قضايا

صفقة ترامب لإنهاء القضية الفلسطينية: فرص التطبيق في ظل المتغيرات الإقليمية

اقرأ في هذا المقال
  • مضى ما يقارب الثلاثة أعوام على بدء الحديث عن خطة أمريكية للسلام في الشرق الأوسط، والتي تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب فور استلامه زمام السلطة بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة عام ألفين وستة عشر.

مضى ما يقارب الثلاثة أعوام على بدء الحديث عن خطة أمريكية للسلام في الشرق الأوسط، والتي تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب فور استلامه زمام السلطة بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة عام ألفين وستة عشر.
خطة الساسة الأمريكيين والتي عُرفت لاحقاً بمسمّى صفقة القرن، بدأ مراقبون من كافة القطاعات والأطراف بتداول أهم ملامحها على الرغم من انعدام ظهور أي بنود لها للعلن، لتتشكل عبر مجموعة من التسريبات الممنهجة، تضاف إليها سلسلة من القرارات والممارسات الإسرائيلية والأمريكية التي يمكن اعتبارها أرضية لتنفيذ الصفقة بل وحتى جزءاً أساسياً منها.
تؤكد التسريبات على حقيقة واحدة؛ أنّ هذه الصفقة ليست إلّا استنساخاً لأطروحات سابقة قدمها إسرائيليون في وقتٍ لم تكن فيه ظروف الإقليم تسمح بتحوّلها إلى خطة يمكن تبنّيها من قبل إدارة البيت الأبيض، بل لم تكن الإدارات الأمريكية السابقة على استعداد حتى للمغامرة بتبنّي خطة قد توافق عليها أنظمة سياسية عربية دون رصيد جماهيري كاف لضمان تنفيذها على المدى البعيد.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإن من بين هذه الأطروحات ما قدّمه أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق في حكومة بنيامين نتنياهو كخطة للسلام، والتي تتشكل قوامها من ضم معظم أراضي الضفة الغربية لإسرائيل تحت عنوان تبادل الأراضي المأهولة.[1] تضاف إلى أطروحة ليبرمان دراسةٌ لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق جيورا آيلاند والتي قدّم فيها بديلين لحل الدولتين على أساس إقليمي عام 2010 [2].
الأطروحتان تعتمدان في المضمون على أساس حشد أكبر قدر ممكن من المناصرة العربية لهما، وهو حشدٌ بات واضحاً في التمهيد لما عُرف في هذه الأثناء بصفقة القرن، حيث يتمثل بإيجاد القبول لبديل إقليمي حُددت أركانه إماّ بدولة اتحادية تشمل الأردن والأراضي الفلسطينية، أو بتبادل لأراض بين الفلسطينيين والإسرائيليين والمصريين، ولا شكّ بأن البديل الأخير ليس بذي فارق أكبر عن نظيره الأول إذ يدلّ في جوهره على سعي إسرائيل لضم المزيد من أراضي الضفة الغربية إليها.
بديلا مستشار الأمن القومي آيلاند لم يكونا وحدهما الخيار في طرح آلية حلّ الدولتين حيث يضاف إليهما بدائل أخرى قدّمت خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية من قبل أكاديميين إسرائيليين تطرح فكرة تقليص الوجود الفلسطيني في أقل بقعة جغرافية داخل الأراضي المحتلة وحل مشكلة الكثافة السكانية بالتعاون مع مصر، ومن أشهرها خطة تبادل الأراضي الثلاثية[3].
بالعودة إلى الخطة الأمريكية أو ما يعرف بصفقة القرن والتي تولّى الترويج لها جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي وأهمّ مستشاريه، فإنّها تسعى بحسب ما تسّرب من بنودها لحذف عدّة عقود من تاريخ العمل النضالي الفلسطيني من أجل قضيتهم الوطنية، وتحويل هذه القضية إلى مسألة إنسانية إغاثية، بما يعني إمكانية حلّها من خلال طمس البعد السياسي لها على المستوى العربيّ، واستدعاء الحلول الاقتصادية لضمان إنجاحها إذ تعتمد هذه الحلول بالدرجة الأولى على المال العربي الخليجي، وعلى أنظمة سياسية عربية تحرّكها مخاوفها من المستقبل أكثر من تطلعاتها إليه.

 لماذا تمّ تبنّيها الآن؟

وتأسيساً على ما سبق؛ يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً هو “لماذا الآن؟”، ما الذي جعل أفكاراً يناهز عمرها عمر الاحتلال نفسه، تبدو في عيون الساسة الاسرائيليين ومن ساندهم داخل دوائر صنع القرار في واشنطن خطة يتم تبنّيها رسمياً من الإدارة الأمريكية، هل للأمر ارتباطٌ بتحوّلات في مراكز وأروقة الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة؟ أم أنه متعلقٌ أكثر بمتغيرات جذرية شهدتها المنطقة العربية؟ أم أن الأمر ليس على أي منحاً مما ذكر أعلاه، وليس سوى طغيان الرؤى اليمينية في دولة الاحتلال وتردّي الحالة الفلسطينية؟
تشير المنهجية الاستقرائية في التحليل، بأن إدارة الرئيس دونالد ترامب لم تكن لتفصح عن تبنّيها لخطةٍ من هذا النوع وتكريس نفوذها الكامل تمهيداً لها دون إدراكٍ لأي من إجابات كل التساؤلات السابقة، والتي تعزز التأكيد عليها لا النفي، وبما أنّه ما من ضمانات تمتلكها هذه الإدارة لبقاء الوضع على ما هو عليه مستقبلاً، فإنّها تسابق الزمن بخطى حذرةٍ سريعة كي تفرض على عجل رؤيتها على جميع الأطراف. وعليه؛ فإنّ البيئة الحالية والتي سيتم إيجازها في السطور التالية، تتيح لأميركا تقديم خطتها لتصفية القضية الفلسطينية دون أن تضمن تطبيقها بنجاح على أقل تقدير.
على الصعيد الأمريكي يحتاج ترامب الزعيم الطامع بولاية رئاسية ثانية إلى رضى اللوبي الصهيوني في أميركا خلال ولايته الأولى كأي زعيم أمريكي سابق، بل وحاجة رجل البيت الأبيض الحالي إلى ذلك أكثر من حاجة سابقيه لكثرة ما أثير حوله من جدل وصل حد السخرية من كل ما يصدر عنه، والسخرية هنا لم تكن مجرد انتقادٍ من خصومه التقليديين، بل إن الأمر تعدى ذلك ليشمل بعض النخب في الحزب الجمهوري أي الحزب الداعم له. وهنا قد تكون استطلاعات الرأي الأكثر مصداقية في إيضاح ما تركه ترامب وراءه من إرث سياسي، حيث أشارت إلى التدني الذي أصاب شعبيته مقارنة بالرؤساء السابقين خلال الأشهر الأولى من تولّيه الرئاسة، وهي بمجملها نتيجة حتمية لما صدر عنه من تناقضات بشكل يومي[4].
لا شكّ إذن بأن صورة ترامب السياسية والتي باتت تهدّد إمكانية فوزه في الانتخابات القادمة، تدفعه للاستماتة في تقديم دعم استثنائي لليمين الإسرائيلي، بيد أنّ هذه الصورة ليست هي العامل الأهم في سعي الولايات المتحدة الأمريكية لتطبيق صفقة القرن، وإن كانت ذات أهمية قصوى في إدراك الحقيقة المتمثلة بأن ضعف الإدارة الأمريكية هو الذي يقف خلف الإصرار على الصفقة لا قوّتها، وهو إدراك لازمٌ لاستشراف مصيرها.
أما على الصعيد العربي: فيبدو أن تجنيد الأنظمة السياسية العربية وتحديداً تلك التي تحتكم على المليارات من قبل الإدارة الأمريكية شرطاً حتمياً لنجاح الصفقة، فبنودها الأساسية قائمة على أساس طمس البعد السياسي للقضية الفلسطينية واستدعاء المال لحلّها باعتبارها مسألة إغاثية كما ورد آنفاً. ورغم أنّ هذه الأنظمة مجنّدة مسبقاً من قبل الإدارة الأمريكية إلّا أن استعدادها لدعم مثل هكذا صفقة كانت تقيّده مخاوف ردّ الفعل العربي على مستوى الشارع، بيد أن تلك المخاوف سرعان ما تبددت وتوجهت إلى ناحية أخرى بعدما شهدته المنطقة العربية من تحوّلات عاصفة بدأت على إثرها شعوب المنطقة بخلع حكّامها واحداً تلو الآخر مما قادَ بعض الأنظمة إلى استنتاج مفاده: أنّ الشعوب العربية باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تقلب ظهر المجنّ وتطيح بأنظمتها السياسية وإن لم تسر هذه الأنظمة في خطة لتصفية القضية الفلسطينية، فالفساد والفقر والاستبداد عوامل كافية جداً لمحاربتها.
بتعبيرٍ آخر؛ أدركت الأنظمة العربية وأهمها النظام الإماراتي والسعودي والمصري أنّ استقرار حكمها لم يعد مرتبطاً بالحذر في التعامل مع شارعها بقدر ما هو مرتبط بـ استرضاء الولايات المتحدة الأمريكية كي تبقى الذراع الذي ينتشلها من بين أيدي الشعوب الساخطة وهو الإدراك الذي دفع بهذه الأنظمة للسير بشكل متوازٍ في مسارات أربعة، يُقرأ أهمها على النحو التالي:

  • شيطنة المواطن الفلسطيني
  • التبعية الكاملة للولايات المتحدة
  • تكاتف قوى الفساد
  • إيجاد قواسم مشتركة مع إسرائيل كالتهديد الإيراني

شكلت هذه المسارات الأربعة والتي تأتي بالتزامن مع الدبلوماسية الأمريكية الحثيثة تحفيزاً كبيراً للدفع بالدول العربية إلى المضيّ قدماً بها، حيث فتحت المجال للمجاهرة بالعلاقات الإسرائيلية الخليجية، وتقديمها على أنّها في مصلحة البلدان العربية، التي آن لها أن تدرك من وجهة نظر عرّابي الصفقة أنانية الفلسطيني، وحقيقة الخطر الإيراني، كما وغوغائية الحراك الشعبي العربي، يضاف إلى ذلك مدى المنفعة من التحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
بالتطرق إلى وجهة النظر الإسرائيلية فإن إرهاصات وطغيان اليمين المتطرف على السياسة الإسرائيلية بدأت بالوضوح أكثر فأكثر مع تسلم أرئيل شارون الحكومة بعد فشل مباحثات كامب ديفيد عام 2000، حيث شرع الزعيم الاسرائيلي بعدها إلى السياسات الانفصالية من جهة وضم وتوسع السطوة الاسرائيلية من جهة ثانية، ليتبلور ذلك في استمرار اسرائيل ببناء الجدار الفاصل وتوسيع حدود مدينة القدس وبناء المزيد من المستوطنات وتوسيع القائمة منها، إضافة إلى تشديد الحصار على قطاع غزة، وهي سياسة لم تعرف التوقف في عهد الحكومات اللاحقة، بل إن البحث في حلول للصراع نفسه باتت تختلف على نحو كبير عمّا ورد في اتفاق أوسلو ومباحثات أولمرت-أبو مازن، ليتطور النهج الاسرائيلي بعد تسلّم نتنياهو الحكم عام 2009 بتحول اليمينية المتطرفة إلى ثقافة سياسية سائدة، أُميط عنها اللثام في انتخابات نيسان وأيلول 2019 للكنيست الإسرائيلي. ولم يعد الأمر مقتصراً على تسيّد اليمين الإسرائيلي للمشهد السياسي بل وصل إلى تنصّل القوى السياسية المحسوبة على تيار الوسط واليسار من أي رؤى يسارية، وبذلك يكون نتنياهو قد نجح في إقناع المجتمع الصهيوني بأنّ أي رؤى مغايرة لليمينية الدينية أو القومية هي ضربٌ من الخيانة، وهو ما يمكن قراءته بوضوح في تصريحات بيني غانتس، والذي يقود كتلة يسار الوسط المنافسة لحزب نتنياهو قبيل انتخابات نيسان 2019.
وعلى الرغم من صراع نتنياهو مؤخراً للحفاظ على قيادته للحكومة، إلا أن الصراع السياسي عموماً بين الأطراف الإسرائيلية ليس بشأن حل الدولتين وفقاً لمفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين، بقدر ما هو صراع على بدائل هذا الحل، سواء أكان بلغة الانفصال كما يقدمه تحالف (أزرق أبيض) مع تجاهل ذكر حل الدولتين، أو بلغة الضم والتوسع كما يقدّمه الليكود أي حزب نتنياهو، وفي الحالتين، فإنّ صفقة القرن بما تسرّب منها لا تتناقض مع البديلين المذكورين من حيث جوهرها، إذ أن المُراد هو حصر الفلسطينيين في أضيق بقعة جغرافية، وتمديد الوجود الصهيوني في أوسع بقعة ممكنة.
من المنظور الفلسطيني يعتبر الانقسام بين الفصائل هو العقبة الأكبر أمام الفلسطينيين في مواجهتهم لمخططات تصفية القضية الفلسطينية، وليس غريباً أن يتم تأكيد حقيقة عدم ادخار إسرائيل لأي جهدٍ في إبقاء حالة الانقسام الحالية حيةً، بل وتعزّزها بما ييسّر لها من تنفيذ مشاريعها التوسّعية والتهويدية دون مواجهة فلسطينية تذكر. بيد أنّ حالة الانقسام هذه ليس عامل الضعف الوحيد، إذ أن جسم النظام السياسي الفلسطيني بات عليلاً من الناحية الدستورية والسياسية، والسلطتان القضائية والتشريعية تتبعان بشكلٍ كامل لسلطة الرئيس، وما من بدائل سياسية مطروحة للتعامل مع المخططات الصهيو-أمريكية.
وبالنظر إلى كون “صفقة القرن” تتخذ من المال مدخلاً لتصفية القضية الفلسطينية باعتبارها مسألة إغاثية، فإنّ إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية لا تنفك عن تحويل الهمّ الفلسطيني من وطني سياسي إلى إنساني إغاثي، وذلك بإرهاق غزة عبر حصارها بمساندة من مصر، وبتذكير السلطة الفلسطينية في الضفة بشكل متكرر بحقيقة كونها مقيّدة مالياً، وهي الحقيقة التي لا تنكرها أبداً حكومة محمد اشتية الحالية بل وتصرح باستمرار وبما لا يدع مجالاً للشك أنّها تدرك مأزقها هذا، حيث أن مسألة تبنّيها لنهج الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل وتعزيز الاقتصاد الوطني هو نهج يتجاهل دون مبرّر أنّ السلطة ببنيتها الحالية وما خلقته من أنماط اقتصادية في الضفة لا تستطيع تحمل عبء الانفكاك.
ولا يشمل التضييق الاقتصادي على الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة فقط في دفعهم لقبول المدخل الاقتصادي كمخرج من الصراع مع الاحتلال وتصفية القضية، بل تجاوزه الأمر إلى التضييق على فلسطينيي الشتات وتحديداً في لبنان، إذ يتم تكثيف الجهود الرامية إلى التضييق بشكل مضاعف على الفلسطينيين بما يمهّد الطريق إلى إنهاء ملف اللاجئين وفق ما تقترحه أيضاً الخطة الأمريكية.

الخطّة حسب التسريبات

وعلى الرغم من انعدام وجود أي وثيقة رسمية صادرة عن الإدارة الأمريكية في عهد ترامب تسمّى خطة السلام في الشرق الأوسط أو صفقة القرن، بيد أن وسائل إعلام كثيرة سرّبت أهم ملامحها،[5]  ويبدو أن تعزيز حقيقة أن تكون هذه التسريبات جزءاً من الوثيقة هو ما صدر عن الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة نتنياهو من سياسات وتصريحات تنسجم مع ما سُرّب من تفاصيل، إذ تركّز التسريبات المتوفرة على اعتبار الكيان السياسي الفلسطيني الذي سيسمّى دولة لاحقاً, كياناً لا يشمل معظم المناطق المعروفة بمنطقة “جيم” في الضفة الغربية، كما ويربط بقطاع غزة دون أي سيطرة للفلسطينيين على أي معبر، حيث ستحتفظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية عن الضفة الغربية والحدود، وستبقي منطقة الأغوار تحت السيادة والسيطرة الإسرائيلية على أن تكون “أبو ديس” الواقعة شرق القدس هي العاصمة المقترحة، وعلى أن يكون هذا الكيان وطناً محدود السيادة للفلسطينيين، وإسرائيل وطناً لليهود.
وبالنسبة لما تسرّب بشأن قضية اللاجئين، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية تطرح إمكانية عودة ما لا يتجاوز 60 ألف لاجئ فلسطيني ممّن يرغبون بالعودة إلى أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما يتم تعويض أحفاد اللاجئين الموجودين خارج فلسطين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدامها مسمّى “أحفاد اللاجئين” يعني بوضوح أنّ واشنطن تريد نزع صفة لاجئٍ عنهم، وسوف تقوم بتجنيد المال الغربي لعملية التعويض ودعم الدول التي ستقوم بالتوطين كالأردن ولبنان، أو التوطين في أماكن أخرى في العالم.
أمّا بشأن تبادل الأراضي، فإنّ الصفقة تستخدمه كتعبير مضلّل، لإخفاء الغاية وراء مفهومها الواضح حيث أن ما سيجري هو الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية كجزء من دولة إسرائيل، فيما سيطلب من الفلسطينيين اعتبار الأحياء العربية المحيطة بالقدس هي عاصمتهم، مع إتاحة المجال لهم بالمرور الآمن إلى الأماكن الإسلامية المقدسة للصلاة فقط، وإمكانية تأسيس إدارة مشتركة لها من فلسطين والأردن، كما أنّ بعض التسريبات الأخرى تدّعي احتمالية مشاركة دول خليجية في إدارة المقدسات الإسلامية كخطوة لإضعاف الحضور الأردني، في الوقت الذي ستحتفظ به إسرائيل بالسيادة الكاملة على مدينة القدس، والتي تشمل بحسب تسريبات الخطة البلدة القديمة والحوض المقدس، وجزئا من سلوان ومنطقة جبل الزيتون ووادي الجوز والشيخ جراح وجبل المشارف”[6].
وعلى سبيل الموقف العربي من عملية التبادل والمختصر بمصر والأردن كونهما ذوات حدود مشتركة مع الأراضي الفلسطينية فإن الأمور ما زالت غير واضحة حتى اللحظة، إذ يُشاع بأن عمان تتعرض لضغوط شديدة من أجل القبول بالتنازل عن منطقتي الباقورة والغمر مقابل توسيع حدودها باتجاه السعودية، على أن تشارك كلٌ من الإمارات وقطر بتمويل هذا التبادل بيد أنه ما من تصريحات مؤكدة حول حقيقة هذه التسريبات. أمّا على الجهة المصرية فتبدو الأمور أكثر وضوحاً، إذ توصّلت الإدارة الأمريكية إلى حل بديل مع المصريين عن توسيع قطاع غزة باتجاه مصر، ليأتي الاقتراح وفق التسريبات بأن يُسمح للفلسطينيين بحرية الحركة والعمل في مناطق رفح والعريش والشيخ زويد تحت سقف ورعاية القانون المصري.
بالانتقال إلى الشق الاقتصادي من صفقة القرن، يعد الجانب الآتي الأكثر وضوحاً في الخطة الأمريكية، حيث نشر فيه جيسون غرينبلات، مبعوث الرئيس ترمب في الشرق الأوسط نصاً تضمن مفاصله كاملةً وهو بعنوان “من السلام إلى الازدهار” حيث سيتم تجنيد 50 مليار دولار لاستثمارها في الأراضي الفلسطينية على مدار عشرة سنوات، إذ من المقرر أن تشمل الخطة ثلاث مبادرات أساسية، الأولى تتعلق بالإصلاح الهيكلي للقطاع الاقتصادي من خلال سيادة القانون ومحاربة الفساد وضبط النظام الضريبي بالتزامن مع استثمارات كبيرة في البنية التحتية، والثانية تتعلق بقطاع التعليم حيث سيتم دعم التعليم المهني والتقني، أما المبادرة الثالثة فستكون مهمتها تعزيز الحوكمة.

المواقف من صفقة القرن

في إطار الحديث عن المواقف تجاه الخطة الأمريكية فقد عبّر الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في أكثر من تصريح عن رفضه لصفقة القرن، وقد شاركه الموقف قيادات أخرى من كافة الفصائل الفلسطينية، مما شكّل إجماع وطني على رفض الصفقة والدعوة إلى مواجهتها. الموقف الفلسطيني وعلى قدر ارتباطه بالقضية نفسها إلّا أنه قوبل بتجاهل أميركي يعكس ضعف الأطراف الفلسطينية مجتمعة، فهو موقف لم يتجاوز حد التصريح بالرفض والدعوة للمواجهة، دون أن تفضي هذه الدعوة إلى أي محاولة جادة للتوافق الفلسطيني وفتح نقاش معلن لبلورة خيارات استراتيجية جديدة تتجاوز حل الدولتين التي أعدمتها إسرائيل ميدانياً، وتراجعت عنها الولايات المتحدة بتصريحاتها حول الصفقة وبخطواتٍ عديدة متسارعة كان من بينها إغلاق مكتب منظمة التحرير في الولايات المتحدة، ونقل السفارة إلى القدس، كما والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبحق إسرائيل في ضم الضفة الغربية، أعقبه أيضاً التضييق على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين  الفلسطينيين.
أمّا بشأن سلوك الأنظمة السياسية العربية في مرحلة ما بعد الثورات، وما تم ذكره سابقاً عن حاجتها إلى إسناد دولي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة الإرادة الشعبية، فإنّ موقف كلّ من مصر والسعودية والإمارات المؤيدة للمساعي الأمريكية ليس بالأمر المفاجئ، كذلك تلكؤ الدول الأخرى وترددها في الرفض الصريح أو الموافقة الصريحة كان متوقّعاً.
والجدير ذكره هنا أن الدول المذكورة أعلاه وتحديداً السعودية لم تكتفي عند تأييد صفقة القرن، وإن كانت قد غلّفت التأييد على غرار دول عربية أخرى بالتأكيد على حق الفلسطينيين في الدولة، لتذهب أبعد من ذلك وتصبح أداة ضغطٍ على القيادة الفلسطينية للقبول بالطرح الأمريكي، حيث ساهمت إلى جانب مصر في تجنيد مقدّراتها المالية والإعلامية من أجل شيطنة الفلسطيني، والادّعاء بأنّ الانشغال بقضيته تشكل عقبة أمام تطوّر الدول العربية التي تحمّلت الكثير من أجل فلسطين على حسب الروايات التي قدّمها الإعلام المستهدف لشعوب المنطقة.
ولا يعد السلوك السياسي المستحدث من حيث المجاهرة به حديثاً من حيث الجوهر، إذ أن الدول نفسها وتخص بذلك مصر، قد لعبت دوراً في الضغط على القيادات الفلسطينية لإجبارها على القبول بتسويات سياسية بعينها، بيد أنّ هذه المجاهرة رغم ما تحمله من مؤشرات على تهاوي الأنظمة العربية نحو تبعية كاملة للولايات المتحدة، إلا أنها تشكّل فرصة يجب استثمارها لبناء رؤية سياسية فلسطينية تستند على الإرادة الشعبية الفلسطينية والعربية، كونها الحاضنة الحقيقية لأي استراتيجية مناوئة لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
وليس مطلوباً من جسم النظام السياسي الرسمي فحسب استثمار حالة انكشاف الأنظمة السياسية العربية، بل هو الواجب الذي تفرضه المعطيات السياسية من كافة الحركات الوطنية والإسلامية التي اضطرت لفتح قنوات اتصال مع أنظمة سياسية تحت وطأة الحاجة لتسيير حياة المواطنين، وتحت مظلة الخطاب العربيّ السابق، كما وأن الاستثمار بأن لا تنجر هذه الحركات إلى مزيد من العلاقات القائمة على أساس أمنيّ بالدرجة الأولى، مطلوبٌ هو الآخر، إذ يجب إدراك الحقيقة بأن أي موقفٍ فيه خذلان لإرادة الشعوب العربية وإن يسّر من حياة المواطنين الفلسطينيين وتحديداً في قطاع غزة على المدى القريب، سيكون وبالاً حتمياً على المدى البعيد، بحكم أنّ اعتبار النظام المصري والسعودي والإماراتي مجرّد أدوات أمريكية لم يعد استنتاجاً ظنّياً بقدر ما هو حقيقة مُجاهرٌ بها.
على الجهة المقابلة نظرياً؛ فإنّ إسرائيل التي لم تكن بحاجة إلى مثل هذه الصفقة للبدء بتطبيقها، لم توقف توسّعها الاستيطاني والسيطرة على الأراضي، وتقليص الوجود الفلسطيني في مناطق جيم” بخطوات ممنهجة وبنهج يعمل به منذ عقود، وخصوصاً في مدينة القدس ومحيطها. وبالرغم من تصريحات نتنياهو التي باركت الصفقة واستنكرت الرفض الفلسطيني لها، فإنّ إسرائيل لم تتردّد في التذكير بأنّ هناك خطوطاً حمراً لا يمكن لها أن تتجاوزها وإن شملتها صفقة القرن، كموضوع عودة أيّ لاجئ إلى أرضه أو مسألة السيطرة على القدس وغيرها مما يُذكر من ملفات ظهرت بشكلٍ جليّ في تصريحات النخب الإسرائيلية قبيل الانتخابات الأخيرة وإن لم تشر صراحة إلى صفقة القرن. وعليه؛ فإنّ القبول الإسرائيلي بصفقة القرن هو بالدرجة الأولى قبول انتهازيّ محدود الزمن لتسهيل فرض وقائع جديدة في الأراضي الفلسطينية دون أن يكون هذا القبول مُنتهى ما تريده من فلسطين أو المنطقة العربيّة برمّتها، ليبدو تطبيق الصفقة في هذه السنوات مجرّد مرحلة من مراحل المشروع الاستعماري الاستيطاني. 

 مستقبل التسوية

على غرار التساؤلات المطروحة أعلاه يتساءل الكثير من المراقبين حول مستقبل مشاريع التسوية السابقة وأبرزها ما دار في فلك “حل الدولتين” إذا ما مضت الإدارة الأمريكية في مساعيها وطرحت الخطة للتطبيق، ورغم كونه تساؤل مبرّر في ظل تمسّك أطراف فلسطينية وعربية بهذا الخيار، يدعمها بقايا اليسار الإسرائيلي، إلّا أنّه تساؤل يتجاهل دونما تبرير أنّ التسوية القائمة على حل الدولتين ليست سوى حبراً على ورق منذ أن عاد الراحل ياسر عرفات من كامب ديفيد عام 2000، وما تبعها من سلسلة إجراءات إسرائيلية طوت فيها صفحة أوسلو، وما صفقة القرن سوى إعلان لا يقبل التأويل عن زوال هذه التسوية.
وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ القضاء على فكرة حل الدولتين لا يعني بأيّ شكل من الأشكال نجاح مشروع التصفية المسمّى بصفقة القرن، حيث أنه ودونما تجاهل لنجاحات إسرائيل المتتالية في السيطرة على مزيد من الأراضي، وانفتاح البلدان العربية أمام سياسيّيها ورجال أعمالها، تبدو صفقة القرن “حالمة” جدّاً ومنسلخة عن الواقع، حيث يفترض عرّابوها أنّ الشعب الفلسطيني سيقف مكتوف الأيدي في انتظار تمامها، كما أنهم يتجاهلون حقيقة عدم انتهاء الثورات العربية، وأنّ احتمالية تبدّل المشهد العربي ما زالت أقوى من احتمالية إعادة إنتاج السلطوية لعقود طويلة. إنّ هذه الصفقة تعتمد الآن على احتمالية ثبات العناصر المؤثرة في القضية الفلسطينية لفترة كافية لتمريرها، لكنّ أهم العناصر تتمثل في الدول العربية، التي تصل منها مؤشرات متتابعة على احتمالية حدوث تغييرات جذرية في المرحلة المقبلة، وأهمها مصر.

خاتمة:

صفقة القرن وما تسرّب منها حتى اللحظة ليست سوى إعادة إنتاج أمريكي لأطروحات صهيونية صدرت بشكل متكرر خلال العقدين الأخيرين، وما الحديث عنها الآن تحت هذا المسمّى وبهذه الكثافة إلّا لتظافر جملة من العوامل الميسّرة لتمريرها، كحاجة ترامب إلى دعم “أيباك” في ظل تدهور صورته السياسية خلال الأسابيع الأولى من حكمه، مضافاً إليها حاجة بعض الأنظمة العربية إلى الإسناد الأمريكي في ظل حركة التغيير في المنطقة العربية وعدم اعتماد هذه الأنظمة على رصيد جماهيري كاف لاستقرارها بعيداً عن التدخل الخارجي. يضاف الى ذلك التحوّلات الخطيرة والتي هيمنت على الثقافة السياسية في إسرائيل خلال العقد الأخير باتجاه اعتبار الرؤى اليمينية هي الرؤى المقبولة، وما سواها تهمة تستوجب من صاحبها البراءة، وهي عوامل عزّزت من إصرار الإدارة الأمريكية على تمرير الصفقة. لتأتي أيضاً مصاحبة مع كل ذلك لانغماس الشعوب العربية في أزمات متتالية جعلت من القضية الفلسطينية مسألة هامشية أمام حالة العنف التي تخيّم على المنطقة، وهي الحالة نفسها المسيطرة على الشعب الفلسطيني أيضاً حيث يعيش حالة استنزاف سياسي في ملف الانقسام، وانشغال الشارع في قضايا معيشية، سواء كان الحديث عن الضفة أو القطاع.
يمكن إذن وبعد معطيات عديدة كما ومن خلال ما تسّرب عن الصفقة القول بأنّها خطة وُضعت بهدف تقليص الوجود الفلسطيني في الحيّز المكاني الأضيق، دون أن يكون لسلطته الفلسطينية سيادة حقيقية، ودون أي اتصال جغرافي حر بالعالم، مع ضمان تدفّق الأموال إليها في محاولة لضبط الشارع الفلسطيني واستقراره، معتمدةً بالدرجة الأولى على جهود إقليمية مساندة كالتوطين وتبادل الأراضي واستثمار الأموال. وبالرغم من أنّ الصفقة يروّج لها أمريكياً كخطة لإنهاء الصراع إلى الأبد، بيد أنها وباستقراء التصريحات الإسرائيلية ليست سوى مرحلة من مراحل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المستمر.
حيث تُفصح هذه الصفقة بوضوح تامّ أنّ الأطراف المؤثرة في القضية الفلسطينية وتحديداً تلك التي رعت “حل الدولتين” لعقود، نكصت عنه، وهو نكوص لا بدّ من تلقّفه فلسطينياً لتعديل المسار. علماً أنّ تكاتف كل الظروف سابقة الذكر بما ييسّر تمرير الصفقة لا يعني ضماناً لتطبيقها بنجاح، فالشارع الفلسطيني ما زال قادراً على التحرّك، والحركات الفلسطينية رغم حالة الانقسام ما زالت قادرة على الحشد، فيما الأطراف الإقليمية المساندة للصفقة تقف على أصابع أقدامها وهي تراقب إرهاصات التغيير قد عادت من جديد.

المصادر:

[1] Sawasan Eamahi, The Land Exchange Project, Obtober 2011, Middle East Monitor, https://www.memopublishers.com/images/uploads/documents/the-land-exchange-project.pdf

[2]Maj. Gen. (res.) Giora Eiland, Regional Alternatives to the Two-State Solution, January 1, 2010.  https://besacenter.org/policy-memorandum/regional-alternatives-to-the-two-state-solution-2-2/

[3] بن كاسبيت، يوشع بن آريه: خطة تبادل أراض ثلاثية.. قابلة للحياة، 5 حزيران 2004.

 http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=481ec6y4726470Y481ec6

[4] Linda Qiu, Fact-Checking President Trump Through His First 100 Days, The New York Times, April 29, 2017. https://www.nytimes.com/2017/04/29/us/politics/fact-checking-president-trump-through-his-first-100-days.html

[5] Muriel Asseburg, The “Deal of the Century”for Israel-Palestine, April 20, 2019, https://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2019C20_ass.pdf

See also:

Yara Zarir, The “deal of the century” is already on the ground before being on paper, August 25, 2019, https://www.opendemocracy.net/en/north-africa-west-asia/the-deal-of-the-century-is-already-on-the-ground-before-being-on-paper/

[6] ناصر عودة، القدس في فلسطين الجديدة، العربي الجديد، 26 أيار 2019.

بواسطة
alsiasat

بلال شوبكي

رئيس دائرة العلوم السياسية في جامعة الخليل- فلسطين
زر الذهاب إلى الأعلى