياديته، فمعارك التغيير لا تحسم بتدخل الإعلاميين على أهمية تأثيرهم، بل بالقدرة على الإقناع بقابلية أيّ خيار للإنجاز، وفي ترجيح الراعين لتلك الخيارات، وفي إرادة القوى الإقليمية لمساندة هذا الخيار دون غيره. إن تونس على غرار العديد من دول العالم، حين تبني موازناتها المالية على سخاء المانحين، لا على قوة اقتصادها الوطني وحيوية نموه، فإن خياراتها ستتأثر بما يمليه المانحون من إملاءات تُسوَّق على أنها إصلاحات. والأزمات هي اختبار لقدرة الفاعلين على الاختيار ولو بين الإكراهات. كما أن إرادة الرئيس قيس سعيّد في التغيير، واختياراته في هذا الصدد ستوضع على المحك طيلة الأشهر القادمة. فهل يكون قادرًا على النفاذ إلى عقول التونسيين بعد قلوبهم بما تضمنه تلك الخيارات من استجابة حقيقية لأمهات مشاكلهم؟ حينها سيتبوأ مكانه ضمن زعماء تونس المؤثرين. أم أنه ستلهيه المعارك الصغرى، وتنحرف بأدائه عن مجابهة أزمات تونس ومصاعبها؟ وحين يفشل في الاختبار، سوف لن يذكره التاريخ ضمن رموزه، بل ستلفظه الذاكرة الوطنية.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى