الجيش اللبناني وتحديات فشل الدولة

اقرأ في هذا المقال
  • تبدو العلاقات العسكرية المدنية في لبنان تجربة فريدة تستحق اهتمامًا أكاديميًا أكبر، خاصة وأن الجيش اللبناني يمتلك أحد العناصر غير المتوافرة في معظم جيوش المنطقة، وهي "الثقافة المدنية" التي تعتبر حجر الزاوية في بناء أنظمة سياسية ديمقراطية، لا تخشى من خطر الانقلابات العسكرية أو الحكم العسكري.


د. عبد الله فيصل علام

استاذ علوم سياسية بجامعة أسيوط – مصر

في أبريل الماضي أطلق نائب رئيس مجلس النواب اللبناني “أيلي الفرزلي” دعوةً من أجل تسليم الجيش اللبناني مقاليد السلطة في البلاد لفترة انتقالية؛ وذلك في سبيل وقف الفوضى والتدهور الذي تشهده لبنان خلال السنوات الأخيرة. ووصف الفرزلي دعوته بأنها لا تستبطن تكرار تجارب الانقلابات العسكرية التقليدية، وإنما انطلاقًا من مساحة مشتركة لدى كافة الأطراف، ومن بين المبررات التي قدمها ثقة الجميع في الجيش اللبناني وكونه فوق الشبهات، بالإضافة إلى مساهماته المتكررة في الاضطلاع بأدوار مهمة حينما تستعصي الأمور وتتعثر الأوضاع، وتصل الأزمات إلى مرحلة العجز عن إيجاد الحلول لها((([1]) بلا قيود: إيلي فرزلي نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، عربي BBC News، (الدخول في 28 مايو 2021م): https://youtu.be/ZnCjryKCJ74)).

 ولقد جاءت تلك الدعوة لتجدد الجدل حول “العقد الاجتماعي” الذي تقوم عليه الدولة اللبنانية، والحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يغيّر من المعادلة السياسية الحالية، التي كان لها دور كبير فيما لحق بالدولة اللبنانية من فشل، وفيما أصاب قطاعاتها المختلفة من انهيار وشلل؛ حيث إن لبنان اليوم، وفي ظل استمرار أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، عقب استقالة حكومة حسّان دياب في أغسطس 2020م، واستمرار حالة الفراغ السياسي طوال تلك المدة، وفي ظل ظرف داخلي ودولي شديد الحساسية فرضته تداعيات انتشار فيروس كورونا؛ يرضخ لواقع غاية في الصعوبة، يفاقم من معاناة المواطنين، ويهدد بانهيار كارثي غير مأمون العواقب.

وطوال السنوات الماضية، وعلى وقع تلك الأزمات المتكررة التي تعيشها لبنان، شهدت الدولة اللبنانية العديد من الموجات الثورية، التي امتلأت خلالها الشوارع اللبنانية بالمحتجين الغاضبين، الذين تنوعت فئاتهم وانتماءاتهم السياسية والطائفية، وتوحدوا على المناداة بالإصلاح السياسي ومحاسبة الفاسدين، وقد حملت الموجة الثورية الأخيرة التي انطلقت في عام 2019م، ورفعت شعار “كلن يعني كلن”، مجموعة من المطالب على رأسها الإطاحة بجميع النخب السياسية الموجودة في المشهد السياسي الحالي، على مختلف انتماءاتها الطائفية؛ لمسئوليتها عن حالة الشلل التي تعيشها البلاد، ووقوفها كحائط صدّ أمام أية آفاق محتملة للإصلاح.

وعلى الرغم من تلك الانتفاضات الثورية المتتالية التي شهدتها لبنان، والتي سبق بعضها الانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011م، لكنها لم تنته معها؛ حيث استمرت حلقاتها حتى عام 2019م، إلا أنها وطوال تلك المدة الطويلة، لم تستطع تحقيق أي من أهدافها التي خرجت من أجلها؛ حيث استمر أداء النظام السياسي اللبناني على حالته المعتادة من الفساد والفشل. وعلى عكس غالبية البلدان العربية التي شهدت انتفاضات مماثلة، أدت إلى إحداث تغييرات نوعية في صيغ الحكم داخل تلك البلدان، سواء بإنتاج نظم حكم جديدة، أو بتعديل نظم الحكم القائمة، بغض النظر عن كون تلك التغييرات إيجابية أم سلبية، إلا أن النظام السياسي اللبناني وحده هو الذي استمر في جموده، وعصيانه على التغيير.

واعتمادًا على الواقع الذي تعيشه الدولة اللبنانية، فإن هذه الورقة تسعى إلى استكشاف بدائل جديدة للتعامل مع تلك الأزمات التي تعاني منها الدولة اللبنانية؛ من خلال البحث عن صيغة جديدة لتشكيل النظام السياسي اللبناني، بما قد يساعد في تقديم إجابات مختلفة للأزمات اللبنانية. وبالتالي تطرح الورقة التساؤل الرئيس الآتي: إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الجيش اللبناني في الاضطلاع بدور مركزي في إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني والخروج به من أزماته الحالية؟ وسوف يتم تقسيم الورقة إلى المحاور الآتية:


أولًا: أدوار المؤسسات العسكرية في إعادة بناء الدولة.

تشير الروايات التاريخية إلى أن الجيوش ظهرت مع إنشاء مجتمعات بشرية منظمة؛ والتي كانت نتيجة الحاجة للاستيلاء بالقوة على الأراضي والموارد (بسبب الضغوط السكانية) التي تقع تحت سيطرة مجتمعات أخرى، وكذلك لتوفير الحماية من تلك المجتمعات “الأخرى” المعادية. ويجادل تشارلز تيلي ــ أحد أكثر علماء تكوين الدولة تأثيرًا في أوروبا ــ بأن الدولة والهياكل المرتبطة بها ظهرت في أوروبا بالكامل تقريبًا كنتيجة غير مباشرة لجهود الحكام للحصول على وسائل الحرب والاستعدادات للحرب، ومن أجل توسيع وصولهم إلى الأراضي ومجال نفوذهم، أي أن السلطات والأجهزة المدنية قد نشأت بالأساس لسدّ متطلبات عسكرية((André Du Pisani, and Guy Lamb. “The Role of the military in state formation and nation-building: an overview of historical and conceptual issues.” Batchelor, P., Kingma, K. and Lamb, G. Demilitarisation and Peace-building in Southern Africa 3 (2004): 6-17.)).

أما أنور عبد الملك الذي يعدّ من أهم المفكرين العرب الذين اهتموا بدراسة الجيوش وعلاقتها بالأطر المجتمعية، فإنه يذكر أن “الجيش كان دائمًا في النقطة المركزية من عملية نشوء الأمم ودولها”؛ ويفسر ذلك بأنه “في كل مرة حاولت المجتمعات البشرية أن تعطي لنفسها وجودًا متكاملًا بوصفه كيانًا وطنيًا متميزًا ملتفًّا حول مركز السلطة، كان الجيش في النقطة المركزية من العملية بأسرها، ورأس الحربة التي شقّت الطريق وأمّنت السلطة الوطنية وحمت الحدود، ووحدت مختلف القوميات التي تؤلف الكيان الوطني”((أنور عبد الملك، الجيش والحركة الوطنية: مصر، فيتنام، باكستان، إندونيسيا، اليابان، الصين، الكونغو (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012م) ص 36-37.)).

ممّا سبق يظهر أن الجيوش قد لعبت دورًا محوريًا في عمليات نشأة الدول القومية، كما لعبت دورًا محوريًا أيضًا في عمليات تحرر بعض تلك الدول من الاستعمار الأجنبي. ومع مرور الوقت، لم تقدر بعض الدول على الاستمرار في القيام بوظائفها الرئيسة؛ من توفير الأمن وإتاحة الفرص الاقتصادية وإدارة الخلافات الاجتماعية والسياسية، وما شكّله ذلك من أخطار هددت الدولة وتجاوزتها لتهدد المجتمع الدولي، تلك الدول تمّ وصفها على أنها “دولٌ فاشلةٌ”، ومن ثَمَّ تمّ الحديث عن ضرورة “إعادة بناء” تلك الدول، من أجل تمكينها من أداء وظائفها على النحو المطلوب. وفي حين كان السؤال الأهم الذي يتم طرحه هو، كيف سيتم إعادة بناء هذه الدولة؟ وما المداخل الرئيسة للتعامل معها؟ وفق المعطيات المختلفة التي تُظهرها كل حالة؛ فإنه ولأهداف هذه الورقة فإننا سنهتم بالتركيز على التساؤل عن طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات العسكرية في عمليات بناء الدول الفاشلة أو المعرّضة للفشل.

تقليديًا؛ تمّ حصر المؤسسات العسكرية في مهام الدفاع عن الدولة ضد التهديدات الخارجية، كما تمّ حصر وجودها في “الثُكن” المخصصة لها خارج العمران السكاني. إلا أنه وخلال الثلاثة عقود الأخيرة، ظهر اهتمام واضح بإعادة النظر في مهام القوات المسلحة وأدوارها داخل الدولة؛ وذلك في ضوء المتغيرات والتحديات الجديدة التي باتت تواجهها مختلف الدول والمجتمعات. ويُعدُّ انتهاء الحرب الباردة مرحلة محورية في مسار هذا الجدال في البلدان الأوروبية؛ بفعل الطبيعة المتغيرة للتهديدات الأمنية، والحاجة إلى أدوار جديدة للمؤسسات العسكرية لتناسب ظروف البيئة الجديدة. كما أن انهيار الشيوعية وانهيار حلف وارسو في أوروبا الوسطى والشرقية، قد أدى إلى تخفيضات كبيرة في الميزانيات العسكرية وتدقيق مجتمعي جديد، وأحيانًا عدائي لدور القوات المسلحة وهدفها. وهذا بدوره أجبر العديد من القوات المسلحة لتلك البلدان على تغيير أدوارها من أجل مواجهة القيود الجديدة على الميزانية، وحتى في بعض الحالات لتبرير استمرارها المؤسسي((Timothy Edmunds. “What are armed forces for? The changing nature of military roles in Europe.” International affairs 82.6 (2006): 1059-1075.‏ P. 1062-1063.)).

استجابةً لهذه التحديات؛ حظي دور القوات المسلحة وأهميتها باهتمام جديد من خلال أجندة أكاديمية وسياسية ناشئة تربط الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية بقضايا الأمن، على اعتبار أن توفير الأمن المناسب داخل الدولة قد يكون شرطًا أساسيًا لعمليات التغيير السياسي والاقتصادي. ولقد أدى هذا الدمج بين الشواغل التنموية والأمنية إلى تركيز كلٍّ من الأكاديميين وصانعي السياسات على دور القوات المسلحة، ووكالات قطاع الأمن الأخرى في المجتمعات التي تمر بمرحلة تحوّل عقب التخلص من الحكم الاستبدادي أو عقب انتهاء الحروب الأهلية والصراعات الداخلية.

وبناءً على ذلك؛ فإنه خلال المراحل الانتقالية، وفي حالة فشل الدولة في القيام بوظائفها الرئيسة، تصبح الضرورات الوظيفية للقوات المسلحة بمثابة الاستجابة للتهديدات -الداخلية والخارجية- بما يقلل من المعارضة للأدوار الاجتماعية والتنموية المحلية التي تلعبها القوات المسلحة؛ حيث يتمّ تصنيف تلك الأدوار بشكل أوسع باعتبارها جزءًا من عمليات “بناء الدولة”. وبالتالي، يمكن للقوات المسلحة أن تلعب دورًا في بناء الدولة بطريقتين رئيسيتين: أولًا؛ من خلال القيام بدور رمزي في تمثيل السيادة والقيم الوطنية، بحيث يصبح الجيش نقطة ارتكاز في العلاقة بين المواطنين والدولة، وثانيًا؛ يمكن استخدام القوات المسلحة كمورد للقوى العاملة، بحيث يمكن للحكومة الاعتماد عليه لدعم مشاريع البنية التحتية المدنية أو أثناء الكوارث الطبيعية((Ibid. P. 1073.)).

ولتصنيف الأدوار المختلفة التي يمكن أن تلعبها المؤسسات العسكرية في بناء الدول الفاشلة، قامت إحدى الدراسات بالربط ما بين تلك الأدوار وبين الهدف التقليدي للمؤسسة العسكرية وهو تحقيق “الأمن”؛ وذلك بالنظر إلى توفير وضمان حقوق الإنسان على أنه تأكيد على الأمن البشري، والنظر إلى المساعدة الإنمائية على أنها تدعم الأمن الاقتصادي، وأن الاستثمارات في الحماية البيئية تسهل تحقيق الأمن البيئي المستدام، بينما يكون تخفيف حدة الفقر بمثابة استراتيجية لمنع العنف المجتمعي. وبالتالي؛ فإن قيام القوات المسلحة بأدوار مختلفة في تحقيق الأمن الداخلي وإنفاذ القانون، ومكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات، والمساهمة في جهود الإنقاذ والإغاثة في حالات الكوارث الطبيعية والصحية، والاضطلاع بدور في مهام الحفاظ على البيئة، وتوفير عمليات التدريب والتأهيل للكوادر البشرية، وغير ذلك من المهام المدنية الأخرى((Schnabel, Albrecht, and Marc Krupanski. Mapping Evolving Internal Roles of the Armed Forces. Ubiquity Press, 2012. P. 19.))؛ تصبح كل تلك الأدوار مقبولة في ضوء التصدي للتحديات الجديدة التي لا تقدر المؤسسات المدنية على التعامل معها بشكل منفرد، وتحت شرعية عمليات “بناء الدولة”.

ثانيًا: فشل الدولة اللبنانية: المؤشرات والنتائج. 

يشير جولدستون ” Jack A Goldstone” أن هناك نوعين من الخصائص العامة التي يجب أن تمتلكها الدول لتبقى مستقرة، هما؛ الفعالية والشرعية. تعكس الفعالية مدى أداء الدولة لوظائفها المختلفة مثل توفير الأمن، وتشجيع النمو الاقتصادي، ووضع القانون، وصنع السياسات العامة، وتقديم الخدمات الاجتماعية، وتعكس الشرعية ما إذا كانت تصرفات الدولة ينظر إليها من قبل النخب والسكان على أنها “عادلة” أو “معقولة” من حيث المعايير الاجتماعية السائدة. وبالتالي؛ فإن الدولة تصبح فاشلة إذا ما فقدت كلًا من الفعالية والشرعية معًا((Jack A Goldstone, “Pathways to state failure.” Conflict Management and Peace Science 25.4 (2008): 285-296.‏ P. 285.)). 

Page Break 

  • فعالية الدولة اللبنانية. 

أصدر البنك الدولي في يونيو 2021م تقريرًا بعنوان “لبنان يغرق: نحو أسوأ ثلاث أزمات عالمية”، ووفقًا للتقرير يعاني لبنان من كساد اقتصادي حاد ومزمن؛ ممّا قد يجعل الأزمة الاقتصادية والمالية اللبنانية إحدى أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر((World Bank. “ Lebanon Sinking (to the Top 3): Lebanon Economic Monitor, Spring 2021.” (2021).)). 

ويقدّر البنك الدولي أنه في عام 2020م، انكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 20.3%، بعد انكماشه بنسبة 6.7% عام 2019م. وقد انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي للبنان من حوالي 55 مليار دولار أميركي عام 2018م إلى ما يُقدّر بنحو 33 مليار دولار أميركي عام 2020م، في حين انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنحو 40% من حيث القيمة الدولارية. ولا تزال الظروف النقدية والمالية شديدة التقلب؛ وفي سياق نظام متعدّد لأسعار الصرف، انخفض متوسط سعر الصرف الذي يحتسبه البنك الدولي بنسبة 129% عام 2020م. وأدى التأثير على الأسعار إلى ارتفاع التضخم؛ حيث بلغ متوسطه 84.3% عام 2020م. وفي ظل حالة غير مسبوقة من عدم اليقين، فمن المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 9.5% خلال العام الحالي 2021م((البنك الدولي، لبنان يغرق نحو إحدى أشد الأزمات العالمية حدّة، وسط تقاعس متعمّد، بيان صحفي (1 يونيو 2021م): https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2021/05/01/lebanon-sinking-into-one-of-the-most-severe-global-crises-episodes)). 

ويناقش التقرير تأثير الأزمة الاقتصادية على أربع خدمات عامة أساسية هي الكهرباء، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والتعليم. ويُظهر أن الكساد المتعمّد قد أدى إلى زيادة تقويض هذه الخدمات العامة المتردية أصلًا من خلال:  

  • زيادة معدلات الفقر زيادة كبيرة؛ حيث زادت نسبة الأسر غير القادرة على تحمل تكاليف البدائل التي يوفرها القطاع الخاص، وبالتالي أصبحت أكثر اعتمادًا على الخدمات العامة. 
  • تهديد مقومات الاستمرارية المالية والتشغيل الأساسي للقطاع برفع تكاليفه وخفض إيراداته((World Bank. “ Lebanon Sinking (to the Top 3), op. cit. p. 30.)).  

وبينما أظهر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020م، وأزمة النفايات التي انفجرت قبل ذلك بخمسة أعوام، مدى الإهمال والفشل في إدارة أجهزة الدولة، فإنه كشف أيضًا عن مستويات مرتفعة من الفساد؛ فلقد حصلت لبنان على 25 نقطة فقط في مؤشر مدركات الفساد لعام 2020م، ليكون ترتيبها (149) من بين (179) دولة، وذلك بانخفاض قدره خمس نقاط منذ عام 2012م. وعلى الرغم من المطالبات المستمرة بمواجهة الفساد، فإنه لم تبدأ أي تحقيقات رئيسة في قضايا الفساد، ولم يخضع أي مسؤول عام للمحاكمة. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال التحقيقات جارية بشأن انفجار مرفأ بيروت، وفي حين تمّ توجيه اتهامات إلى بعض كبار المسؤولين فيما يتعلق بالانفجار، إلا أن المساءلة لا تزال محدودة((منظمة الشفافية الدولية، مؤشر مدركات الفساد 2020م، ص 19.)). 

  • شرعية الدولة اللبنانية. 

 وفي مواجهة هذه التحديات الهائلة، فإن استجابة السلطات اللبنانية لهذه التحديات على صعيد السياسات العامة كانت غير كافية إلى حد كبير. ويعود ذلك إلى غياب توافق سياسي بشأن المبادرات الفعّالة في مجال السياسات؛ بجانب وجود توافق سياسي حول حماية نظام اقتصادي مفلس، أفاد أعدادًا قليلة لفترة طويلة.  

ولقد أظهرت الاحتجاجات الشعبية الحاشدة التي خرجت في أكتوبر 2019م بوضوح عن فقدان القوى والنخب السياسية الحاكمة للثقة الشعبية؛ ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب: أولها؛ إن تلك الاحتجاجات هي الأكبر منذ التظاهرات التي اندلعت في العام 2005م عَقِب اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وثانيها؛ إنها احتجاجات عفوية غير موجَّهة من أحزاب سياسية أو زعماء سياسيين. وثالثها؛ انتشار هذه التظاهرات في مختلف أنحاء لبنان، وعدم اقتصارها على بيروت أو على المدن الرئيسة. ورابعها؛ تتميّز هذه الاحتجاجات بأنها غير طائفية؛ حيث وجّه المحتجّون انتقادات إلى زعماء سياسيين من طوائفهم نفسها، وهذه سابقة في لبنان((ليديا أسود، وقفة تحليلية من باحثي كارنيغي حول أحداث تتعلق بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مركز مالكوم – كير كارنيغي للشرق الأوسط، 23 أكتوبر 20ش19م: https://carnegie-mec.org/diwan/80158)). 

وتصف مها يحيى، مديرة مركز مالكوم – كير كارنيغي، تلك الاحتجاجات بأنها “ثورةٌ ضد المنظومة السائدة، وانهيارٌ تامٌّ للثقة بالمؤسسات كافة؛ أي مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والقطاع المصرفي والنقابات والتجمعات المهنية”((مها يحيى، يشهد لبنان اليوم ثورة اجتماعية عميقة، وليس مجرّد احتجاجات، مركز مالكوم – كير كارنيغي للشرق الأوسط، 23 ديسمبر 2019م: https://carnegie-mec.org/diwan/80667)). ويعبّر شعار “كلن يعني كلن” الذي كان الشعار الرئيس لتلك الاحتجاجات، عن هذا التصوّر الراغب في إسقاط جميع رموز النظام السياسي. 

وقياسًا على تلك النتائج المتعلقة بغياب الفعالية وغياب الشرعية، يقوم الكثير من الباحثين والمعلقين بوصف الدولة اللبنانية أنها دولة فاشلة، وفي حين يبدى البعض تحفظًا على استخدام هذا الوصف؛ انطلاقًا من اعتبارات مختلفة، إلا أنه حتى ولو لم تكن لبنان في الوقت الحالي دولة فاشلة، فإنه إذا ما استمرت استجابة القوى والنخب السياسية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالطريقة ذاتها التي تدار بها الأمور طوال الفترة الماضية؛ فإن لبنان وبلا شك في طريق مستقيم نحو الانهيار والفشل. 

ثالثًا: مقومات الجيش اللبناني: نقاط القوة والضعف.

إذًا؛ لبنان على حافة الانهيار، وبحاجة لتدخّل ضروري من أجل إنقاذ اللبنانيين من مصير مجهول، ولهذا السبب أطلق نائب رئيس مجلس النواب اللبناني “أيلي الفرزلي” دعوته من أجل تسليم الجيش مقاليد السلطة في البلاد؛ لأنه قد يكون الوحيد القادر على وضع حد للفوضى والتدهور الذي تشهده لبنان. وإذا ما كانت أدبيات العلاقات المدنية العسكرية تسمح للقوات المسلحة بالقيام بمثل هذا الدور في عملية “بناء الدولة”، فإن هذا يتوقف على المقومات الحقيقية التي يمتلكها الجيش اللبناني وتسمح له بتولي مهام إعادة بناء الدولة اللبنانية، وهو ما سنحاول التحقق منه في هذا الجزء من الورقة.

  • مقومات قوة الجيش اللبناني.

ينظر اللبنانيون إلى الجيش اللبناني على أنه حامي الوطن والعين الساهرة على أمن المواطن، وتأتي هذه الصورة الإيجابية التي يحظى بها الجيش اللبناني نتيجة للدور الإيجابي الذي يقوم به الجيش في حماية أمن الدولة واستقرارها؛ وذلك لامتلاكه مجموعة من المقومات التي جعلته الحصن الأخير أمام انهيار الدولة اللبنانية، وتتمثل تلك المقومات في:

  1. اكتساب الثقة الشعبية.

يحظى الجيش اللبناني بمعدلات ثقة شعبية عالية؛ حيث أظهر “المؤشر العربي” لاستطلاعات الرأي العام، أن (84%) من اللبنانيين لديهم “ثقة كبيرة” في الجيش اللبناني، بينما تتراجع معدلات تلك الثقة على نحو كبير لدى بقية المؤسسات الأخرى؛ حيث حصلت قوات الأمن الداخلي (الشرطة) على (18 %)، بينما حصلت المؤسسة القضائية على (14 %)، في حين كانت معدلات الثقة في الحكومة والبرلمان (10 %) و(9%) على التوالي، وحصدت الأحزاب السياسية أقل معدلات ثقة بنسبة (5 %) فقط((المؤشر العربي 2017/2018م، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018م.)).

معدلات الثقة في مؤسسات الدولة اللبنانية

وإذا ما كان الجيش بحاجة إلى شغل مساحات جديدة لم يكن يشغلها في السابق، وتجاوز حدود أدواره المتعارف عليها؛ فإنه بحاجة أساسية لمعدلات الثقة تلك التي قد تعني “تفويضًا” ضمنيًا للجيش اللبناني بالقيام بما يمكن له القيام به من أجل إنقاذ الدولة من حالة الانهيار والفشل. ولقد أظهرت العديد من الأحداث، خاصة التظاهرات الشعبية التي تكررت خلال الأعوام الأخيرة، أن الجيش اللبناني يقف في صف المواطنين، ويدعم مطالبهم التي يعتبرها “محقّة”، بل ويحمي تجمعاتهم من الاعتداء عليها من قبل بعض الأطراف الرافضة لمطالب المحتجين؛ ولعل هذا التفاعل والتواصل المتكرر ما بين المواطنين المحتجين وبين قوات الجيش اللبناني المنتشرة في الشارع اللبناني، هو ما جعل مستويات الثقة في الجيش تصل لهذا المعدل المرتفع.

  1. الحفاظ على تماسك الجيش.

النموذج الخاص بلبنان كدولة متعددة الطوائف يضع أمام مختلف أجهزتها الرسمية، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، وفي القلب منها القوات المسلحة، مسؤولية التعبير عن هذا التنوع الطائفي بشكل متوازن، بما يحقق حياد تلك المؤسسات. وعلى الرغم من أن التجنيد لم يكن يستند إلى معايير طائفية علنية، إلا أنه منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية في العام 1920م وحتى اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975م، شكّل المسيحيون غالبية سلك الضباط، وسيطروا على صفوف الجيش؛ وقد تمّ تفسير ذلك بميل المسيحيين الموارنة إلى الارتباط أكثر بمؤسّسات الدولة اللبنانية. غير أن عدد الضباط الموارنة انخفض، بمرور الوقت، من متوسط ​​قدره 70 في المئة من الضباط قبل العام 1945م، إلى 65 في المئة بين عامي 1945م و1958م، و55 في المئة بين عامي 1958 و1975م((نايلة موسى، الولاءات وتشكيل الجماعات في سلك الضباط اللبنانيين، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فبراير ٢٠١٦م، ص 2.)).

كان الانخفاض التدريجي في نسبة الضباط المسيحيين في الجيش اللبناني جزئيًا نتيجة تحوّلات واسعة في المجتمع اللبناني؛ حيث خسر المسيحيون الأغلبية الديموغرافية. ويرجع الانخفاض جزئيًا أيضًا إلى تزايد عدد المسلمين الذين يتقدّمون للانضمام إلى المدرسة الحربية. وأدّت المحاولات العديدة لتحقيق توازن أكثر إنصافًا بين الطوائف عندما أعيد بناء الجيش خلال الحرب الأهلية (1975-1990م) (ولاسيما خلال منتصف ثمانينيات القرن الماضي) ومرة أخرى في أوائل التسعينيات، إلى مزيد من الانخفاض في عدد الضباط المسيحيين. وأدّى التخلّص من عددٍ من الضباط المسيحيين بعد هزيمة العماد ميشال عون في العام 1990م، وارتفاع عدد الضباط المسلمين، إلى حصول تكافؤ ديني في نهاية المطاف. كما أن استحداث حصة غير رسمية بواقع 50 في المئة من الطلبة المسيحيين مقابل 50 في المئة من الطلبة المسلمين للالتحاق بالمدرسة الحربية، بعد الحرب الأهلية، حافظ على هذا التوازن منذ ذلك الحين.

ويلخّص أورين باراك التحولات التاريخية التي حدثت في سلك الضباط خلال الستة عقود الماضية، حيث يصف الجيش اللبناني بأنه تحوّل من مؤسسة يهيمن عليها سكان جبل لبنان، بما في ذلك العائلات اللبنانية التقليدية؛ ليصبح الجيش اللبناني تدريجيًا مؤسسة عسكرية تجذب الناس من جميع مناطق البلاد، ولا سيما الأطراف؛ ومن مؤسسة يسيطر عليها سكان المدينة، ليصبح الجيش اللبناني يجتذب عددًا متزايدًا من القرويين؛ ومن مؤسسة يسيطر عليها بوضوح مسيحيو لبنان، ولا سيما الموارنة، أصبح الجيش اللبناني تدريجيًا أكثر توازنًا عرقيًا((Oren Barak, «Towards a Representative Military? The Transformation of the Lebanese Officer Corps Since 1945» Middle East Journal 60, no. 1 (Winter 2006): p. 88-89.)).

وتفسّر نايلة موسى سبب استمرار الحفاظ على تماسك الجيش اللبناني؛ حيث ترى أنه راجع إلى تداخل مختلف أنواع الانتماءات (الطائفية أو السياسية، أو الانتماءات المرتبطة بالأجيال)، وتقاطُع الروابط بين مجموعات الضباط، حيث لم تشعر أي مجموعة من مجموعات الضباط ـــ سواء أكانت مُحدَّدةً بالهوية الطائفية أو الولاء السياسي ـــ بالعزلة في القوات المسلحة اللبنانية منذ العام 2005م، وهو ما صان حتى الآن وحدة القوات المسلحة اللبنانية((المرجع السابق، ص 6.)).

  1. التعاون العسكريالمدني.

وفق قانون الدفاع الوطني (رقم 102 لعام 1983م وتعديلاته)، يقوم الجيش بثلاث مهمات: دفاعيّة، أمنيّة، وإنمائيّة. وفي حين أن المهام الدفاعية هي المهمة التقليدية للجيوش، وتقوم على الدفاع عن حدود الوطن ضد الاعتداءات الخارجية، فإن المهام الأمنية هي في الأصل مسؤولية قوات الأمن الداخلي (الشرطة)، وعادة ما يتم الاستعانة بالجيش في حال كانت التهديدات الأمنية تفوق قدرات قوات الشرطة، وبناء على قرار صادر عن مجلس الوزراء اللبناني في العام 1991م، تمّ تكليف الجيش بمهمة حفظ الأمن في الداخل إلى جانب القوى الأمنية الأخرى، وأبرز الأعمال الأمنية التي اضطلع بها الجيش؛ مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وحماية المظاهرات والتجمعات الشعبية، وتوفير المناخ الأمني السليم لإجراء الانتخابات النيابية والبلدية.

وبخصوص المهام الإنمائية، فلقد تميّز قانون الدفاع الوطني اللبناني بالنصّ على قيام الجيش اللبناني بأدوار تنموية، شملت؛ إنشاء مشاريع البنى التحتية من ماء وكهرباء، وشق الطرق في القرى والبلدات النائية، والمساهمة في إطفاء الحرائق وإدارة الكوارث الطبيعية، وتأهيل الأماكن الأثرية والسياحية، والقيام بحملات تلقيح للأطفال في الأماكن النائية، وتوزيع مساعدات مختلفة على المناطق الفقيرة أو المتضررة.

ومن أجل تنظيم تلك المهام الإنمائية أنشأ الجيش اللبناني “قسم التعاون العسكري-المدني” عام 2012م كقسم تابع لمديرية الاستعلام في أركان الجيش للعمليات، ثم طوّره إلى “مديرية التعاون العسكري-المدني” عام 2014م. وتمّ النصّ على أن تتولى الأقسام الإقليمية المختلفة التابعة للمديرية القيام بالمهام الآتية((الموقع الرسمي للجيش اللبناني)):

  • تحديد الحاجات الحياتية والإنمائية للمحيط المدني في المنطقة؛ وذلك من خلال التواصل والتنسيق مع الأجهزة الحكومية المعنية والسلطات المحلية (بلديات، هيئات أهلية، …) والمنظمات والهيئات المانحة واقتراح مجالات التعاون في هذا الإطار.
  • دراسة المحيط المدني الاجتماعي، الحياتي والإنمائي في المنطقة وتقييمه لتبيان مدى تأثيره على العمليات العسكرية في هذه المنطقة واقتراح المناسب.
  • اقتراح المشاريع الاجتماعية، الحياتية والإنمائية التي يمكن أن تسهّل للقوى المنتشرة عمليًا تخطيط وتنفيذ مهامها على ضوء دراسة المحيط المدني.
  • تخطيط وتنفيذ المشاريع الحياتية والإنمائية الموافق عليها ومتابعة نتائجها بالتنسيق مع الوحدات العسكرية المنتشرة عمليًا في المنطقة، ورفع تقارير بذلك.
  • التعاون والتنسيق مع القوى العسكرية الأجنبية الموجودة في المنطقة (تحت راية الأمم المتحدة) من أجل تحديد وتنفيذ مشاريع إنمائية وحياتية موافق عليها.
  • المشاركة في التخطيط مع الأجهزة الحكومية والسلطات المحلية والهيئات الأهلية لعمليات الطوارئ المدنية (كوارث طبيعية وغير طبيعية، أزمات، عمليات إرهابية، …) بهدف تفعيل استجابة سريعة لمواجهتها والتقليل من آثارها.

ويمكن النظر إلى مديرية التعاون العسكري-المدني في الجيش اللبناني باعتبارها الجهاز الذي يمكن من خلاله أن يضطلع الجيش اللبناني بمهام “إعادة بناء” الدولة اللبنانية بشكل خاص في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، اعتمادًا على الكفاءة الوظيفية للمديرية؛ بحيث تكفل الأقسام الإقليمية التابعة للمديرية في كل من الشمال، البقاع والجنوب اللبناني، إلى جانب النطاق الإقليمي لعمل المديرية، الوصول إلى كافة المناطق اللبنانية على النحو الذي يمكّنها من دراسة المحيط المدني الاجتماعي، الحياتي والإنمائي لمختلف المناطق.

ووفقًا للعقيد الركن إياد العلم، فلقد نفّذت مديرية التعاون العسكري-المدني خلال فترة عملها نحو 226 مشروعًا في مختلف المجالات، كما أن المديرية أصبحت شريكًا أساسيًا في ثلاثة برامج تنموية أساسية مع الدولة الهولندية والاتحاد الأوروبي وصندوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية((ندوة حول التعاون العسكري المدني وتحديات الأمن الاقتصادي، الموقع الرسمي للوكالة الوطنية للإعلام، التابعة لوزارة الإعلام اللبنانية، على الموقع الآتي: http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/552976/nna-leb.gov.lb/ar)). كما بدأ الجيش اللبناني خلال الفترة الأخيرة بتوسيع نطاق دوره التنموي، من خلال إدخال وظائف “منتجة”؛ منها ما أعلن عنه الجيش اللبناني مؤخرًا عن قيام القوات الجوية بتنظيم رحلات سياحية ترفيهية على متن مروحيات الجيش، من أجل زيادة القدرات المالية للجيش اللبناني.

  1. اكتساب الثقة والدعم الدولي.

بينما تلوّح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على بعض المسؤولين السياسيين في لبنان؛ وذلك لاعتبار هؤلاء المسؤولين هم السبب في الوضع المتردي الذي باتت عليه الدولة اللبنانية، إلا أنها في الوقت نفسه تعمل بشكل متسارع على التعاون مع الجيش اللبناني، وتوفير الدعم اللازم له، واستثنائه من أي عقوبات محتملة.

ففيما يتعلق بالجانب الأمريكي، فإن هدف الحفاظ على الجيش وقدراته هو على رأس الأولويات الأمريكية تجاه لبنان، ويُظهر هذا الموقف قيام مجموعة من البرلمانيين الأمريكيين بتوجيه رسالة إلى إدارة الرئيس جو بايدن لاتخاذ خطوات فورية تضمن توفير مزيد من المساعدات للجيش الذي هو شريك قديم للولايات المتحدة، ومؤسسة محترمة وضرورية للأمن في لبنان، وأن الحفاظ على مكانة الجيش اللبناني وفعاليته هو ضمانة مهمة للحفاظ على أمن إسرائيل، في مواجهة دور حزب الله وغيره من المليشيات الأخرى((ماريا معلوف، المساعدات الأمريكية والرهان على الجيش اللبناني، العين الإخبارية، 30 مايو 2021م: https://al-ain.com/article/american-betting-lebanese-army)).

وفي هذا السياق أعلنت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا أنه تمّ عقد مؤتمر أميركي لبناني في 21 مايو الماضي، بمشاركة كبار القادة من وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين والجيش اللبناني، وكان على رأس جدول الأعمال نقاش حول سبل دعم الجيش اللبناني اقتصاديًا، ووفقًا لدوروثي فإن الجيش اللبناني قد تسلّم مؤخرًا من الولايات المتحدة 95 حاوية ذخيرة تقدّر قيمتها بأكثر من 55 مليون دولار؛ بهدف تجهيز عمليات الجيش ومساعدته في أداء مهامه، كما أعلنت أن بلادها تعتزم وعبر وزارتي الخارجية والدفاع تقديم 120 مليون دولار للجيش في مجال التدريب والوسائل الدفاعية، إضافة إلى تقديم ثلاثة زوارق خفر سواحل للدوريات، و59 مليون دولار لدعم قدراته في حماية الحدود الشرقية وضبطها((سوسن مهنا، المجتمع الدولي يدعم الجيش اللبناني في ظل انهيار الدولة، Independent عربية، 16 يونيو 2021م، على الرابط الآتي: https://bityl.co/8GQe)).

أما فرنسا، باعتبارها الشريك الأبرز للدولة اللبنانية، فقد نظّمت في 17 يونيو الماضي مؤتمرًا دوليًا لدعم الجيش اللبناني بمشاركة 20 دولة، وكان قد صدر عن “وكالة الأنباء المركزية” أن الاتصالات التي أجراها مسؤولون فرنسيون وإيطاليون بعدد من الدول الغربية والعربية نجحت في تأمين نحو 75 مليون يورو، وأن عددًا من المسؤولين العرب، لا سيما من دول الخليج، سيشارك في مؤتمر باريس لدعم الجيش((المرجع السابق.)).

بجانب هذا الدعم الدولي الذي تحظى به المؤسسة العسكرية اللبنانية، فإن مديرية التعاون العسكري-المدني تعمل أيضًا على التعاون والتنسيق مع القوى العسكرية الأجنبية الموجودة في المنطقة تحت راية الأمم المتحدة على تحديد المشاريع وتنفيذها. وبدورها، تنسّق المديرية مع المنظمات والهيئات المانحة، العسكرية منها والمدنية الراغبة بتمويل المشاريع؛ وهو ما من شأنه أن يضاعف الفرص لنيل التمويل الخارجي عبر المديرية، نظرًا لصعوبة حصول الحكومة للدعم المالي الدولي في الوقت الحالي، نظرًا للموقف الدولي السلبي تجاه الحكومة اللبنانية.

  • عناصر ضعف الجيش اللبناني.

بجانب عناصر القوة السابقة، فإن الجيش اللبناني يعاني من العديد من مظاهر الضعف، التي قد تقف عائقًا أمام اقترابات توسّع الدور العسكري، والتي في أغلبها نتاج التطورات التاريخية المختلفة التي مرت بها الدولة اللبنانية، وما فرضته على المؤسسة العسكرية من واقع صعب، ومن أبرز ملامح هذا الواقع:

  1. الجيش ليس هو المحتكر الوحيد للقوة.

يُعد احتكار الدولة من خلال مؤسساتها الرسمية لممارسة العنف المشروع، من السمات الرئيسة للدولة القومية الحديثة، وبالتالي، يعتبر امتلاك قوى غير رسمية للسلاح، بمثابة تنازع لدور الأجهزة الأمنية في دورها، وقد يصل الأمر لحد المنافسة والصدام بين الأجهزة الأمنية الرسمية وبين الميليشيات غير الرسمية المسلحة داخل الدولة.

وبالنظر إلى الواقع اللبناني، فإنه وفي إطار التسوية السياسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، تمّ حلّ وتسريح مختلف الميليشيات المتحاربة ونزع سلاحها، باستثناء حزب الله الذي تمّ وصفه بأنه “قوة مقاومة” في مواجهة الوجود الإسرائيلي، وطوال فترة الوجود السوري في لبنان، حظي حزب الله بدعم سوري مطلق، بجانب الرعاية السياسية الكاملة من جانب الدولة الإيرانية((Aram Nerguizian, The Lebanese Armed Forces and Hezbollah: Military Dualism in Post-War Lebanon, Istituto per gli Studi di Politica Internaziona, 30 Oct. 2018: https://www.ispionline.it/it/pubblicazione/lebanese-armed-forces-and-hezbollah-military-dualism-post-war-lebanon-21519)).

وبغض النظر عن طبيعة العلاقة بين الجيش اللبناني وبين حزب الله؛ التي تمّ وصفها من قبل على أنها علاقات تحالفية أو بتقدير أقل تعاونية، فإن الشيء الأكيد هو أن وجود حزب كقوة عسكرية غير رسمية يتعارض مع المبدأ الجوهري للدولة القومية الخاص باحتكار القوة من خلال المؤسسات الأمنية الرسمية فقط. ولقد قادت العديد من الأحداث التي مرّت بها الدولة اللبنانية إلى تهميش وضع الجيش اللبناني لصالح قوة حزب الله، ولقد ظهر هذا بوضوح في حرب عام 2006م التي خاضها حزب الله منفردًا ضد إسرائيل، كما في أحداث مايو 2008م التي انتشرت فيها ميليشيا حزب الله في شوارع بيروت، في مواجهة داخلية هي الأخطر منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. وبينما يجلب الحديث عن نزع سلاح حزب الله العديد من التوتر الداخلي، فإن استمرار هذا الوضع يعزّز من حالة ضعف الجيش اللبناني الذي يتم تحجيم عمليات تسليحه من قبل القوى الدولية؛ للتخوف من أن تصل تلك الأسلحة ليد حزب الله.

  1. ضعف الفعالية العسكرية.

وفقًا لدراسة كل من حجاب شاه وميليسا دالتوان، فإن لبنان يفتقر إلى سياسة أو استراتيجية شاملة للأمن القومي؛ حيث إنه خارج إطار وزارة الدفاع، لا توجد هيئة مدنية لديها سلطة الرقابة والتخطيط على الأجهزة الأمنية في البلاد. وأن طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في لبنان تساهم في عدم وجود استراتيجية عسكرية متماسكة، حيث إن التفاعلات السياسية الطائفية تؤدي إلى عدم التوافق حول الأولويات الأمنية، كما أن الجيش اللبناني لا يستطيع التركيز على التخطيط الاستراتيجي عندما يتم تشتيت قدراته، من خلال القيام بمهام داخلية داخل لبنان. ووفقًا للدراسة فإن هذا الواقع لا يخلق فقط إشكالات في الجاهزية داخل الجيش اللبناني ويشتت تركيزه عن المهام الأساسية، ولكنه يمنع أيضًا الجيش من امتلاك القدرة على المساهمة في وضع سياسة عسكرية أو أمنية وطنية((حجاب شاه، ميليسا دالتون، ممارسة السياسة: المساعدات الدولية لقطاع الأمن ودور الجيش اللبناني المتغير، مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط، 7 سبتمبر 2020م: https://carnegie-mec.org/2020/09/07/ar-pub-82664)).

وعلى الرغم من أن الجيش اللبناني قد خطا خطوات كبيرة لتحسين أدائه العملياتي والتكتيكي ومهنيته، إلا أن قدرته المؤسساتية على إجراء التخطيط الإستراتيجي ضعيفة إلى حد ما؛ بسبب مزيج من نقص القدرات داخل الجيش ونقص التماسك والخبرة الفنية في مسائل الدفاع داخل الحكومة المدنية والفساد في الحكومة اللبنانية وتأثير الجهات الخارجية((المرجع السابق*)).

أما من الناحية التسليحية، فعقب الانسحاب السوري من لبنان، وفي ظل غياب صناعة دفاعيّة أو موازنة مخصّصة لشراء المعدات العسكرية، لم يجد الجيش أمامه خيارًا للتسلح سوى التعويل على الهبات الأجنبيّة((نديم حسباني، الجيش اللبناني: ضحية الطبقة السياسية، مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط، 7 أكتوبر 2010م: https://carnegie-mec.org/2010/10/07/ar-pub-4170)). وفي حين تُعدّ الولايات المتحدة الأمريكية هي الممول الرئيس للجيش اللبناني؛ حيث دعمت الولايات المتحدة الجيش اللبناني خلال الفترة من عام 2006م حتى 2020م بحوالي ملياري دولار((فرانسيسكو سلفادور، وجوزيف أ. كشيشيان، الخيارات الاستراتيجية التي تواجه الجيش اللبناني في القرن الحادي والعشرين، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، تقرير خاص، فبراير 2021م، ص 22.)). بجانب ما يحظى به الجيش اللبناني من دعم مادي من قبل فرنسا وغيرها من الدول الأوربية الأخرى، إلا أن واقع الأمر يكشف عن ضعف البنية التسليحية للجيش اللبناني في ظل تراجع بعض الدول عن دعمها، وأبرز مثال لذلك تراجع المملكة العربية السعودية عن وعدها بتقديم مساعدة قدرها 4مليارات دولار لدعم تسليح الجيش اللبناني؛ معللة ذلك بوجود نفوذ قوي لحزب الله داخل الجيش اللبناني. ونتيجة لذلك عادة ما يجد الجيش اللبناني نفسه في وضع صعب أثناء المهام القتالية التي يخوضها (معركة نهر البارد 2007م – التصدي للتنظيمات الإرهابية شمال لبنان 2017م) من حيث ضعف العتاد ونقص الذخيرة، وعدم وجود دعم جوّي فعّال((نديم حسباني، الجيش اللبناني: ضحية الطبقة السياسية، مرجع سابق.)).

  1. ضعف البنية التحتية للمؤسسة العسكرية.

ليست القدرات التسليحية فقط للجيش اللبناني التي في موضع ضعف، ولكن القدرات الاقتصادية للجيش اللبناني هي أيضًا في وضع صعب؛ فبينما تستهلك الأجور والمرتبات حوالي 80% من الموازنة العسكرية السنوية، فإن 20 % فقط من المبالغ المخصصة يتم الاستفادة منه في شراء التجهيزات والذخيرة وبعض المعدات العسكرية الأخرى((المرجع السابق**))، هذا بجانب ما تتعرض له الموازنة العسكرية من استقطاعات مستمرة أضرّت بشكل كبير بالوضع المادي للعسكريين. وبينما لا يوجد قانون يمنع صراحةً قيام المؤسسة العسكرية بنشاطات اقتصادية، ولكن النشاطات العسكرية الرسمية في هذا المجال نادرةٌ جدًّا.

بشكل عام، فإن مشاركة الجيش اللبناني في الأنشطة التجارية محدودة جدًا؛ فالجيش لا يمتلك سوى التعاونياتِ العسكرية، ونوادِي الضباط، وفندق وحيد وسط مدينة بيروت هو فندق “مونرو”. وعلى الرغم من قيام الجيش ببناء المساكن العسكرية، والاحتفاظ بالإيجار المتأتّي من هذه الممتلكات، إلا أنه لا يُشارك عمومًا سوى في حجم صغير من مشاريع البنية التحتية العامة، وحتى في هذه الحالة فإن غرضه غير تجاري على الإطلاق. أما بخصوص المساعدات الخارجية، فإنها عادةً ما تكون عينيّةً أو تُنفق في البلدان المانحة على المشتريات العسكرية. وفي كل الأحوال، فإن النشاطات التجارية والاقتصادية للجيش تخضع لنفس قوانين والتزامات النشاطات الاقتصادية المدنية، ويُمنعُ العسكريون والمدنيون العاملون في قطاع الدفاع من ممارسة النشاط الاقتصادي الخاصّ، كما لا يُشارِكُ الجيش في الاستغلال التجاري للمواردِ الطبيعية للدولة((مؤشر العلاقات العسكرية المدنية العربية “توازن” – لبنان، موقع توازن، على الرابط الآتي: http://tawazun.net/arabic/defence.php?country=Lebanon)).

رابعًا: الجيش في السلطة ومستقبل الدولة اللبنانية.

من خلال المقارنة بين مقومات القوة وعناصر الضعف التي يتسم بها الجيش اللبناني، يمكن القول إن الجيش اللبناني يمتلك رصيد قوة “معنوي” كبير، بينما يفتقر بشكل ملحوظ لمظاهر القوة “المادية”. ففي حين كانت معدلات الثقة الداخلية والخارجية في الجيش اللبناني مرتفعة، فإن القدرات العسكرية والاقتصادية وحتى الوظيفية للجيش اللبناني كشفت عن مستويات ضعف ملحوظ. وفي ظل هذا الواقع، الذي أصبحت المهام التقليدية التي اعتاد الجيش اللبناني على القيام بها تشكل عبئًا ضاغطًا على القدرات والإمكانات المحدودة المتوافرة له، فإن تجاوز حدود تلك الوظائف والمهام التقليدية، والقيام بأدوار إضافية، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي، يعني تحميل الجيش اللبناني فوق ما يحتمل، وتعريضه لاحتمالات “التفكك” التي تكررت أكثر من مرة طوال تاريخ الدولة اللبنانية.

وبالتالي؛ فإنه مع الحاجة الملحة لإنقاذ الدولة اللبنانية من الانهيار ومن ثم إعادة بنائها، فإن هناك ضرورة ملحة أيضًا لتدعيم بناء الجيش اللبناني وتقويته “ماديًا”، سواء من خلال تطوير مستوى تسليح الجيش، ورفع قدراته القتالية والعملياتية، أو من خلال إيجاد قطاعات إنتاجية تابعة للجيش اللبناني، تعمل على توفير تدفقات مالية إضافية تساهم في تحسين الأوضاع المعيشية للعسكريين، بجانب تطوير البنية التحتية للمؤسسة العسكرية، عبر تطوير وتحديث المنشآت العسكرية وتحديث وزيادة أعداد المعدات والأجهزة اللازمة للقطاعات العسكرية المختلفة، وانتهاءً بتعزيز مكانة الجيش اللبناني كمؤسسة “عابرة للطوائف”.

  • سيناريو مقترح: حكومة عسكرية انتقالية.

على الرغم من إدراك أن امتلاك الجيش اللبناني لقدرات عسكرية واقتصادية قوية، هو شرط ضروري لقيامه بتدخّل ناجح في عملية إعادة بناء الدولة اللبنانية، وهو الشرط غير المتوافر في الوقت الحالي، كما لا تدعم احتمالية تحققه الظروف اللبنانية الداخلية، إلا أنه في حال ما إذا اقتنعت بعض الأطراف الدولية أن تشكيل حكومة عسكرية انتقالية في لبنان، هو حل ممكن للأزمة اللبنانية المستعصية؛ فإنه في هذه الحالة قد يجد هذا السناريو طريقه للتحقق، من خلال تقديم الدعم الدولي اللازم للمؤسسة العسكرية للاضطلاع بهذا الدور.

ولقد أظهرت المؤتمرات الدولية الأخيرة التي تمّ تنظيمها من أجل دعم الجيش اللبناني، أن بعض أطراف المجتمع الدولي ربما أدركت أن الجيش اللبناني قد يكون هو رأس الحربة في عملية إعادة بناء الدولة اللبنانية، وبالتالي البدء بإنقاذ الجيش كخطوة البداية لإنقاذ الدولة اللبنانية.

ويمكن تصوّر أن يسلك هذا السيناريو المقترح مجموعة من المسارات المختلفة من أجل إعادة بناء الدولة سياسيًا واقتصاديًا، وذلك على النحو الآتي:
  1. مبادرة دولية: الخطوة الأولى من أجل تحقّق هذا السيناريو هو أن تتبنى بعض الأطراف الدولية مقترح تشكيل حكومة يرعاها الجيش اللبناني؛ تتولى إدارة الدولة لمرحلة انتقالية. ويُعدُّ الدعم الدولي هنا شرطًا ضروريًا لعدم امتلاك الجيش اللبناني قدرات ذاتية تؤهله للمبادرة بالقيام بهذا الدور. أما فيما يتعلق بالأطراف الدولية التي يمكن أن تلعب دورًا في هذا السناريو؛ فهي يمكن أن تنحصر في أربعة دول رئيسة هي: (الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة العربية السعودية، ومصر)، ففي حين تُعدُّ الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر داعم خارجي للجيش اللبناني، فإن فرنسا هي بطبيعتها الدولة الأكثر قربًا للبنان بحكم العلاقات الاستعمارية التاريخية. أمّا المملكة العربية السعودية، فقد كان لها تصور مشابه في السابق قائم على دعم الجيش اللبناني من أجل مواجهة النفوذ الإيراني في لبنان، إلا أن المملكة قد تراجعت عن هذا الدعم بسبب تشككها في استقلالية الجيش اللبناني، وفي إمكانية اختراقه من قبل حزب الله، لكنها قد تعاود دعمها إذا ما كان هناك ما يضمن لها أن عملية تسليح الجيش اللبناني وتقويته ستكون لصالح دولة لبنانية ذات سيادة مستقلة. ويأتي الدور المصري في هذا الطرح لأكثر من سبب، الأول هو ما يمكن أن يقدمه النموذج المصري بشأن “الدور التنموي للجيش”، بما يعزز من خبرة الجيش اللبناني في هذا الأمر، بجانب أهمية ما يمكن أن يقوم به الدور الإقليمي المصري في تحييد النفوذ الإيراني في لبنان، وأهمية ذلك لدعم السيادة اللبنانية.
  2. تعليق العمل باتفاق الطائف: عقب طرح المبادرة الدولية لتولي الجيش السلطة، فإن الخطوة الثانية المفترضة، هو أن يتمّ تعليق العمل باتفاق الطائف الذي تقوم عليه عملية تقاسم السلطة في لبنان، وبالتالي، لن يكون هناك شرعية لمبدأ “الرئاسات الثلاث” الذي تقوم عليه الدولة اللبنانية، ومن ثمّ يتمّ حلُّ مجلس النواب اللبناني، كما يتمّ تجميد منصب رئيس الجمهورية.
  3. تشكيل حكومة عسكرية: الخطوة الثالثة في هذا السيناريو، هو أن يقوم الجيش اللبناني بالإعلان عن تشكيل “حكومة كفاءات وطنية مستقلة” يترأسها قائد الجيش اللبناني بشكل مباشر، مع تعليق نظام “المحاصصة” الطائفي المعمول به في تشكيل الحكومات اللبنانية. وتتولى هذه الحكومة خلال مدة أربعة سنوات المهام التنفيذية، بجانب إعطائها صلاحية إصدار التشريعات والقوانين ذات الأهمية الطارئة. مع أهمية أن تضع تلك الحكومة على رأس أولوياتها إصلاح نظام الخدمة العامة، من خلال محاولة ضبط عملية تقديم الخدمات العامة، والتصدي لأوجه الفساد المنتشر داخل تلك القطاعات، الذي يستنزف موارد الدولة المحدودة.

ومن المهم الإشارة إلى أن تشكيل مثل تلك الحكومة العسكرية لا يعني إلغاء النموذج الديمقراطي الذي يتم تطبيقه في لبنان، القائم على “الديمقراطية التوافقية”، ولكن يعني تعليق هذا النموذج الذي يعاني بدوره من العديد من أوجه القصور، التي تجعله بحاجة للمراجعة والتدقيق؛ وذلك خلال الفترة الانتقالية التي يتم فيها إعادة بناء مؤسسات الدولة، ومن ثم الدعوة مرة أخرى لإجراء انتخابات برلمانية جديدة واستعادة جميع مظاهر الديمقراطية، وفقًا للضوابط والمتغيرات الجديدة التي يمكن إضافتها عليها. أما بخصوص احتمالية استبداد المؤسسة العسكرية بالسلطة وتمسكها بها عقب انتهاء الفترة الانتقالية، فإنه بجانب شراكة الأطراف الدولية للجيش اللبناني في مبادرة إعادة البناء، وما يمكن أن تسهم به في تحييد مثل هذا التوجه، فإن الجيش اللبناني نفسه، وطوال تاريخه، لم يخطط لأي محاولة انقلابية، كما لم يبد أي رغبة في تولي السلطة السياسية؛ وذلك لأسباب راجعة لخطورة القيام بهذا الأمر على تماسك الجيش نفسه.

  1. وضع خطة إنقاذ اقتصادي: إن الإنقاذ الاقتصادي هو الهدف الأهم لهذا السيناريو، حيث إن وجود الجيش على رأس مؤسسات الدولة اللبنانية، قد يساهم في تبني خطة إنقاذ مالي مدعومة من المؤسسات الدولية المانحة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تساعد على السيطرة على حالة الانهيار الاقتصادي المتدهورة، وتحاول معالجة بعض الاختلالات الاقتصادية، وعلى رأسها انهيار العملة الوطنية. هذا بجانب فتح الباب أمام استفادة قطاعات ومؤسسات الدولة المختلفة من الدعم الدولي المحظور على تلك المؤسسات في الوقت الحالي؛ نظرًا للمستويات المرتفعة من الفساد التي تطال الحكومة والنخب الحاكمة الحالية. كما أن الحصول على حزم دعم مالي من دول مساهمة أخرى، من بينها بلدان الخليج، مهم لضمان وجود تدفقات مالية مستمرة، لكنه في نفس الوقت يجب أن يدار من خلال لجنة مشتركة من الجيش اللبناني والبنك الدولي، بما يمنع استخدام تلك التدفقات المالية في تحقيق أهداف سياسية للدول الداعمة.
  2. إنشاء آلية للحوار الوطني: إن قبول الأطراف السياسية والمجتمعية المختلفة لتطبيق هذا السيناريو، الذي يعني إزاحتهم عن مناصبهم السياسية، يجب أن يصاحبه توفير منصة بديلة تستطيع من خلالها تلك الأطراف التعبير عن تصوراتها المختلفة، وتقديم مقترحاتها من أجل المساهمة في صياغة “عقد اجتماعي جديد”؛ فمن خلال إنشاء آلية للحوار الوطني الشامل، يمكن لمختلف الأطراف المشاركة في عملية النقد الذاتي للعقد الاجتماعي الذي أسسه اتفاق الطائف، والتوقف أمام مختلف الأسباب التي ساهمت في إفشال الدولة اللبنانية، والعمل على وضع حلول عملية لإزالة تلك الأسباب والمعوقات، على أن يكون هدف “دولة لبنانية قوية وفعّالة” هو المخرج الرئيس للعقد الاجتماعي الجديد الناتج عن هذا الحوار الوطني.

إن تنفيذ مثل هذا السيناريو سوف يخلق جملة من التحديات التي سيكون على رأسها التحدي الخاص بالتعامل مع الحساسيات الطائفية بشكل يحول دون انفجار المجتمع داخليًا، خاصة أن خسارة النخب السياسية الحالية مواقعها، سيترتب عليه خسارة الزبائنية المرتبطة بها لمنافعها. وثاني تلك التحديات هو التحدي الخاص بالقدرة على إنفاذ السياسات العامة الجديدة التي سيتم تبنيها، في حال تعارضت مع بعض المصالح القائمة للفئات والطوائف المختلفة، وفي ظل ضعف القدرات الأمنية على إنفاذ القانون بالقوة. أما التحدي الثالث المتوقع أمام السلطة السياسية للجيش فهو ناتج من القوى الديمقراطية التي قد تعارض مثل هذا الدور، وبالتالي سيكون الجيش في محل انتقاد وهجوم مستمر من قبل تلك القوى السياسية التي تتخوف من شبح الحكم العسكري ومخاطره. والتحدي الرابع المحتمل هو التحدي الشعبي المتمثّل في المطالب والاحتياجات والمظالم الشعبية المتراكمة دون تلبية طوال السنوات الماضية؛ حيث عادة ما يرتفع سقف التوقعات الشعبية مع بداية كل تغيير سياسي، مع انتظار الاستجابة بتحقيق بعض تلك المطالب ورفع بعض المظالم، في حال لم تحدث الاستجابة السريعة المتوقعة، فإن الاحتجاجات الشعبية والفئوية ستكون حاضرة بما يعرقل خطط الإنقاذ المحتملة.

ختامًا؛ وانطلاقًا من الانعكاسات القوية التي تتركها معادلة العلاقات العسكرية المدنية على طبيعة النظام السياسي وعلى عملية ممارسة السلطة بشكل عام، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فإن تجربة العلاقات العسكرية المدنية في لبنان تبدو تجربة فريدة تستحق اهتمامًا أكاديميًا أكبر، كما تستحق الاهتمام السياسي؛ من أجل الاستفادة من الفرص الممكنة التي يمكن أن تحققها المعادلة الحالية للتفاعل العسكري المدني في لبنان، خاصة وأن الجيش اللبناني يمتلك أحد العناصر غير المتوافرة في معظم جيوش المنطقة، وهي “الثقافة المدنية” التي تعتبر حجر الزاوية في بناء أنظمة سياسية ديمقراطية، لا تخشى من خطر الانقلابات العسكرية أو الحكم العسكري.


زر الذهاب إلى الأعلى