التحركات الأوروبية تجاه ليبيا: “الأهداف والنتائج”

اقرأ في هذا المقال
  • برهنت عدة مؤشرات في السنوات الماضية على الانقسام الأوروبي في الملف الليبي، بدايةً من اختلاف دعم القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي لأطراف النزاع في ليبيا، ثمّ تعارض مصالحها، نهايةً بآلية التحالفات مع اللاعبين الجدد روسيا وتركيا.

بهاء محمود

عقب تولى حكومة عبد الحميد دبيبة السلطة الجديدة في ليبيا، توالت الوفود الأوروبية معلنة الدعم لاستقرار ليبيا والتعاون مع حكومتها؛ في ظل ما تمثله الأزمة الليبية من تداعيات وأضرار على الأوروبيين، وما تعنيه من مصالح حيوية تتنافس عليها كبري الدول. وتختلف الأجندات الأوروبية طبقًا لتعارض وتنوّع المصالح والموقف من التحالفات مع أطراف الصراع المحليين والدوليين؛ المشهد الذى يجلب معه مقاربات جديدة، تزامنًا مع تولى إدارة جديدة في كلٍ من الولايات المتحدة وإيطاليا.

تحركاتٌ مبكرة

لم يمضِ وقت طويل منذ منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة دبيبة في 10 مارس 2021م، حتى شهدت ليبيا تحركات دبلوماسية من قِبل عدة دول أوروبية بالإضافة لتمثيل الاتحاد الأوروبي، البداية جاءت عبر زيارة وزراء خارجية دول: فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا يوم 25 مارس 2021م لليبيا، وعقد مؤتمر مشترك تمّ التأكيد فيه على دعم السلطة الانتقالية، وضرورة خروج المرتزقة، تزامن ذلك مع  تلقّي “محمد المنفي” رئيس المجلس الرئاسي دعوة من الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لزيارة باريس، ثم في 5 أبريل دون إعلان مسبق زار رئيس المجلس الأوروبي طرابلس، والتقي بكلٍ من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة، ووزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، وبعد أقل من يومين وتحديدًا في 7 أبريل قام رئيس وزراء اليونان وإيطاليا بزيارة مشتركة لطرابلس، ووفقًا لترتيب الزيارات بدا الاهتمام الأوروبي متدرّجًا على مستوى الدول منفردة ومؤسسات الاتحاد؛ ممّا يعكس النية على سرعة الانخراط في المشهد الجديد وفق خطوط اتصال متوازية لا تعارض بعضها، واتسمت الأجندات المعلنة للزيارات خلال شهري مارس وأبريل بوجود قضايا عامة تهم مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وأخري ترسم مصالح الدول على حدة؛ مثل ملفات الهجرة، والأمن، والتبادل التجاري، ودعم السلطة الجديدة شريطة خروج المرتزقة، ولم تتوقف التحركات الأوروبية عن الزيارات المتبادلة بل تعدّت لفتح السفارات؛ حيث أعيد فتح السفارة الفرنسية في 29 مارس، ثم السفارة اليونانية في 7 أبريل، مع إعادة فتح المجال الجوي بين اليونان وليبيا. ومن سياق الزيارات السابقة نجد ملاحظات على التحركات الأوروبية منها ما يأتي:

  1. توحيد الخطاب الأوروبي: جاء الخطاب الرسمي لقادة المؤسسات الاوروبية وتحديدًا المفوضية والمجلس الأوروبي، والخطابات المنفردة لزعماء الدول المنخرطة في الأزمة الليبية مثل فرنسا وإيطاليا على نهج واحد يدعم استقرار ليبيا وحكومتها الجديدة، داعيًا لخروج المقاتلين الأجانب، وهو ما ظهر في التصريحات الرسمية الآتية:
  • بيان وزراء خارجية “ألمانيا –فرنسا- إيطاليا” في طرابلس 25مارس 2021م الذي لخّص موقف الدول الثلاث من التأكيد على نهج أوروبي موحّد تجاه القضايا الرئيسية في  ليبيا وهى: (التعاون الاقتصادي -الأمن –الإرهاب –الهجرة)((نص البيان  المشترك متاح على موقع الخارجية الفرنسية على الرابط التالي:  https://cutt.us/JtxHc)).
  • في 6 أبريل 2021م زار ليبيا “ماريو دراجى”  و”كيرياكوس ميتوتاكس” رئيسا وزراء إيطاليا واليونان، ومع اختلاف أجندة كلٍ منهما إلا أن الثوابت المشتركة ظلّت واضحة؛ في حين حدّد الأول مخرجات اللقاء في “العمل على المشاريع المشتركة” و”البنية التحتية المدنية والطاقة والصحة” و”مكافحة الاتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط”، وركّز الثاني مجمل لقائه مع نظيره الليبي في عودة العلاقات اليونانية الليبية عبر التعاون في مجالات “الطاقة، والبناء، والنقل البحري، والصحة، والسياحة، والتعليم”. فيما قالت المتحدثة باسم الحكومة اليونانية أرسوتيليا بيلوني: “إن الحكومة اليونانية تدعو إلى خروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا”(( https://cutt.us/lP2PC جون فولين، بول توجريل، ميريت مجدي، “دراجي يختار ليبيا في الرحلة الأولي؛ باحثًا عن روابط أقوى”: )).
  1. تكثيف الزيارات وسرعتها يدل على البحث عن دور جديد للدول الأوروبية في ليبيا؛ أملًا في استعادة جزء من النفوذ المفقود لصالح كلٍ من تركيا وروسيا.
  1. في الوقت الذى زار أكبر مسؤول في إيطاليا واليونان ليبيا اكتفي ماكرون بإرسال وزير الخارجية، ودعا رئيس المجلس الانتقالي الليبي لزيارة باريس؛ ربما يمكن تعليل موقف الرئيس الفرنسي من زاويتين: الأولي هي  عدم رضا ماكرون على هذه الحكومة التي لم تأتِ بحليفه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والثانية الموقف المعلن من رئيس الحكومة الليبية بعدم التراجع عن الاتفاق الموقّع مع تركيا في نوفمبر2019م، والإشادة بالعلاقات التركية الليبية وأهميتها؛ ممّا جعل الرئيس الفرنسي يفضّل التعامل المباشر مع رئيس المجلس الانتقالي المنتمي لشرق ليبيا، والذى ربما يكون مفضّلًا لدى ماكرون عن دبيبة، فضلًا عن غموض مصير حفتر في المعادلة الليبية الحالية. من هنا تعتبر المقارنة دبلوماسيًا بين موقف فرنسا وتحركات (إيطاليا -اليونان) لصالح الثنائي الإيطالي اليوناني كأداء أكثر إيجابية؛ ممّا يعزّز موقفهما في الرأي العام مع الأخذ في الاعتبار الأوزان النسبية للدول الثلاث.

مصالح متعددة

برهنت عدة مؤشرات في السنوات الماضية على الانقسام الأوروبي في الملف الليبي، بدايةً من اختلاف  دعم القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي لأطراف النزاع في ليبيا، ثمّ تعارض مصالحها، نهايةً بآلية التحالفات مع اللاعبين الجدد روسيا وتركيا، ومع وجود حكومة موحّدة تجمع ما بين الشرق والغرب الليبي يعوّل عليها الإعداد لمستقبل ليبيا بدت المصالح الأوروبية تسير في نطاقين الأول متعلق بالنمط الجاري وخريطة المصالح الحالية لاسيما النفطية منها، والنطاق الثاني للمصالح الأوروبية يعوّل على ما بعد استقرار ليبيا وشكل العلاقات المستقبلية وخريطة النفوذ المحتملة، ويمكن إبراز أهم المصالح الأوروبية وفقًا للدول المتنافسة كما يأتي:

  1. فرنسا: مالت فرنسا لدعم المشير حفتر منذ عام 2014م، مع وجود تَبَنٍّ لمبادرات سياسية جمعت الأطراف الليبية؛ وعقب تولى حكومة دبيبة السلطة ومع افتراض استقرار نسبى يعوّل عليه في رسم خريطة المصالح الفرنسية، بدأت فرنسا تفكر في الأهداف المرجوّة سواء القديمة أو المرتبطة بالمرحلة المقبلة وهى:

البعد الأمني: ترتبط ليبيا بحدود جغرافية مع دول تقع تحت نفوذ فرنسا التاريخي في إفريقيا مثل تشاد والنيجر، وما تمثّله الدولتان ضمن مشروع فرنسا لمكافحة الإرهاب، والذي تشترك فيه خمس دول تسمى “G5”. الرابط هنا ليس جغرافيا المكان بقدر ما هو علاقة طردية بين استقرار ليبيا وتغذية الاضطرابات في تشاد والنيجر، والإمدادات العسكرية في مالي، وفي الوقت الحالي ثمّة هدوء نسبي في ليبيا على النقيض من التوتر والاضطرابات التي بلغت مداها بمقتل الرئيس التشادي “إدريس دبيبي” يوم 20 أبريل((تفاصيل الساعات الأخيرة قبل مقتل الرئيس التشادي إدريس دبيبي، تقرير على موقع سكاي نيوز عربية متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/lh5Kd))، وعلى الجانب الآخر مقتل 16 عسكريًا في غرب النيجر من قبل عناصر مسلحة تابعة لتنظيم  القاعدة((مقتل 16 عسكريًا وفقدان آخر في كمين في غرب النيجر، تقرير متاح على موقع فرانس 24: https://cutt.us/QIE5Z)) في  الثالث من شهر مايو الجاري. من هنا استقرار الأوضاع في ليبيا ربما يطمئن فرنسا للتفرغ لمواجهة الأحداث المتلاحقة في منطقة الساحل، والتي تمثّل حتى الآن معضلة أمنية لفرنسا ولمصالحها.

البعد الاقتصادي: لدى فرنسا مصالح وطموحات اقتصادية في ليبيا مبنية وفق اتجاهين، الأول مرتبط باستمرار تدفقات الغاز والنفط عبر شركة توتال ثاني أكبر الشركات العاملة في ليبيا بعد شركة إينى الإيطالية، حيث بلغت ورادت  فرنسا من ليبيا في 2019م ما قيمته 1.6 مليار دولار، منها حوالي 95% منتجات نفطية((بيان الواردات الفرنسية من ليبيا عام 2019 متاح على الرابط التالي: https://www.objectif-import-export.fr/en/international-marketplaces/country/libya/france-in-country-trade)). في حين بلغت نسبة الصادرات النفطية الليبية من إجمالي احتياجات فرنسا من عام 2015م وحتى 2019م:

 العام النسبة المئوية
20152.1
20161.5
20173.7
20184.7
20195.2
المصدر: https://www.insee.fr/fr/statistiques/2119697

فيما تمتلك شركة توتال الفرنسية حقوق تنقيب في حقول الجرف بنسبة 75%، وحقل الشرارة 30%، وحقل قاع مزروق 24%، و16% من حقل الواحة فضلًا عن امتلاك حصة من شركة الواحة بحوالي 16.33%. والاتجاه الثاني مرتبط بإعادة إعمار ليبيا، والتي تبلغ حوالي 200 مليار بحسب تقديرات البنك الدولي في 2016م ((William Danvers ،Bulding a New Foundation for Stability in Libya: https://cdn.americanprogress.org/wp-content/uploads/2016/03/08130747/030816_LibyaReport.pdf))، وترغب فرنسا في الحصول على نسبة في إعادة إعمار ليبيا تزيد من نفوذها في الدولة التي تمثّل لها بوابةً لحماية قواعدها العسكرية في غرب إفريقيا، وبالتالي تظل ليبيا وأمنها وخاصة حدودها الجنوبية مطلبًا استراتيجيًا لفرنسا بصرف النظر عمّن يتولى الحكم في طرابلس.

  1. إيطاليا: على النقيض من فرنسا التي تحالفت مع الشرق وتقاربت مع روسيا، ارتبطت إيطاليا أكثر بجماعة الإخوان المسلمين حليفة حكومة الوفاق السابقة التي تمّ تدعيمها من قبل تركيا؛ فليبيا بالنسبة لإيطاليا إرث استعماري وتاريخي ترى فيه عودتها مرة أخري كدولة استعمارية، وكلاعب دولي يمكنه المشاركة في إفريقيا عبر البوابة الليبية؛ وهو ما يتضح في الكتابات الإيطالية التي أكدت مؤخرًا عقب تولي ماريو دراجي الحكومة الإيطالية على الأولويات في إفريقيا والدول الأساسية، والتي في مقدمتها ليبيا، وإثيوبيا، والسودان. ومن واقع التدخّل الإيطالي في ليبيا وتحركاتها في الفترة الماضية يمكن عرض أهم المصالح الايطالية كما يأتي:

النفط والغاز: من عام 2010م وحتى 2018م حيث تراوحت صادرت ليبيا لإيطاليا من الغاز ما بين 9.4 مليار متر مكعب و4.4 مليار متر مكعب((لبيانات متاحة على الموقع الإحصائي:  https://www.statista.com/statistics/807120/volumes-of-natural-gas-imported-from-libya-to-italy/))، وفي عام 2019م حصلت إيطاليا على 8% من احتياجاتها النفطية من ليبيا؛ حيث بلغت  الكميات الواردة حوالي 5.7 مليار متر مكعب، لتأتى ليبيا بتلك الكميات في الترتيب الخامس بالنسبة لأعلي الدول تصديرًا للغاز لإيطاليا، وبالإضافة لما سبق تُعدّ شركة إينى الإيطالية الأولي في امتلاك عقود النفط والغاز في ليبيا بما يتعدى 40 %، فيما تتنافس مع شركة توتال الفرنسية التي تأتي في المرتبة الثانية خلفها، على امتياز منطقة “نالوت”((صراع المصالح في ليبيا إينى وتوتال كلمة السر في الخلافات الفرنسية الإيطالية، تقرير منشور على موقع مركز جنيف للدراسات السياسية والدبلوماسية متاح في الرابط التالي:https://www.centredegeneve.org/post/56754635768 )).

إحياء المشروعات القديمة: مع وجود تنافس دولي  قادم على العوائد من إعادة الإعمار في ليبيا، إلا أن إيطاليا لها طموح مستقل من وراء ذلك يتمثل في إعادة تفعيل معاهدة الصداقة الليبية الإيطالية الموقّعة عام 2008م بين رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني، والرئيس الليبي السابق معمر القذافي((نصوص المعاهدة متاحة على الرابط التالي: https://cutt.us/6Saan))، والتي من بين نصوصها استثمارٌ في البنية التحتية الليبية بقيمة 5 مليار يورو تعويضًا عن فترة الاستعمار الإيطالي؛ تطمح إيطاليا من ورائها لعدة مكاسب في مقدمتها “طريق السلام”((تصريحات وزير الخارجية الإيطالي دي مايو  في 22 أبريل 2021م:  https://libyareview.com/12184/di-maio-italy-to-construct-highway-connecting-tunisia-to-egypt-via-libya/))، وهو مشروع من المفترض أن يربط بين مصر وتونس عبر ليبيا، مسافةً تصل لحوالي 1700 كم، وتتولى تنفيذه المجموعة الإيطالية “Salini Impreglo”، وينقسم المشروع لأربعة أجزاء، الأول لمسافة 400 كيلومتر من منفذ السلوم المصري ومدينة المرج المصرية، بقيمة عقد 963 مليون يورو((Raul Redondo،Italy to implemnt coastal motorway progect in Libya construction in spring 2021: https://cutt.us/l6jkq))، فيما تمتد المرحلة الثانية من  منفذ رأس الجدير التونسي ثم إلى مصراتة شرق طرابلس، ومن شأن الطريق ربط مصالح إيطاليا كدولة صناعية بدول شمال إفريقيا، ومن ثم الدخول إلي بقية القارة وفقًا لترتيب أولوياتها، فضلًا عن خلق دور أكبر لها في المتوسط((كريم مزران، أليسا بافيا، إيطاليا وجدت طريقها إلي ليبيا، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/9jKWi)).

موضع قدم إفريقية: ثمّة مقاربة إيطالية محورها الأساسي البحر المتوسط تتخذ من ليبيا نقطة انطلاق نحو إفريقيا وخليج عدن؛ حيث تبدأ باستقرار وجودها في ليبيا الدولة المتوسطية الغنية بالنفط، ولديها حدود جغرافية مع التشاد والنيجر والسودان، وتنطلق من الأخيرة نحو إثيوبيا ومن ثمّ الصومال المطلّة على خليج عدن.

يعزز هذا التوجّه تحركات دبلوماسية إيطالية بفتح سفارات جديدة في كلٍ من” النيجر” و”بوركينافاسو” فضلًا عن التحضير لفتح سفارات أخري في مالي وغيرها من الدول. والجانب الآخر المكمّل هو الوجود العسكري المقرون بمكافحة الإرهاب والعمليات التي تقودها فرنسا في منطقة الساحل مع مجموعة “G5” وتشترك فيها إيطاليا((https://cutt.us/XedQ6 جوزيبي ميستريتا، أولويات إيطاليا في إفريقيا:   )).

الهجرة واللجوء: بحكم الحدود البحرية تتعرض إيطاليا، واليونان، وإسبانيا لموجات الهجرة غير الشرعية بصورة أكبر عن بقية الدول الأوروبية؛ فبالنسبة لإيطاليا الضرر يأتي من ليبيا كونها معبرًا لحركات التهريب والاتجار بالبشر القادمة من غرب إفريقيا، مرورًا بجنوب ليبيا نهايةً بعبور المتوسط ومنه للسواحل الإيطالية، وقد كثّفت الحكومات الإيطالية المتعاقبة جهودها الأمنية مع الجانب الليبي بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي؛ فمن مصلحة إيطاليا ثبات التنسيقات الأمنية مع ليبيا واستمرار التعاون في هذا الإطار بغض النظر عن السلطة الحاكمة.

  1. اليونان: تتطلع  اليونان في ظل  فرضية وجود توجّهات مختلفة للحكومة الليبية المؤقتة، أن تعيد صياغة العلاقات التي توتّرت على إثر الاتفاق الموقّع بين تركيا وليبيا في شقه المختص بترسيم الحدود البحرية، فمثلها كمثل بقية الدول الغربية والإقليمية تسعى اليونان أن يكون لها مساهمة في إعادة إعمار ليبيا، لكن الملف الأبرز لدى اليونان هو ثروات المتوسط لاسيما وأن اليونان رسمت حدودها البحرية مع مصر وكذلك مع إيطاليا، ويتبقى لها التفاهم مع ليبيا وتركيا.

لدى اليونان طموحات أن تصبح لاعبًا دوليًا عبر بوابة الغاز، من زاويتين الأولى عبر عقد تحالفات في الإقليم مع الدول المتشاطئة في المتوسط، وهو ما تمّ ترجمته في منتدى المتوسط، والزاوية الثانية عبر مشروع “إيست ميد” الذى تشترك فيه مع قبرص وإسرائيل، والذي من شأنه توصيل الغاز لأوروبا، بالآتي ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا مع تعزيز العلاقات معها خطوة حيوية في سبيل تحقيق اليونان لأهدافها.

  1. ألمانيا: رُوّجت على اعتبار أنها وسيطٌ دوليٌ نزيه في الملف الليبي عبر استضافتها مبادرات تجمّع الأطراف الفاعلة، بجوار العمل مع الاتحاد الأوروبي في عمليات منع تصدير الأسلحة إلي ليبيا ومراقبة الحدود، وفي عام 2020م عُقد مؤتمران تمّ تناول الأزمة الليبية فيهما؛ الأول مؤتمر برلين في شهر يناير، والثاني مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي الذى يعقد في فبراير، ورغم اهتمام ألمانيا الظاهر بهذا الملف ألا أنها بحسب تقرير صادر من وزارة الاقتصاد الألمانية -نشر جزءًا منه موقع دوشتة فيلة الألمانى((ألمانيا تواصل تصدير الأسلحة لدول متورطة في النزاع الليبي، تقرير منشور بتاريخ 17 مايو 2020م متاح على الرابط التالي:https://cutt.us/dgb4J ))- قد صدّرت ألمانيا للأطراف المشتركة في الصراع الليبي في الفترة ما بين يناير ومايو من عام 2020م أسلحة قيمتها 330 مليون يورو، وهو ما يعنى أنه في الوقت التي تدّعي أنها وسيط نزيه محايد كانت تزيد من اشتعال الأزمة عبر تصدير الأسلحة، رغم أنها أيضًا مشتركة في عملية ضمن مهام الاتحاد الأوروبي لمراقبة ومنع دخول الأسلحة إلي ليبيا، ومن هنا يمكن اعتبار أن من مصلحة ألمانيا استمرار الصراع العسكري في ليبيا؛ كونها مستفيدة من ذلك الوضع، وليست دولة محورية في صراع المتوسط، وليس لديها شركات نفط بحجم إينى وتوتال.

الموقف من القوى الفاعلة

مع تغيّر الإدارة الأمريكية بتولي بايدن بدأ هناك ترقب لموقفه تجاه الأزمة الليبية، فمن جانبٍ قدّم خطاب بايدن تقاربًا مع الأوروبيين؛ ممّا أعطى احتمالية بوجود تنسيقات ربما تقلل من الانقسام الأوروبي أو تدفع بوجود موقف أوروبي أمريكي مشترك، ومن جانب آخر كانت الإدارة الأمريكية السابقة أقرب لدعم حكومة الوفاق السابقة؛ والتي كانت تتحالف مع كلٍ من تركيا، وإيطاليا، في مواجهة الوجود الروسي، وبالتالي المرجّح  أن تستمر إدارة بايدن في نفس الجبهة؛ طالما ظلت روسيا على موقفها، من هنا ومع الأخذ بالحسبان تغيّر القيادة الإيطالية إلي أخرى جديدة داعمة للاتحاد الأوروبي، يتضح أنه ثمّة مواقف ربما سوف تتغير طبقًا لتغيرات المشهد سواء داخل ليبيا أو خارجها، ويمكن رؤية موقف الدول الأوروبية المنخرطة من الأطراف الفاعلة كما يأتي:

1. الموقف من إدارة بايدن: ظل الانقسام الأوروبي في عهد ترامب مرهونًا بتجاذبات المصالح ما بين التقارب التركي الإيطالي، والتوتر الفرنسي مع كلٍ من  الولايات المتحدة وتركيا، لاسيما في ظل تفاهمات تمّت بين الأخيرتين، في الوقت الراهن ورغم تولي إدارة جديدة في إيطاليا موالية للتكامل الأوروبي، وكان من المفترض أن تتحد الرؤية الأوروبية تجاه الملف الليبي، إلّا أنه ثمّة مؤشرات على ثبات الانقسام نتيجة تعارض المصالح؛ يتضح ذلك أولًا من كون دعم بايدن أقرب أن يوجّه للمحور التركي الإيطالي المتقارب بالفعل منذ فترة ترامب. ثانيًا أن رغبة المصالح الفرنسية من البقاء في ليبيا وتأمين نفوذها في غرب إفريقيا تواجه تنافسًا تركيًا يستخدم أيضًا ليبيا للعبور لإفريقيا، وبالتالي فمن الصعب على الإدارة الأمريكية توفيق تعارض المصالح بين إيطاليا وفرنسا من جانب، واليونان وتركيا من جانب آخر؛ ممّا يعني اختيار فريق على حساب الآخر، وربما اختيار المحور الإيطالي الأقرب لعدة أسباب منها دعم فرنسا لحفتر الذي ربما لا يلقى قبولًا عند بايدن، كذلك في الوقت الذى استخدم ترامب تركيا لوقف النفوذ الروسي((James Jay،Stefano Graziosi،Amerca and Italy must lead supporting libyan renaissance:https://www.heritage.org/middle-east/commentary/america-and-italy-must-lead-supporting-libyan-renaissance))، سوف تفعل إدارة بايدن نفس الأمر لا سيما والعلاقات بين روسيا وإيطاليا في الفترة الماضية ليست قوية. أما اليونان فربما ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا ليس أمرًا يحتاج لتدخّل أمريكي أو اتخاذ اليونان موقفًا سلبيًا منها.

2. تعارض المصالح مع تركيا: عند بداية تولي عبد الحميد دبيبة رئاسة الوزراء في ليبيا تمّ التأكيد على نقطتين الأولي أن تركيا وليبيا ملتزمتان باتفاق 2019م((مرجع سابق.))، الذي عقده فائز السرّاج وجرى على أساسه ترسيم الحدود البحرية، ومكّن تركيا من الدخول بقواتها الساحة الليبية لتغيّر من خريطة القوى الفاعلة. النقطة الثانية هي مكانة تركيا من الحكومة الحالية خاصة ودبيبة ينتمى لمصراتة مركز وجود النفوذ الإيطالي.

لتركيا ثلاثة أهداف رئيسة من وجودها في ليبيا، تتعارض مع دول فرنسا، وإيطاليا، واليونان كلٌ على حدة في ملف منفرد؛ البداية من التمركز في البحر المتوسط للسيطرة على حركة اللاجئين والهجرة غير الشرعية؛ بغية إمساك ورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي مثلها مثل ما يحدث عن بحر إيجة مع اليونان، الفارق هنا أن المتضرر المباشر هي إيطاليا بحكم حدودها البحرية في المتوسط. والهدف الثاني لتركيا هو التنقيب عن ثروات المتوسط؛ حتى تصبح لاعبًا مؤثرًا في الطاقة في الوقت الذى ترفض اليونان الاتفاق بين تركيا وليبيا كونه يؤثر على مصالحها الاقتصادية في التنقيب على الغاز والنفط، لاسيما في ظل عدم ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وليبيا. وتطمح تركيا أيضًا لإيقاف مشروع “إيست ميد” أو الشراكة فيه، وهو ما ترفضه اليونان على إثر توتر العلاقات بينهما وتعارض المصالح واستمرار تركيا التنقيب في البحر المتوسط في المناطق المتنازع عليها دون اللجوء لترسيم الحدود البحرية والعمل على تقاسم الثروات. أمّا الهدف الثالث لتركيا فيتمثّل في توظيف بقائها في ليبيا لتعزيز وجودها في غرب إفريقيا وفي القارة الإفريقية عمومًا، وهى تعمل على ذلك من قبل الأزمة الليبية عبر أدوات دبلوماسية بعد زيادة عدد سفاراتها في إفريقيا من 12 سفارة عام 2002م إلى 42 سفارة عام 2021م، وارتفاع عدد مجالس التعاون التجاري من 6 إلي 46 منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2003م وحتى الآن، كما مزجت بين البعد العسكري والتجاري؛ حيث وقعّت صفقةً للتنقيب عن المعادن في حقول بغرب النيجر في يناير 2020م بجوار اتفاقية للتدريب العسكري مع الحكومة النيجرية، فضلًا عن افتتاح قاعدة عسكرية في الصومال عام 2017م((ميرفت عوف، الحرب التركية الفرنسية .. لماذا يخشى الفرنسيون الأتراك في غرب إفريقيا؟: https://cutt.us/r2U36)).

من هنا تتعارض مصالح تركيا في غرب إفريقيا مع نفوذ فرنسا وقواعدها العسكرية وخاصة تلك الموجودة في النيجر، ولذلك فموضع قدمٍ لكلٍ من فرنسا وتركيا في ليبيا يُعدُّ أمرًا ضروريًا لحماية مصالحهما في غرب إفريقيا، وهو ما يجعل التنافس بين الدولتين يشتد في ليبيا وينتقل منها إلي غرب إفريقيا أيضًا.

3. مصالح روسيا: لم يكن لروسيا في المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي سوى البقاء في سوريا، حتى جاءت فرصة الانخراط في الصراع الليبي، والرابط بين سوريا وليبيا بجانب التنافس والوجود التركي، هو التموضع في البحر المتوسط؛ ويأتي ذلك عبر سعى روسيا للسيطرة على مينائي طبرق ودرنة في شرق ليبيا مع ربطهما بالقاعدة الروسية في طرطوس السورية((د. أحمد بن ضيف الله القرني، النفوذ التركي في الأزمة الليبية التداعيات السياسية والأمنية: https://cutt.us/HZhWx))، وهو ما يمهد لروسيا الضغط على الاتحاد الاوروبي ومصالحه في المتوسط. من جانب آخر روسيا لاعب مهم في مسارات الطاقة العالمية، وحتى تضمن استمرار بقائها في المقدمة عملت على وجودها عبر شركاتها النفطية في دول المتوسط فهي موجودة في ليبيا، والعراق، ومصر وغيرها.

وبالنسبة للمشهد الليبي وقعّت شركة روسنفت الروسية مع الشركة الوطنية الليبية للنفط اتفاقية عام 2017م لشراء النفط الليبي وفتح مجالات للتعاون، بفرض أن روسنفت وسّعت نشاطها في ليبيا ورغم تصدّر الشركات الأوروبية عقود الامتياز في ليبيا، إلا أن ذلك يخلق مجالًا تنافسيًا ربما يؤثر بالسلب على شركتي توتال وإينى الأوروبيتين وحصصهما المستقبلية. وهناك تهديدٌ آخر يمكن لروسيا خلقه للأوروبيين عبر إنشائها قواعد عسكرية في ليبيا يتمثل في تركيب أنظمة دفاع جوي في سرت يمكنها استهداف الطائرات لمدى يصل لقاعدة صقلية التابعة لحلف الناتو. وحمايةً لمصالحها في ليبيا والبحر المتوسط اتجهت أنظار روسيا لإقامة قاعدة عسكرية في السودان، والتي ترتبط معها بعلاقات جيدة من قبل إزاحة البشير، وحافظت على استمرار نفوذها بعد تولي السلطة الجديدة؛ فالسودان تحديدًا مطمع لإيطاليا الموجودة في ليبيا وتمهد عن طريقها لغرب إفريقيا، وبالتالي التنافس الإيطالي الروسي سوف ينطلق أيضًا من ليبيا إلى السودان في ظل تقارب الأهداف مع اختلاف التحالفات المرتقبة والحالية في المنطقة.

الداخل الليبي والسيناريوهات المحتملة:

رغم مشاركة الأوروبيين البيانات المؤيدة للحكومة الانتقالية في ليبيا، وتولي حكومة إيطالية جديدة لديها خطاب تصالحي مع فرنسا وراغبة في التماسك الأوروبي إلا أن تعارض المصالح بين الأوروبيين، وخاصة بين فرنسا وإيطاليا من جانب، وبين إيطاليا واليونان من جانب آخر يجعل المشهد الليبي أكثر تعقيدًا؛ فبدايةً الحكومة الليبية أجرت عددًا من المباحثات مع الأطراف المنخرطة في الصراع الليبي، لتبدو منفتحة على الجميع بحسب مصالحها المرتبطة مع كل طرف على حدة، في الوقت الذى تبدو  فيه خريطة التحالفات القديمة ظاهريًا كما هي؛ فبقاء تركيا في شرق المتوسط دون ترسيم الحدود، بين اليونان وليبيا من جانب وبين اليونان وتركيا من جانب آخر، يعنى استمرار الصراع بينهم وحرص كل طرف على تأمين المصالح النفطية سواء في ليبيا أو في المناطق المتنازع عليها بين تركيا واليونان. أمّا عن فرنسا فأمامها معضلتان الأولى صعوبة التوافق مع إيطاليا وقبولها الاستمرار في كونها الشريك النفطي الثاني، وربما تتراجع حال اكتشاف تركيا حقول نفطية في ليبيا، والمعضلة الثانية التحالف مع روسيا يعنى توترًا مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبالتالي ليس من مصلحة فرنسا ولا اليونان بقاء تركيا في المشهد. أمّا عن إيطاليا فلديها مساران: الأول قصير الأجل عبر توافق مع المحور التركي الأمريكي بما يؤمّن لها مصالحها الحالية، والمسار الثاني طويل الأجل مرهون بتعارض المصالح التركية الإيطالية، في ملفّي (النفط \الغاز) والتنافس على النفوذ الإفريقي.

إن تشابكية المصالح بين الأطراف الأوروبية والثلاثي (الولايات المتحدة الامريكية– روسيا– تركيا)، تطرح معها عددًا من السيناريوهات المحتملة منها:

السيناريو الأول: يتمثّل في تقاسم النفوذ والمصالح بين جميع الأطراف عبر اتفاقيات تحفظ لكل طرف مصالحه في ليبيا؛ وهو ما يعني وجود تفاهمات أمريكية روسية على خروج المقاتلين الأجانب، ومواصلة عملية التحوّل السياسي في ليبيا مع ضبط المخرجات التي تحقّق مصالح الجميع.

السيناريو الثاني: بقاء الوضع كما هو عليه من تنافسٍ يعيق عمل الحكومة الموحّدة، ويؤجل الانتخابات في ديسمبر القادم؛ نتيجةً لعدم خروج المقاتلين الأجانب، وعدم وجود تفاهمات بين الأطراف الدولية والإقليمية.

السيناريو الثالث:  اشتعال الأزمة مرة أخري، والعودة لإطلاق النار؛ وما يطرح هذا السيناريو هو غموض موقف حفتر في العملية السياسية حتى الآن، وعدم توحيد المؤسسة العسكرية الليبية؛ فمازالت هناك قوات في الشرق وأخرى في الغرب، بالإضافة لذلك، فإنه حتى الآن لم يتم طرح خريطة واضحة أو مزمَّنة لخروج المقاتلين الأجانب من ليبيا؛ ممّا يعنى أن الاحتياج لهم ما يزال قائمًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى