حرب “غزة” 2021.. كيف تم جر إسرائيل إلى هزيمة استراتيجية؟!

اقرأ في هذا المقال
  • لخص نتيجة هذه الحرب الباحث دونيل هارتمان رئيس معهد شالوم هارتمان في القدس، فقال: "بغض النظر عن عدد أميال أنفاق حماس التي دمرتها إسرائيل، وعدد سنوات الردع التي اكتسبتها قبل أن تطلق حماس النار مرة أخرى على المدن الإسرائيلية، هناك شيء واحد واضح: لقد خسرت إسرائيل الحرب، وانتصرت حماس" .


     في حرب الرصاص المصبوب 2008-2009، كتب أنتوني كوردسمان – الخبير العسكري الأمريكي وأستاذ كرسي الاستراتيجية الدولية – مقالا مهما عنوانه: “حرب غزة: مكاسب تكتيكية، هزيمة استراتيجية ؟”، قال فيه: “هل تخبطت إسرائيل بطريقة ما في حرب متصاعدة بشكل مطرد دون هدف استراتيجي واضح، أو هدف واحد على الأقل يمكنها تحقيقه بمصداقية؟ هل ستنتهي إسرائيل في تمكين العدو من الناحية السياسية الذي هزمته من الناحية التكتيكية؟ وهل تصرفات إسرائيل ستضر بشكل خطير بالموقف الأمريكي في المنطقة، وأي أمل في السلام، وكذلك الأنظمة والأصوات العربية المعتدلة في العملية ؟ للتوضيح، يبدو أن الإجابة حتى الآن هي نعم. لإعادة صياغة تعليق حول إدارة الحكومة البريطانية للجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، يبدو أن الحمير تقود الأسود”((Anthony H. Cordesman, War in Gaza Tactical gains, strategic defeat ?, center for strategic & international studies, 9/1/2009.)).

        وإلى الآن، يبدو أن الحمير هي التي تدير حروب إسرائيل، فهم أفضل الموجود لديها حاليا أو مستقبلا. وما قاله كوردسمان منذ تسع سنوات في حرب الرصاص المصبوب تكرر في حرب حراس الأسوار بنفس الصورة والسيناريو والنتائج. لذلك، وبالرغم من الخلل الشديد في موازين القوى، فقد استطاعت حماس – في حرب حراس الأسوار أو سيف القدس – أن تُلحق بإسرائيل هزيمة استراتيجية ثقيلة باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، جعلها دورون ماتزا – الباحث بمركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية – عنوانا لدراسة له: “عملية حارس الأسوار: نصر تكتيكي، هزيمة استراتيجية”((Dr. Doron Matza, Operation Guardian of the Walls: Tactical Victory,

Strategic Defeat, BESA Center Perspectives Paper No. 2048, 25/5/2021.)). وقد لخص نتيجة هذه الحرب الباحث دونيل هارتمان رئيس معهد شالوم هارتمان في القدس، فقال: “بغض النظر عن عدد أميال أنفاق حماس التي دمرتها إسرائيل، وعدد سنوات الردع التي اكتسبتها قبل أن تطلق حماس النار مرة أخرى على المدن الإسرائيلية، هناك شيء واحد واضح: لقد خسرت إسرائيل الحرب، وانتصرت حماس”((Donniel Hartman, Why Israel lost this war, Times of Israel, 19/5/2021.)).

       نعم، كان الثمن المدفوع فلسطينيا في هذه الحرب أكبر بكثير من الثمن الذي دفعته إسرائيل، إذ قُتل 232 فلسطينيًا، وشُرد 60 ألفًا، وتعرضت البنية التحتية الفلسطينية لأضرار جسيمة. وعلى الجانب الإسرائيلي، قُتل 12 شخصًا، وكانت الأضرار المادية متواضعة((Ofira Seliktar and Farhad Rezaei, Can Hamas, an Iranian Proxy, Be Deterred?, BESA Center Perspectives Paper No. 2058, 31/5/2021.))،  إلا أن هذا الثمن أقل بكثير مما دفعته غزة من قبل في الحروب السابقة، فحرب الجرف الصامد 2014، على سبيل المثال، كانت كما تقول منظمة بيتسليم الحقوقية الإسرائيلية: الحرب الأكثر دموية والأكثر تدميرا وأعمالا عدائية وإلحاقا للأذى بالفلسطينيين منذ عام 1967. استمرت الحرب 50 يوما بما في ذلك غارات جوية ثم توغل بري. قتلت إسرائيل فيها 2202 فلسطينيا، 63% منهم لم يشاركوا في القتال. وتشير التقديرات إلى أن 18 ألف منزل دُمرت أو لحقت بها أضرار جسيمة، وأكثر من مائة ألف فلسطيني أصبحوا بلا مأوى((B’Tselem, Whitewash Protocol: The So-Called Investigation of Operation Protective Edge, September 2016, p:2.)).  

       في هذه الورقة، سنتناول – من خلال ما كتبه الإسرائيليون أنفسهم في صحفهم ومراكز أبحاثهم – التقييم الاستراتيجي والسياسي لحرب حراس الأسوار بما يعطينا صورة واضحة عن مدى الإنجاز الكبير الذي حققته المقاومة، ومدى الأزمة التي يعيش فيها الكيان الصهيوني اليوم وعجزه الواضح أمام المقاومة على الرغم من التفاوت الشديد بينهما في موازين القوى.

       وإذا أردنا أن نجمل تقييم الإسرائيليين للحرب، فإن إسرائيل قد حققت نصرا تكتيكيا، لكنها مُنيت بهزيمة استراتيجية ثقيلة. وسيكون التقييم من خلال المحاور التالية:

  • استراتيجية إسرائيل في إدارة الحرب.
  • حصاد حرب “حراس الأسوار”.
  • مقدمات وأسباب هزيمة إسرائيل الاستراتيجية.
  • فشل مدو وإخفاقات متعددة.
  • خلاصة الحرب وما بعدها من وجهة نظر إسرائيلية.
  • استنتاجات وتوصيات.

أولا: استراتيجية إسرائيل في إدارة الحرب

       في دراسة لمعهد واشنطن لدراسة الشرق الأدنى عن التقييم العسكري للحرب، جاء فيها: وفقاً لمعظم المقاييس، كانت جولة التصعيد الأخيرة هي الأسوأ منذ عام 2014. لقد سعت إسرائيل بشدّة إلى إضعاف القدرات العسكرية لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين من أجل: استعادة الردع طويل الأمد، ولكي يخيّم الهدوء النسبي على حدودها الجنوبية. ولتحقيق هذه الأهداف، استخدمت عملية حراس الأسوار التي نفّذها الجيش الإسرائيلي نهجاً أكثر عدوانية مقارنةً بجولات القتال السابقة. وأدخلت إسرائيل تكتيكات ومفاهيم عملياتية جديدة، وفقاً لخطة وضعها القائد السابق لـلقيادة الجنوبية، الميجور جنرال هيرزي هاليفي. كما طُبقت الخطة الجديدة لأي صراع في غزة، والتي هي أحد مكوّنات عقيدة النصر للجيش الإسرائيلي التي وضعها مؤخراً أفيف كوخافي رئيس هيئة الأركان: استخدام قوة نيران جماعية من خلال التنسيق بين القوات المشتركة، والقيام بذلك بشكل أسرع وبذكاء أكثر تحديداً ممّا سبق رؤيته. كلّ ذلك بغية قهر العدو واستعادة الردع على المدى الطويل بسرعة((غرانت روملي و نيري زيلبر، تقييم عسكري للصراع بين إسرائيل وحماس، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، المرصد السياسي 3489، 25/5/2021.))، وتطبيقا لذلك، كان أهم وسائل إسرائيل في إدارة هذه الحرب ما يلي:

  1. الاستخدام المفرط والمكثف للقوة العسكرية:

       في دراسة للباحث في الشئون العسكرية سيباستيان روبلين جاء فيها: كان القاتل الرئيسي في هذه الحرب هو القوة الجوية الإسرائيلية وخصوصا طائرات إف 16 وإف 35 الشبح. نفذت القوات الجوية للجيش الإسرائيلي ما مجموعه 1500 غارة خلال عملية حراس الأسوار، والتي قفزت في ذروتها إلى 160 طلعة جوية في عملية واحدة. وتم استخدام قنابل زنة 2000 رطل لتدمير الأبراج في غزة، وقنابل زنة 500 رطل موجهة بالليزر، وقنابل فراغية لتدمير الأنفاق. وسمحت إدارة بايدن أثناء الحرب ببيع إسرائيل قنابل زنة 2000 رطل بمبلغ 735 مليون دولار لإعادة تعبئة مخزونها منها((Sebastien Roblin, Israel’s Bombardment Of Gaza: Methods, Weapons And Impact, Forbes, 26/5/2021.)).

       وفي دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب قارنت فيها كثافة النيران المستخدمة من الطرفين في هذه الحرب، جاء فيها: استخدمت إسرائيل في هذه الحرب التي استمرت أحد عشر يوما نفس كمية القوة النارية التي استخدمتها في عملية الجرف الصامد التي استمرت خمسين يوما. وهذا يعني أن كثافة القصف في عملية حراس الأسوار كانت أكبر بخمس مرات مما كانت عليه في عملية الجرف الصامد. قابلت المقاومة ذلك بـ:

  • إطلاق كثيف للصواريخ والقذائف بلغ 4360 صاروخا وقذيفة هاون، وهو عدد يساوي ما أطلق في حملة الجرف الصامد.
  • توسيع منطقة الخطر داخل إسرائيل إلى 80 كيلومترًا من قطاع غزة، مقارنة بـ 40 كيلومترًا فقط في عملية الجرف الصامد، مما أدى إلى تأثر المزيد من النشاط الاقتصادي، لا سيما أن هذا المدى الموسع شمل المنطقة الوسطى حول تل أبيب حيث تتركز نسبة كبيرة من الاقتصاد الإسرائيلي((Manuel Trajtenberg and Tomer Fadlon, Economic costs of wall guarding, INSS Insight No. 1485, 13/6/2021.)).
  • نظام الدفاع الصاروخي: القبة الحديدية:

       اعتمدت إسرائيل على القبة الحديدية في حماية نفسها من السلاح الرئيسي للمقاومة: الصواريخ، بل وحتى حماية نفسها من الطائرات والغواصات المسيرة، يقول الكاتب الإسرائيلي أنشيل بفيفر: لقد تم اعتراض أكثر من 90% من الصواريخ بواسطة القبة الحديدية. عندما تم تأسيسها لأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان، كان هناك المتشككون فيها، سواء في إسرائيل أو في الخارج، ولكن مع مرور الوقت، شهدوا والعالم نجاحها حرفيا. إنها نظام تم تصميمه لمواجهة التحدي الذي تواجهه إسرائيل من المنظمات الموجودة على حدودها مثل حماس في غزة وحزب الله في لبنان، وهي منظمات لا تملك الأفراد أو القوة النارية لغزو وتحدي الجيش الإسرائيلي، لكنها راكمت بشكل كبير ترسانات الصواريخ التي على الرغم من كونها بدائية وغير دقيقة يمكن أن تستهدف معظم دولة صغيرة مثل إسرائيل. لكن لدى إسرائيل الآن بطاريات متنقلة كافية لحماية المناطق المهددة في أوقات التوتر((Anshel Pfeffer, The Costly Success of Israel’s Iron Dome, The Atlantic, 24/5/2021.)).

       وتناولت بي بي سي أهمية نظام القبة الحديدية ومحاولة المقاومة التغلب عليها، فقالت: تم تصميم نظام القبة الحديدية للعمل في جميع الأحوال الجوية خصيصًا. وكان تطويرها مكلفا، لكن الشركات المصنعة تقول إنها فعالة من حيث التكلفة بسبب التكنولوجيا التي تستخدمها للتمييز بين الصواريخ التي من المحتمل أن تضرب مناطق مبنية وتلك التي لن تصيب. تطلق الوحدات الثابتة والمتحركة صواريخ اعتراضية فقط لإسقاط أي شيء يفسر على أنه خطير. بعد مرور عقد على تشغيل القبة الحديدية، تمتلك إسرائيل الآن 10 بطاريات منتشرة في جميع أنحاء البلاد، لكل منها ثلاث إلى أربع قاذفات يمكنها إطلاق 20 صاروخًا معترضًا. قال المتحدث العسكري الإسرائيلي جوناثان كونريكوس: لولا نظام القبة الحديدية، الذي كان مُنقذًا للحياة كما هو دائمًا، لكان عدد القتلى والجرحى الإسرائيليين أعلى من ذلك بكثير. لكن بعض المحللين يقولون إن كثافة القذائف الأخيرة من غزة تشير إلى أن الجماعات المسلحة تحاول التغلب على القبة الحديدية، مما يثير مخاوف بشأن القيود المحتملة للنظام مستقبليا((BBC News, How Israel’s Iron Dome missile shield works, 17/5/2021.)).

  • الاستخدام المكثف لتقنيات حرب الذكاء الاصطناعي:

       في مقال للصحفي الإسرائيلي يهوذا آري جروس، يبين فيه كيف استخدمت إسرائيل تقنيات الذكاء الاصطناعي في حرب حراس الأسوار، فقال: لعبت المخابرات العسكرية دورًا رئيسيًا في العملية. ولعبت القدرات الحاسوبية المتقدمة الأخرى دورًا رئيسيًا ومضاعفا للقوة ضد المقاومة. ولأول مرة، تم دعم الكثير من الجهود من خلال برامج الذكاء الاصطناعي مما جعل هذه الحرب وفقًا للمخابرات العسكرية هي “حرب الذكاء الاصطناعي الأولى” للجيش الإسرائيلي. لقد تم استخدام هذه القدرات المتقدمة في فحص الكميات الهائلة التي لا يمكن تصورها من البيانات التي تعترضها المخابرات العسكرية وتجمعها من غزة – المكالمات الهاتفية والرسائل النصية ولقطات كاميرات المراقبة وصور الأقمار الصناعية ومجموعة كبيرة من أجهزة الاستشعار المختلفة – من أجل تحويلها إلى معلومات استخبارية قابلة للاستخدام، مثل أين سيكون موقع قائد معين لحماس في وقت محدد على سبيل المثال. ولإعطاء فكرة عن حجم كمية البيانات التي يتم جمعها، قال الجيش الإسرائيلي إنه يقدر أن أي نقطة معينة في قطاع غزة تم تصويرها 10 مرات على الأقل كل يوم خلال النزاع((Judah Ari Gross, Israeli army intelligence praises tactical victory in Gaza, cannot determine how long calm will last, Times Of Israel, 27/5/2021.)).


ثانيا: حصاد حرب حراس الأسوار

       أوجز أفيف كوخافي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حصاد هذه الحرب في خطاب ألقاه في إحياء ذكرى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق أمنون شاحاك في الكلية العسكرية شمال تل أبيب، قال فيه:

  • من الناحية التكتيكية: وجه الجيش ضربة حاسمة للجماعات الإرهابية، لكن يتعين على إسرائيل الآن تحويل ذلك إلى نصر استراتيجي من خلال تطوير سياسات واضحة تتعلق بقطاع غزة وحماس.
  • على الجيش أن يكون متواضعا في تقييم فعالية جولة القتال مع الحركات المسلحة في غزة، فالانتصارات التكتيكية لا تؤدي بالضرورة إلى هدوء طويل الأمد.
  • لم يكن المقصود بحراس الأسوار تحقيق نصر حاسم في غزة، ولكن: حرمان حماس والجهاد من قدراتهما العسكرية، وخلق الردع. وسيظهر مع الوقت تحديد مقدار نجاحنا في ذلك.
  • تلقت حماس والجهاد ضربة قاصمة. فلقد حرمناهم من امتلاك قدرات هائلة لإنتاج الصواريخ والقذائف وغيرهما من الأسلحة. كما قمنا بتحييد الأنفاق التي وضعوا فيها مخزون 15 عامًا. ودمرنا بشكل شبه كامل قدراتهم الجوية والبحرية، وأحبطنا معظم الهجمات التي حاولوا تنفيذها.
  • ضربنا خلال العملية أهدافا عالية الجودة تبلغ ثلاثة أضعاف ما ضربناه في العمليات السابقة.
  • لا تعني هذه الإنجازات بالضرورة أن حماس لن تشن هجمات مرة أخرى ضد إسرائيل في وقت قريب.
  • رغم أن القبة الحديدية قد اعترضت 90% تقريبا من الصواريخ والقذائف التي كانت على وشك إحداث أضرار، رغم  إدراكنا تأثير عمليات الإطلاق على الجبهة الداخلية، إلا أن الجيش فشل في منع حماس والجهاد من إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون خلال الحرب((Judah Ari Gross, The army commander said that the Israeli army’s victory in the Gaza conflict may not have deterred Hamas, Times Of Israel, 9/6/2021.)).

ثالثا: مقدمات وأسباب هزيمة إسرائيل الاستراتيجية

       سيطر على إسرائيل قبل الحرب شعور زائف بالاطمئنان وغطرسة القوة، وعانت من انقسام مجتمعي وأزمة سياسية مستمرة منذ أكثر من عامين، فوقعت في الكثير من الأخطاء التي جرت عليها هذا الفشل الاستراتيجي الكبير والإخفاق المتعدد المظاهر في هذه الحرب. لذا يقول الكاتب شير حيفر في مقال له في ميدل إيست آي: لقد وصف ألوف بن – رئيس تحرير صحيفة هآرتس – الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر بأنه أسوأ عملية عسكرية إسرائيلية على الإطلاق من حيث سوء التخطيط والإعداد. وكانت التغطية الإعلامية الإسرائيلية تتخوف ألا تستطيع إسرائيل تحقيق صورة النصر والتوصل إلى وقف إطلاق نار يحفظ ماء الوجه. وعندما ألمح المسؤولون الإسرائيليون في البداية إلى استعدادهم للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بعد أن دمر الجيش كل شيء في بنك أهدافه، قوض كبار الضباط هذه التصريحات وأخبروا وسائل الإعلام أنهم طلبوا موافقة الحكومة على قصف أهداف إضافية في غزة((Shir Hever, As Palestinians unite, Israel is more divided than ever, Middle East Eye, 21/5/2021.)). لقد كانت أهم الأخطاء التي ارتكبتها إسرائيل وجرتها إلى هذه الهزيمة ما يلي:  

  1. الاستهانة بالمقدسات الإسلامية والثوابت الفلسطينية:

       لقد ارتكبت إسرائيل مجموعة من الحماقات استهانت فيها بحق الشعب الفلسطيني في اختيار قيادته، وكذلك استهانت بثوابته الدينية ورفضه لتهويد القدس وطرد الفلسطينيين من دورهم، يقول الصحفي وخبير الاستخبارات الإسرائيلي يوسي ميلمان: كانت الجولة الأخيرة بين إسرائيل وغزة بمثابة مفاجأة للقادة السياسيين والعسكريين. ومع ذلك، كان لا ينبغي أن يفاجئوا على الإطلاق. وكان يجب أن يفهموا ويعرفوا أن هذه الجولة ستأتي بسبب أفعالهم الغبية:

  • كان قرار تأجيل الانتخابات الفلسطينية بمثابة التحذير الأول بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على وشك الاندلاع مرة أخرى بعد هدوء نسبي لأكثر من عام. فقد خشي جهاز الأمن الداخلي والجيش الإسرائيلي من أن حماس لديها فرصة جيدة للفوز في الانتخابات وزيادة نفوذها في الضفة الغربية. وأقنعوا عباس – الذي توصل إلى نفس النتيجة – بإلغاء الانتخابات متعللا ببعض الأعذار غير المهمة. غضبت حماس، وألقت باللوم على إسرائيل، وقررت استفزازها بإطلاق طائرات ورقية وبالونات، وإن كان على نطاق صغير.
  • ثم بدأ موسم الحماقات الإسرائيلية في رمضان. كانت الحماقة الأولى هي قرار الشرطة بوضع حواجز في ساحة باب العامود التي يرتادها الشباب الفلسطينيون، والتي جعلت من الصعب دخول المسجد الأقصى للصلاة. رد الشبان الفلسطينيون بمواجهات مع الشرطة. وقرر الشاباك التدخل لإعادة الهدوء إلى شوارع القدس، وأجبر مفوض الشرطة على إزالة الحواجز، ولكن بعد فوات الأوان، فقد وقع الضرر. وفي غضون ذلك، نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلي مداهمات داخل المسجد الأقصى واعتدت على المصلين.
  • وكانت الحماقة التالية أيضًا قرارًا غير حكيم من قبل الشرطة التي سمحت على الرغم من التوتر المتزايد بحدث سنوي يُعرف باسم “رقصة الأعلام”. وهو عبارة عن مظاهرة سنوية يقوم بها اليمينيون القوميون المتطرفون والمستوطنون الإسرائيليون الذين يسيرون في الحي الإسلامي في البلدة القديمة في القدس. في النهاية، استسلم مفوض الشرطة مرة أخرى لضغوط الشاباك وأمر بتغيير مسار المسيرة. كما أدرك نتنياهو أنه كان يلعب بالنار، فأمر الشرطة بمحاولة نزع فتيل التوتر. ولكن مرة أخرى كان الوقت قد فات لتجنب المنحدر الزلق((Yossi Melman, Al-Aqsa attack: Israel’s Netanyahu, the agent of chaos, Middle East Eye, 11/5/2021.)).

      إضافة إلى الحماقات السابقة، فإن البروفيسور بول روجرز – أستاذ دراسات السلام بجامعة برادفورد -يذكر بحماقات أخرى منها:

  • دخول الشرطة فناء المسجد الأقصى وقطع الكابلات عن مكبرات الصوت في مآذنه لمنع تداخل صوت الآذان مع خطاب كان من المقرر أن يلقيه الرئيس الإسرائيلي في مكان قريب.
  • زيادة الاقتحامات الإسرائيلية للأقصى في الأسابيع الأخيرة قبل الحرب، والتي ساهمت في زيادة الغضب الفلسطيني وتزايد التظاهرات خاصة عند باب العامود والمسجد نفسه. كما ارتفعت حدة التوتر وهددت حركة حماس بإطلاق الصواريخ ردا على ذلك. وتصاعدت أعمال العنف في مساء يوم الجمعة 7 مايو، عندما اقتحمت الشرطة المسلحة بالغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت والرصاص المطاطي المسجد الأقصى، مما أدى إلى اشتباكات استمرت عدة ساعات مع متظاهرين رشقوا الشرطة بالحجارة، وأصيب مئات المتظاهرين جراء الاشتباكات. وبعد ثلاثة أيام كررت الشرطة العملية مع تصاعد العنف أكثر. في وقت لاحق من ذلك اليوم، تم إطلاق أول صواريخ حماس من غزة((Paul Rogers, Gaza conflict: No matter how powerful Israel’s military becomes it still can’t win, Asia Pacific Report, 20/5/2021.)).

       لقد نسي نتنياهو بحمقه وغطرسته أن الأقصى خط أحمر لدى جميع الفلسطينيين على اختلاف توجهاتهم وأماكن وجودهم، يقول بول روجرز: عمليات اقتحام المساجد لها بالفعل تأثير في جميع أنحاء العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب وما وراءها، مما يزيد من الدعم الشعبي للفلسطينيين حتى لو فضل الحكام المستبدين في جميع أنحاء الشرق الأوسط التعامل مباشرة مع إسرائيل وتجاهلوا المأزق الفلسطيني((Paul Rogers, Gaza conflict: No matter how powerful Israel’s military becomes it still can’t win, Asia Pacific Report, 20/5/2021.)).

  1. التهويد المتسارع للقدس:

       أعطت عملية التهويد المتسارعة مبررا غير مختلف عليه فلسطينيا لكي تشن حماس حربها ضد إسرائيل، تقول صحيفة ول ستريت جورنال: عندما خرج محمد الضيف القائد العسكري السري لحركة حماس الإسلامية الفلسطينية من الظل، فقد اختار نزاعًا على الأرض في القدس الشرقية، مهددًا بالانتقام من إسرائيل إذا تم إخلاء السكان الفلسطينيين هناك من منازلهم، وقال: إذا لم يتوقف العدوان على شعبنا … فإن العدو سيدفع ثمنا باهظا. لقد كان الحكام في غزة صريحين بشأن القفز إلى المعركة في القدس وإطلاق الصواريخ على إسرائيل، حيث صور مسؤولو حماس الجماعة على أنها مدافع ثابت عن الشعب الفلسطيني. وقال إسماعيل هنية القيادي السياسي لحركة حماس: إن معادلة ربط غزة بالقدس ثابتة ولن تتغير((Dov Lieber and Felicia Schwartz, Hamas Attack on Israel Aims to Capitalize on Palestinian Frustration, Wall Streat Journal, 12/5/2021.)).

  1. خطأ استخباراتي وتنبؤ غير دقيق:

       كان من الأخطاء الإسرائيلية الواضحة في هذه الحرب سوء التقدير والتنبؤ الاستخباري وتضارب التقييمات بين الأجهزة الاستخبارية، يقول الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت: “دعونا لا ننسى أنه حتى إطلاق السنوار الصواريخ على القدس في 10 مايو، فإن المخابرات الإسرائيلية كانت تقول إن السنوار يريد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار طويل الأمد مع إسرائيل، وإعادة الإعمار الاقتصادي في غزة، وبالتالي فلن يسعى إلى التصعيد العسكري. أما تقييم جهاز الأمن العام – الشاباك – فقد كان مختلفا عن تقييم الاستخبارات، إذ حذر منذ فترة طويلة من اندلاع جولة أخرى من القتال مع غزة، وأوصى بعمل عسكري إسرائيلي وقائي. وقال الشاباك إن السنوار زعيم ديني متطرف لن يخجل من الاشتباك مع إسرائيل لتحقيق أهداف حركته. في النهاية، وافقت المخابرات العسكرية – أمان – على هذا التقييم ولكن بعد فوات الأوان، إذ كان ذلك قبل ساعات فقط من أمر السنوار بإطلاق ستة صواريخ  على القدس. إذن، كان الجيش على علم مسبق بالهجوم الوشيك، وناقش مجلس الوزراء الأمني ما إذا كان سيحبطه بضربة استباقية. في النهاية، اختارت إسرائيل السماح لحماس ببدء الحرب بدلاً من المخاطرة بردود فعل دولية معاكسة إذا قمنا بالضرب أولاً. في كلتا الحالتين، ثبت أن قدرة إسرائيل على التنبؤ بنوايا السنوار محدودة للغاية((Ben Kasbet, Israel fears that Hamas and Hezbollah will coordinate the attacks, Al-Monitor, 28/5/2021.)).

  1. عدم فهم إسرائيل لمنطق المقاومة:

       يقول د. مايكل مليشتاين الباحث بمركز موشى ديان بجامعة تل أبيب: كان وابل الصواريخ باتجاه القدس الذي شكل بداية عملية حراس الأسوار أكثر بكثير من مفاجأة من حيث التكتيكات أو الاستخبارات. فقد أثار كذلك تساؤلات مهمة بشأن مدى عمق فهم إسرائيل للمنطقة المحيطة بها وقيمها وطريقة تفكيرها ولا سيما أفكار أعدائها. قوض الهجوم الذي شنته حماس الافتراضات الأساسية المتعلقة بحماس والتي كانت لسنوات عديدة موجودة في طبقات مختلفة من الفكر الإسرائيلي:

  • يتناول الافتراض الأول السائد تفكير الهدنة الذي ساد في السنوات الأخيرة، والذي يستند إلى ادعاء بأنه كلما تحسن الوضع الإنساني والاقتصادي في غزة، فإن حماس ستصبح واعية بثمن الخسارة المتوقعة من الصراع، وسيتراجع دافعها للشروع في خطوات عنيفة.
  • أما الافتراض الأساسي الثاني السائد وهو أن وضع حماس كدولة ذات سيادة في غزة منذ عام 2007 سيفرض قيودا عليها ويخفف تدريجيا من خطواتها وربما حتى من طريقة تفكيرها. لهذا مال الكثيرون إلى الادعاء بأن حماس ستخضع لتطور من شأنه أن يدفعها إلى اتباع مسار منظمة التحرير الفلسطينية، أي الاعتراف في نهاية المطاف بإسرائيل والتوصل إلى اتفاقات سياسية معها. لكن يبدو أن حكم غزة لا يخفف من حماس، بل يمنحها المزيد من الموارد لتعزيز أهدافها الأيديولوجية.

      لذا، كانت عملية حراس الأسوار خطوة من جانب حماس مستمدة أساسا من دوافع أيديولوجية ودينية مع قدر صغير من الاعتبارات الاستراتيجية. وهي العملية الأولى من بين العمليات الأربع التي جرت خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية بينها وبين إسرائيل، ولم تبدأ بعد التصعيد في قطاع غزة، بل كانت بمبادرة مقررة سلفا من حركة حماس((Dr. Michael Milshtein, Does Israel understand Hamas?, Israel Defense, 26/05/2021.)).

  1. الانقسام السياسي الإسرائيلي وتشبث نتنياهو بالسلطة:

       اتهمت الكاتبة الإسرائيلية ليلي جاليلي رئيس الوزراء نتنياهو بتأجيج الأوضاع مع الفلسطينيين والدخول في حرب جديدة مع غزة لحماية مستقبله السياسي ومنع المسائلة القانونية له على خلفية قضايا فساد، حتى إنها أطلقت على عملية حراس الجدران: حراس جدران بلفور. أي أنها تعتبر أن الهدف من العملية كان حماية مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي وبقاء نتنياهو فيه، فقالت: على عكس ما يلمح إليه بعض المشككين، كانت عملية “حراس الجدران” ناجحة تمامًا، ليس من أجل جدران البيوت في إسرائيل، التي كانت تحت حراسة بالكاد، لكن لأن جدران “بلفور” – المقر الرسمي لرئيس الوزراء في القدس – قد تم تعزيزها وتأمينها بهذه العملية بالتأكيد، على الأقل مؤقتًا بعد أن كانت حكومة “التغيير” على وشك الإطاحة ببنيامين نتنياهو:

  • قال اللواء يائير غولان، النائب عن حزب ميريتس اليساري المعارض ونائب رئيس هيئة الأركان العامة الإسرائيلي المتقاعد، لموقع Middle East Eye: إن توقيت العملية بعيد عن الصدفة. لقد جاء لخدمة احتياجات نتنياهو السياسية والقانونية. لم يكن التصعيد ليحدث لولا ذلك. نتنياهو سياسي متطور. ليس الأمر أنه خطط مسبقا للعملية. لكنه كان يعرف بالضبط الأزرار التي يجب الضغط عليها لتحقيق ذلك. نحن نتعامل مع شخص مصاب بهوس الحرائق مستعد لفعل كل شيء للبقاء في السلطة.
  • رئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان لا يلفظ كلماته. وقال أفجيدور ليبرمان، وزير الدفاع السابق والحليف المخلص السابق لنتنياهو، للقناة 12: إن ميكيافيلي يمكن أن يأخذ دروسًا خاصة من نتنياهو.
  • ليست هذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها سياسي إسرائيلي باستخدام القوة لدوافع سياسية. لكن، هذه هي المرة الأولى في إسرائيل التي تنتشر فيها مثل هذه الاتهامات على نطاق واسع وبصوت عال مع استمرار العنف والتي عادة ما كان يتم تأجيلها إلى اليوم التالي بعد انتهاء الحرب. ما يجعل الأمر مختلفًا هنا هو السياق السياسي، فنتنياهو هو رئيس حكومة انتقالية بدون دعم برلماني شرعي، وبعد أن جر إسرائيل إلى أربع جولات من الانتخابات في غضون عامين، فقد فشل في تشكيل حكومة جديدة.
  • توماس فريدمان كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، والذي يعرف إسرائيل جيدًا، كتب قائلا: “لقد حذرت من أن نتنياهو – الذي كان يائسًا من البقاء في السلطة ومن تجنب احتمال دخوله السجن إذا أدين في محاكمة فساد – سيعمل على تأجيج الموقف لدرجة تجعل خصومه اليمينيين يضطرون إلى التخلي عن محاولة الإطاحة به ويعلنون أن هذا ليس وقت تغيير القيادة.
  • يعرف نتنياهو جيدا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحساسياته، ويعرف حساسية التوقيت شهر رمضان المبارك، ويعرف أيضا حساسية المسجد الأقصى في هذا الوقت. كما كان يعلم أن التوترات كانت شديدة الارتفاع في الشيخ جراح، حيث تم تهديد 40 عائلة فلسطينية بالطرد في الفترة التي سبقت إحياء ذكرى النكبة في 15 مايو. ومع ذلك، فقد سمح باستخدام قوة الشرطة الوحشية في كلا الموقعين.
  • استغرق الأمر بضعة أيام فقط من أعمال الشغب المحلية، والصواريخ التي أطلقت على إسرائيل والقنابل التي دمرت غزة مرة أخرى حتى يتم تأجيل الخطر الواضح والقائم لنتنياهو على الأقل. قد وفرت له حرب غزة أحد الأصول التي تمس الحاجة إليها: الوقت. هذا ما أراده نتنياهو في المقام الأول. وعلى الرغم من كونه خبيرًا في الحصول على كل المكاسب وتجنب الرصاص، إلا أنه سيتعين عليه الآن التعامل مع الآثار السياسية والاجتماعية لعملية: حراس جدران بلفور”((Lily Galili, Netanyahu emerges as the political victor from the war – for now, Middle East Eye, 21/5/2021.)).
  1. عدم استفادة إسرائيل من دروس الحروب السابقة:

       تتناسى إسرائيل دائما الدروس المستخلصة من حروبها مع غزة. ففي حرب الجرف الصامد عام 2014 على سبيل المثال، كتب انتوني كوردسمان مقالين عن تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية والدروس المستخلصة منها، فقال في أحدهما: السؤال الرئيسي في أي حرب هو كيف ستنتهي هذه الحرب ؟ منذ عام 1967، كان الحل في حالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو التوقف، ثم استئنافه بشكل مختلف مع نفس النتيجة:

  • في حالة القتال في غزة، كانت أفضل نتيجة هي وقف غير مستقر لإطلاق النار، و أسوأها هو العنف منخفض الشدة لدرجة لا يمكن وصفها بجولة أخرى من الصراع.
  • كل جولة كانت مكلفة وغير مجدية لإسرائيل. وكانت خسائر إسرائيل أقل بكثير، لكنها تكون حقيقية للغاية إذا حاولت القتال بريا على الأرض في غزة.
  • استعادت حماس قدرتها على تشكيل تهديد، وطورت ببطء قدرتها على استخدام الصواريخ والقذائف وقذائف الهاون لضرب الأراضي الإسرائيلية.
  • تزداد إحصائيات الحرب سوءًا مع مرور كل يوم، وستزداد سوءًا إذا أضافت إسرائيل بُعدًا أرضيًا للقتال. ما لن يفعلوه هو تغيير النتيجة الاستراتيجية لهذه الحرب.
  • النتيجة النهائية هي أن إسرائيل ستحصر جهودها العسكرية على الأرجح إلى الحد الذي تشعر فيه أنها ردعت حماس لفترة من الزمن، وتخلق وقفًا جديدًا لإطلاق النار بمدة غير مؤكدة.
  • إسرائيل لن تنتصر إلا على المستوى التكتيكي((Anthony H. Cordesman, Hamas and the New Round of Fighting in Gaza: Both Sides are Escalating to Nowhere, CSIS, 17/7/2014.)).

       ويعتبر كوردسمان أن ما تقوم به إسرائيل في حروبها ضد غزة هو ضرب من الجنون الذي لا ينتهي، وقصة ممجوجة لا تمل إسرائيل من تكرارها، فيقول:تعريف ألبرت أينشتاين الشهير للجنون هو فعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتائج مختلفة. لقد كان القتال لا يزال يتصاعد إلى أي مكان دون أي احتمال حقيقي لحل هادف ودائم. والحرب التي لا تنتهي هي قصة لا تنتهي((Anthony H. Cordesman, Israel and Hamas: Escalating to Nowhere, Yet Again, CSIS, 31/7/2014.)).

       نظرا لأنه لم تتم معاقبة إسرائيل ومسائلتها دوليا، ونظرا لأن العرب لم يتخذوا موقفا حاسما ضدها، كانت الاستفادة الوحيدة لإسرائيل من حروبها السابقة هو زيادة الغطرسة والإحساس الكاذب بالحصانة، يقول بول روجرز: قبل أحداث الشهر الماضي، عمل نتنياهو على إقناع الإسرائيليين بأن الفلسطينيين قد هُزموا وعليهم التعود على الخسارة وأنه يمكن للإسرائيليين يمكن أن يشعروا بالأمان. كما تم الترويج بقوة لهذه الفكرة من قبل قطاعات من اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وعلى الأخص منتدى الشرق الأوسط، ولملايين المسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة الذين لهم تأثير دائم على السياسيين الطموحين من الجمهوريين والديمقراطيين”((Paul Rogers, Gaza conflict: No matter how powerful Israel’s military becomes it still can’t win, Asia Pacific Report, 20/5/2021.)).


رابعا: فشل مدو وإخفاقات متعددة

       يقول ألوف بن رئيس تحرير صحيفة هارتس العبرية: لقد تحولت عملية حراس الأسوار في غزة إلى حرب إسرائيل الحدودية الأكثر فشلًا وعديمة الجدوى على الإطلاق، حتى عند قياسها بالحروب السابقة. لقد شهدنا فشلا عسكريا ودبلوماسيا خطيرا كشف النقائص الكبيرة في: استعدادات الجيش وأدائه، وفي قيادة حكومة مشوشة وعاجزة”((Aluf Benn, This Is Israel’s Most Failed and Pointless Gaza Operation Ever. It Must End Now, Haaretz, 18/5/2021.)). إذن، فما هي مظاهر الإخفاق والفشل الإسرائيلي في هذه الحرب والتي تحولت إلى هزيمة استراتيجية ؟!:

  1. خطأ القراءة الاستراتيجية الإٍسرائيلية:

       من أحد مظاهر الفشل الاستراتيجي الإسرائيلي هو خطأ القراءة الاستراتيجية لصراعها مع حماس وإدارتها للقتال ضدها، يقول الباحث دورون ماتزا ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق: “كان لدى إسرائيل فرصة غير عادية لتحويل غزة وحماس إلى نوع من الدرس على الصعيدين الإقليمي والدولي، وبالتالي استعادة التوازن السابق وإعادة تأسيس الأجندة الاقتصادية البراغماتية التي انجزت صفقة القرن واتفاقية إبراهام. لكن القيام بذلك كان سيتطلب: مراجعة استراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي تجاه غزة، ومجموعة مختلفة من الأهداف العملياتية عبر حملة مصممة لهدم أسس القوة العسكرية لحماس. كان من شأن ذلك التخلي عن استراتيجية الحملة الجوية لصالح استراتيجية تجمع بين الضربات الجوية والمناورة البرية. ولكن يبدو أن الفجوة في اللغة بين نهج إسرائيل التكتيكي الكمي ومنهج حماس الاستراتيجي النوعي تعكس صعوبة إسرائيل في فهم الطبيعة والأهمية الفريدة لهذا الصراع الأخير في غزة فيما يتعلق بأسلافه. لقد استخدمت إسرائيل نفس المنطق العسكري العملياتي الذي استخدمته في الجولات السابقة، معتبرة الحرب على أنها مواجهة أخرى من مواجهاتها المزمنة مع المنظمات الإرهابية في غزة. وبناءً على ذلك، أنهت العملية بإنجازات تكتيكية مثيرة للإعجاب ولكن في موقع دونية استراتيجية كبيرة لدرجة أنها تُذكِر بالإنجازات الكمية لأمريكا جنبًا إلى جنب مع هزيمتها الاستراتيجية في حرب فيتنام (1959-1975). وهنا توجد تداعيات واضحة على سياسات الشرق الأوسط في كل ما يمكن تصوره تقريبًا”((Dr. Doron Matza, Operation Guardian of the Walls: Tactical Victory, Strategic Defeat, BESA Center Perspectives Paper No. 2048, 25/5/2021.)).

  1. فشل الدبلوماسية الإسرائيلية:

       في دراسة مهمة للعقيد احتياط د. رافاييل بوشنيك يتحدث فيها عن مظهر مهم من مظاهر الفشل الإسرائيلي، وهو فشلها في كسب المعارك الدبلوماسية والنفسية المرتبطة بالحرب، فيقول: إن تجربة إسرائيل المتراكمة في أوقات الحرب تظهر نمطا مزعجا أصبح طقسا: ثغرات خطيرة تظهر دائما بين إنجازات الجيش وفشل الدبلوماسية العامة الوطنية. ويبدو أن إسرائيل لم تستوعب بعد القيمة الكاملة للدبلوماسية العامة الديناميكية أو الحرب النفسية المتطورة على الرغم من أن المفكرين العسكريين صنفوا في ممارسات الحرب من هذه التخصصات على أنها عوامل مضاعفة للقوة. على سبيل المثال، قال المفكر والاستراتيجي العسكري الصيني سون تزو قبل أكثر من ألفي عام: إنه يجب علينا إخضاع العدو دون قتال. إن إسرائيل تفشل باستمرار في ثاني أهم عنصر في المعركة ضد حماس والجهاد الإسلامي، وبالتالي تجد نفسها، مرارا وتكرارا، تحت ضغط دولي شديد لوقف القتال قبل تحقيق أهداف عملياتها. وهذا النمط يتكرر في كل مرة تضطر فيها إسرائيل إلى الدفاع عن مواطنيها ضد الهجمات الإرهابية مما يوضح عدم الكفاءة المنهجية للدبلوماسية العامة الإسرائيلية((Colonel (Res) Dr. Rafael J. Pushnik-Chen, The systematic failure of Israeli public diplomacy, Pesa Center Views Paper No. 2045, 24/5/2021.)).

  1. عدم تحقيق الهدف السياسي للحرب:      

       يعدد العقيد المتقاعد د. الحنان شاي النتائج المترتبة على عدم تحقيق إسرائيل هدفها السياسي من هذه الحروب التي خاضتها من قبل، فيقول: وفقًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كان الهدف السياسي لعملية حراس الأسوار هو: إعادة الهدوء والأمن إلى إسرائيل. وكان هذا أيضًا هو الهدف السياسي لعمليات سيناء (1956)، وسلام الجليل (1982)، والدرع الواقي (2002)، وعمليات الجرف الصامد (2014)، بالإضافة إلى حرب لبنان الثانية (2006). في حملات سيناء وسلام الجليل والدرع الواقي، تم تعريف مهمة الجيش الإسرائيلي على أنها إزالة التهديد. لقد استلزم تحقيق هذا الهدف خلق واقع عملياتي يحول دون عودة التهديد إلى الظهور، ويترك مفتاح الهدوء والأمن على المدى الطويل في أيدي إسرائيل. أما في عملية حراس الأسوار، فقد كان الهدف على يبدو هو إزالة التهديد عبر تدمير جوانبه بطريقة خطية وتدريجية. وتكمن مشكلة الانتصار التدريجي في:

  • استمرار القتال دون توقع للمدة التي ستستغرقها الحملة. وهذا يتناقض مع فرضية أساسية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي: أن إسرائيل لديها دائمًا إطار زمني دبلوماسي محدود تحت تصرفها، واليوم مع قوة وسائل التواصل الاجتماعي فإن لديها إطارا زمنيا محدودا للرأي العام أيضًا.
  • ويتناقض أيضا مع الفرضية التقليدية القائلة بأنه عند الانخراط في نزاع، يجب أن يكون الجيش الإسرائيلي مستعدًا لتحقيق هدفين سريعين: تحييد جانب التهديد الذي يشكل أكبر خطر على إسرائيل، وقهر الأراضي المهمة، وإن كانت محدودة، بأسرع ما يمكن. وبهذه الطريقة تكسب إسرائيل إما ورقة قوية لتسوية دبلوماسية تمنع عودة التهديد أو السيطرة العملياتية المطلوبة لمنع عودته إذا لم يتم التوصل إلى تسوية دبلوماسية.

       في عملية حراس الأسوار، وعلى الرغم من النجاح الدراماتيكي وغير المسبوق في تحديد موقع كمية كبيرة من الأهداف واعتراضها وتدميرها، فقد انتهت العملية دون أن تحقق إسرائيل الهدفين العسكريين الضروريين للهدوء والأمن الحقيقيين، وهما:

  • التدمير الكلي أو شبه الكامل لترسانة الصواريخ التي تشكل أكبر خطر على جنوب ووسط إسرائيل.
  • الاستيلاء على الأراضي التي تضمن لجيش الدفاع الإسرائيلي درجة عالية من اليقين بعدم إعادة تشكيل التهديد.

       وكما كان الحال مع العمليات السابقة، فقد انتهت حملة حراس الأسوار دون انتصار عسكري إٍسرائيلي ساحق واضح لا لبس فيه يكون من شأنه ضمان استعادة الهدوء والأمن لإسرائيل. وهكذا، يصبح الهدوء والأمن معتمدين على الصدفة والقدر، أي على مدى الردع الذي كان من المفترض أن تغرسه العملية في حماس((Col. (res.) Dr. Hanan Shai, Did the Gaza Operation Achieve Its Political Goal?, BESA Center Perspectives Paper No. 2,046, 24/5/2021.)).

  1. وقف لإطلاق النار بدون ضمانات:

       انتقد السياسيون على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وقف إطلاق النار دون قيد أو شرط، رصد ذلك تقرير لصحيفة تايمز أوف إسرائيل جاء فيه: بعد موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار مع حركة حماس، انتقد العديد من السياسيين من مختلف الأطياف وبعض المسؤولين المحليين الحكومة بشأن هذه الخطوة بعد ساعات فقط من دخولها حيز التنفيذ:

  • قال بعض أعضاء الكنيست: الاتفاقية محرجة، ولا تغير الواقع.
  • وقال رئيس بلدية سديروت المنكوبة بالصواريخ: لا يفهم سبب موافقة البلاد على وقف إطلاق النار لأنه لم يطرأ تغيير حقيقي على الوضع. لقد كانت هناك إنجازات، ولكن هذا ليس بالشيء الذي يغير ميزان القوى. يبدو أنه لا أحد يريد هزيمة حماس.
  • وأعرب جدعون ساعر رئيس حزب الأمل الجديد عن أسفه لأنه حسب قوله: حتى مع أفضل المخابرات والقوات الجوية في العالم، تمكن نتنياهو من الحصول من حماس على وقف إطلاق النار دون شروط.
  • وقالت زعيمة حزب العمل ميراف ميخائيلي: ما هو الهدف من العملية؟ وقف إطلاق النار؟ تحقيق الهدوء؟ وماذا سيتم خلال هذا الصمت؟ حان الوقت للتوقف عن الإنكار: لقد تصرف الجيش الإسرائيلي بشكل احترافي، وأظهر الجمهور مرونة، واستخدم نتنياهو كل هذا لتقوية نفسه.
  • وقال عضو الكنيست اليميني المتطرف إيتمار بن غفير: وقف إطلاق النار المحرج هو استسلام خطير للإرهاب وإملاءات حماس. هذه ليلة صعبة بالنسبة لدولة إسرائيل والردع الإسرائيلي((Emmanuel Fabian and TOI Staff, Politicians of all walks of the spectrum criticize the Prime Minister for Gaza’s failures, in accordance with the terms of the ceasefire, Times Of Israel, 21/5/2021.)).
  1. سقوط الكثير من المفاهيم السياسية الإسٍرائيلية:

       أسقطت حرب غزة الكثير من المفاهيم والسياسات التي كانت تحكم تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين سواء في الدخل المحتل أو في الضفة والقطاع، أو الفلسطينيين كشعب وسلطة ومقاومة، وكذلك أسس إدارتها للصراع وتوقعها لتطوراته. ترصد ذلك صحيفة الجيروزاليم بوست، فتقول:

  • تهميش السلطة الفلسطينية: أدت سياسة إسرائيل تجاه السلطة الفلسطينية إلى جعل محمود عباس أبو مازن غير ذي صلة، وصورته على أنه خائن لشعبه لاستمراره في التعاون مع إسرائيل دون أي مقايضة كبيرة. وبدلاً من إثبات أن الاعتدال مفيد، عملت السياسة الإسرائيلية باستمرار على إضعاف السلطة الفلسطينية، وكافأت بذلك مقاتلي حماس.
  • استراتيجية “فرق تسد”: والتي تفترض عدم وجود ترابط بين غزة والضفة الغربية وإسرائيل. وفرت هذه الاستراتيجية لحكومة نتنياهو ذريعة لتجنب عملية السلام. لكن أثبتت الأحداث أن الهوية الفلسطينية، التي تعتبر القدس مكونًا رئيسيًا لها، هي الصمغ الذي يربط الساحات الثلاثة.
  • استراتيجية عزل وإضعاف الفلسطينيين: عبر إقامة تحالفات مع دول عربية على الأطراف – الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وبشكل غير مباشر مع المملكة العربية السعودية –وتجاهل القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن المحاولات المستمرة لعزل وإضعاف الفلسطينيين هي برميل الديناميت الذي يمكن أن ينفجر بسهولة، حتى في الضفة الغربية الهادئة نسبيًا.
  • المفهوم الأهم وهو وجود تعايش اليهودي العربي داخل إسرائيل: كان العنف الأخير في المدن المختلطة بين اليهود والعرب هو تعبير عن انقسامات عميقة الجذور في المجتمع الإسرائيلي. تشكلت الشقوق الأساسية في المجتمع الإسرائيلي من خلال سنوات من التمييز والإقصاء والحرمان للمواطنين العرب في إسرائيل ومدنهم وقراهم((Elie Podeh, Assessing Operation Guardian of the Walls: Did it change any opinions?, JPost, 29/5/2021.)).
  1. فشل إسرائيل في كسب الرأي العام العالمي والدعم الدولي:

       في افتتاحية لصحيفة جيروزاليم بوست، بينت الصحيفة كيف خسرت إسرائيل معركة الرأي العالم العالمي، فتقول: لقد خسرت إسرائيل الدعم في محكمة الرأي العام الذي تعاطف مع الفلسطينيين. في الصراع الحالي، شارك أنصار إسرائيل بفخر صور القبة الحديدية التي تعترض صواريخ حماس قبل أن يتمكنوا من قتل وإتلاف الأشخاص والممتلكات في إسرائيل، لكن طغى على هذا الفخر، صور إسرائيل وهي تسوي مبنى إعلاميا في غزة بالأرض أو منزلا في مخيم الشاطئ للاجئين في مدينة غزة مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 10 أفراد من عائلة أبو حطب معظمهم من الأطفال. لذا، يُنظر إلى إسرائيل عالميا على أنها المعتدي وليست الضحية. لقد حان الوقت لتأسيس نظام القبة الحديدية للدبلوماسية العامة للرد والدفاع عن إسرائيل في مسرح الرأي العام العالمي((JPost Editorial, Israel needs to better coordinate the image war, JPost, 18/5/2021.)).

       ولا يمكن الاستهانة بتأثير الرأي العام العالمي على قرارات إسرائيل في هذه الحرب، ومن بينها الغزو البري للقطاع مثلما حدث في حروبها السابقة، تقول دراسة لمركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية بجامعة بار إيلان: “على الرغم أنه لا يوجد خيار جيد لإسرائيل لتجنب دورة أخرى من العنف، إلا أن الاحتلال المؤقت للقطاع لإزالة حماس سيكون مكلفًا للغاية من الناحية الإنسانية ومدمّرًا من المنظور الدولي. فالحركة الملتقية الأهداف – التي تم إنشاؤها حول فكرة وجوب أن تدعم جميع الأقليات المضطهدة عرقية أو قائمة على النوع أو الإثنية بعضها البعض، قد احتضنت القضية الفلسطينية، وحشدت حشودًا كبيرة في الولايات المتحدة وبريطانيا. وأعطت Black Lives Matter (BLM)، حركة حياة السود مهمة – وهي جزء من تكتل التقاطع، دفعة كبيرة للمظاهرات المناهضة لإسرائيل – لدرجة أن مجلة بوليتكو  خلصت إلى أن BLM قد غيرت الخطاب الأمريكي حول الشرق الأوسط((Ofira Seliktar and Farhad Rezaei, Can Hamas, an Iranian Proxy, Be Deterred?, BESA Center Perspectives Paper No. 2058, 31/5/2021.)).

  1. الخسارة الأخلاقية:

       يعد الجانب الأخلاقي مكونا مهما في مخاطبة الرأي العام العالمي واجتذاب المؤيدين وسحب المشروعية عن أفعال الكيان الصهيوني، وخسارته خسارة للحرب، يقول دونيل هارتمان مدير معهد شالوم هارتمان بالقدس: على الصعيد الدولي: يلتمس العذر لهجمات حماس الصاروخية واستهداف المدنيين الإسرائيليين على اعتبار أنها ضربة مشروعة ضد الظالم، بينما يُنظر إلى محاولة إسرائيل الحد من هذه الضربات على أنها مظهر من مظاهر إساءة استخدام للقوة. والانتقادان الأخلاقيان الأكثر شيوعًا لأعمال إسرائيل في غزة هما:

  • اختلال ميزان القوى الشديد بين إسرائيل وحماس: إذ تملك إسرائيل جيشًا كلي القدرة، وهي محمية من صواريخ حماس بقبة حديدية. قد تكون حماس شريرة لكنها عاجزة في الغالب. لذا، فهذه ليست معركة عادلة كما يقول النقاد.
  • عدم التناسب الشديد في عدد في القتلى بنسبة تزيد عن 1:10 لصالح إسرائيل. وعند تقييم مدى الضرر الذي لحق بالمباني والبنية التحتية فإن الخلل يتضخم. لذلك، فإن المنتقدين يقولون إن رد إسرائيل الأولي على صواريخ حماس قد يكون شرعيًا، إلا أن هذه الشرعية قد انتهت منذ فترة طويلة، وكل يوم تستمر فيه إسرائيل في حملتها هو دليل إضافي على فراغها الأخلاقي.

      لا يمكننا أن نتوقع أن يتغاضى الآخرون أخلاقيا عن ردنا غير المتناسب إذا كانوا يعتقدون أننا لا نهتم بمعاناة الفلسطينيين ولا نتطلع حقًا إلى حل سلمي وعادل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إن أحد أكثر العواقب تدميراً لانهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية:

  • نزع الصفة الإنسانية المتبادلة التي يجب أن تنتج عن هذه العملية. إن هذا التجريد من الإنسانية قد صار حقيقة مترسخة بالفعل.
  • عدم الاستعداد لاحتضان واحترام حق الطرفين في العيش بحرية وكرامة، مما أدى إلى حدوث عمى أخلاقي إسرائيلي واضح للعيان. وقد قدم الشيخ جراح كل الأدلة اللازمة على ذلك، فهو وإن لم يكن حافزاً لرد حماس القاتل ولا يضفي الشرعية عليه، إلا أنه قوض مصداقية إسرائيل الأخلاقية وقوض قدرتها على سماع حججها الأخلاقية. وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لخسارة هذه الحرب((Donniel Hartman, Why Israel lost this war, Times of Israel, 19/5/2021.)).
  1. خسارة حرب الأفكار والحقائق:

       يعتبر دونيل هارتمان أن خسارة إسرائيل لحرب الأفكار والحقائق هو سبب مهم آخر لخسارتها الحرب ضد غزة، فيقول: هناك سبب آخر أكثر أهمية لهزيمتنا، وهو أننا في صراعنا مع الفلسطينيين لسنا منخرطين فقط في صراع عسكري، ولكن في صراع أفكار وروايات: هل لنا الحق في الأرض ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأرض؟ من كان هنا أولاً ؟ من المسؤول عن الصراع المستمر؟ من هو العائق الرئيسي للسلام ؟ من بدأ هذه الحرب الأخيرة ؟ ومن بدأ كل حرب ؟ وفي كل حالة هناك حقائق قد تكون في بعض أو معظم الحالات محل نزاع لذا لابد من عرض أدلة وسماع الشهود. لقد تم نزع الشرعية نحن اليهود والإسرائيليين لفترة طويلة لدرجة أننا لا نستطيع التوقف عن مناقشة قضيتنا بالحقائق. المشكلة هي أننا نجادل الآن في القضية الخاطئة ونقدم الحقائق التي لم تعد مهمة:

  • فحقيقة أن حماس تريدنا قتلى وحرضت على هذه الحرب الأخيرة، لا تضفي الشرعية على كل رد إسرائيلي.
  • وحقيقة أن الفلسطينيين رفضوا معايير كلينتون للسلام قد تفسر منذ ذلك الوقت سبب عدم إحراز تقدم نحو حل الدولتين، لكنها لا تبرر التوسع الاستيطاني الإسرائيلي ولا تبرر استحالة الآن ولا في المستقبل، ولا تبرر كذلك استمرار التمييز ضد الفلسطينيين.
  • وحقيقة أن الفلسطينيين رفضوا كل حل سلمي منذ عام 1947، لا يحسن التصور العام بأن إسرائيل لم تعد تسعى إلى سلام عادل، ولا يحسن اعتمادها على قوتها.

      للفوز في سوق مفتوح للأفكار، فإننا نحتاج إلى استيعاب أننا لا نستطيع التحكم في السوق. فهو سوق مفتوح بحكم التعريف((Donniel Hartman, Why Israel lost this war, Times of Israel, 19/5/2021.)).


خامسا: خلاصة الحرب وما بعدها من وجهة نظر إسرائيلية

       تحاول إسرائيل الخروج من الفخ الذي أدخلتها فيه حماس أثناء حربها مع غزة، وأن تتصدى للمعادلة الجديدة التي أرستها حماس في هذه الحرب، وأن تعمل على تحجيمها عسكريا وسياسيا. وفي هذا الإطار يقدم اللواء احتياط يعقوب أميدرور الرئيس الأسبق لجهاز الأمن القومي الإسرائيلي مجموعة من التوصيات للخروج من فخ حماس واستعادة الردع المفقود، فيقول:

  • إذا لم يتضح في القريب العاجل أن حماس لم تحقق شيئًا في القدس، فإن شهيتها بلا شك ستزداد للقتال في المرة القادمة، و تقديم نفسها على أنها مدافع عن المصالح الفلسطينية الأخرى.
  • يجب على إسرائيل أن تعمل على استعادة هالة أنها لا تُقهر، والتي تعتمد عليها مكانتها في المنطقة. لقد فقدت إسرائيل بعضا من تلك المكانة نتيجة للنتائج المرئية لعملية حراس الأسوار.
  • يجب على إسرائيل التخلي عن مبدأ الرد النسبي، والذي يتضمن عادةً الرد على النيران مع تجنب إصابة الأهداف. هذا النهج يصب في مصلحة حماس. بدلاً من ذلك، يجب على الجيش الإسرائيلي أن يرد بقوة، مع العلم أنه من المرجح أن ترد حماس بإطلاق الصواريخ لفترة طويلة. عندها فقط يمكن لإسرائيل أن توضح أنها مستعدة لدفع هذا الثمن لتحقيق ردع حقيقي. طالما أن إسرائيل تبدو غير راغبة في المخاطرة بالمواجهة، فإن حماس، بدلاً من ردعها، ستفهم أنها ردعت الجيش الإسرائيلي.
  • في المفاوضات التي تجري بمساعدة مصر من أجل تسوية مع غزة، يجب على إسرائيل أن توضح أنها لن تسمح بإعادة تسليح حماس. خلاف ذلك، ستواجه إسرائيل عدوا أقوى بكثير في العملية المقبلة بعد بضع سنوات من الآن.
  • إذا أتيحت لإسرائيل، إما بعد وقف إطلاق النار أو اتفاق تفاوضي، فرصة للقضاء على كبار مسؤولي حماس أو الجهاد الإسلامي أو منشآت تصنيع الذخائر في غزة، فإن صناع القرار سيواجهون خيارًا صعبًا يتمثل في أن يكونوا هم أول من يكسر وقف إطلاق النار، مما سيؤدي على الأرجح إلى جولة أخرى طويلة من العنف مع ما يصاحب ذلك من هجوم على إسرائيل في الساحة الدولية. ومع ذلك، فإن الامتناع عن العمل سيمكن حماس من إعادة تسليحها، ويضع إسرائيل في موقف صعب في المرة القادمة التي يندلع فيها القتال. ستكون مسألة الهجوم الوقائي أصعب قرار للقيادة الإسرائيلية بسبب الانعكاسات السلبية لضبط النفس.
  • من غير المحتمل أن تختفي أي من هذه المعضلات في أي وقت قريب، ولن أتفاجأ إذا كانت القدس تزن نفس الأسئلة بعد عشر سنوات من الآن. هناك من يجادل بأن الوضع الحالي لا يمكن تحمله، واقترحوا محاولات دراماتيكية لتغيير الوضع الراهن: إما من خلال اتخاذ إجراءات عسكرية أشد لتحقيق النصر، أو محاولة استعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة، أو منح حماس امتيازات اقتصادية مهمة. من غير المرجح أن تنجح مثل هذه الاقتراحات في المستقبل المنظور.
  • ستظل حماس، على الأرجح، منظمة إرهابية تسعى إلى تدمير إسرائيل بالكامل، وسيتعين على إسرائيل الاستمرار في استخدام القوة لاحتوائها وردعها((Major General (res.) Yaakov Amidror, There is No Clear-Cut Solution for Gaza, The Jerusalem Institute For Strategy & Security, 16/6/2021.)).

سادسا: استنتاجات وتوصيات

       نخلص مما سبق أنه ستسعى إسرائيل إلى تلافى آثار ونتائج الهزيمة الاستراتيجية التي منيت بها في هذه الحرب، وتحجيم حماس سياسيا وعسكريا، ومنعها من تعويض مخزونها من الأسلحة وإعادة إصلاح ما دمر من أنفاق، وذلك عبر الوسائل التالية:

  1. اتباع سياسية التصعيد منخفض الحدة ضد أي عمل مقاوم ولو كان بالونا حارقا.
  2. استهداف قيادات المقاومة.
  3. ربط الإعمار والمساعدات الإنسانية بعودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة القطاع وجعل الإعمار تحت إشراف دولي وأممي وإقليمي.
  4. تفعيل سياسة السلام الاقتصادي وربط تحسين الأوضاع المعيشية والإنسانية في القطاع بمدى الهدوء الفعلي على الأرض ومدى وموافقة سلطة حماس على شروط العدو لإعادة الإعمار.
  5. حملات دعائية وإعلامية لتحسين وجه إسرائيل ورمي المقاومة بالإرهاب وتهديد حياة المدنيين سواء في غزة أو الداخل المحتل.
  6. إجهاض التحركات الشعبية الفلسطينية في الضفة عبر زيادة التنسيق الأمني مع سلطة عباس واعتقال القيادات المؤثرة في الضفة أو تصفيتها عبر التنسيق الأمني مثلما حدث مع الناشط نزار بنات.
  7. ستسعى إسرائيل بقوة إلى إجهاض معادلة ربط غزة بالقدس التي أرستها حماس في هذه الجولة؛ لأن فيها ضرب أحد الأسس الرئيسية للمشروع الصهيوني المتعلق باعتبار القدس العاصة السياسية والدينية للكيان. لذا، لن تتوقف الانتهاكات اليهودية بحق الأقصى ولن تتوقف مشروعات الاستيطان بالقدس، ولكنها ستكون بوتيرة أقل وسياسة الخطو خطوة.

       في ضوء ما سبق، وفي ضوء ما حققه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وجموع المتعاطفين معه في العالم كله من إنجاز كبير، فإنه يجب على الشعب الفلسطيني أينما كان أن يستثمر هذه الهزيمة الاستراتيجية التي تلعق إسرائيل جراحها اليوم. وعليه أيضا أن يستثمر الرأي العام العالمي الداعم له والذي أعاد بقوة السؤال حول مدى مشروعية إسرائيل: مشروعية قيامها، ومشروعية بقائها باعتبارها نظام فصل عنصري. وفي هذا الإطار نذكر ببعض الأمور:

  • تفعيل واستدامة صور وفعاليات المقاومة الشعبية لتشمل كافة أرجاء فلسطين وفلسطينيي الشتات لمواجهة الانتهاكات المستمرة بالقدس، والاستيطان، وسياسة الكانتونات التي تقسم الضفة الغربية إلى 165 منطقة معزولة، وكذلك سياسة الحصار الكامل للقطاع، ويجب أن تتناسب الفعاليات مع ظروف كل منطقة والأحداث الجارية والمؤثرة فيها.
  • تغطية إعلامية جيدة للأحداث التي تجري على الأرض مع استمرار الاستخدام الجيد والفعال لوسائل التواصل الاجتماعي على غرار ما حدث في الحرب الأخيرة.
  • التواصل المستمر مع حركات المجتمع المدني على النطاق العالمي، وترسيخ مصطلحات مهمة في الخطاب الإعلامي لها تأثيرها على الرأي العام الغربي كمصطلح الأبارتاهيد والتمييز العنصري والإبادة الجماعية.
  • تذكير العالم بالهولوكوست الفلسطيني الذي كانت الدول الكبرى وعلى رأسها بريطانيا سببا في حدوثه، واعتبار ذكرى النكبة هو يوم الهولوكست الفلسطيني، مع مطالبة هذه الدول بدفع تعويضات للشعب الفلسطيني عن سنوات اللجوء والشتات دون التفريط في حق العودة.
  • وكذلك تذكير العالم دوما بجرائم إسرائيل من محو وإبادة القرى الفلسطينية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم طبقا للقانون الدولي.
  • ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة قضائيا والمطالبة بتعويضات لمن تضرروا من المدنيين الفلسطينيين سواء من جراء الحصار أو جرائم الحرب في الجولة الحالية والجولات السابقة.
  • عمل دعوة عالمية لإحياء اعتبار الصهيونية حركة عنصرية والذي تم إلغاؤه عقب “اتفاقية أوسلو”.
  • تنشيط المقاطعة العالمية لمنتجات المستوطنات.
  • يوم تضامن عالمي مع القطاع لرفع الحصار عنه، والتأكيد على أن قطاع غزة مازال تحت الاحتلال الإسرائيلي.
  • إفشال محاولات عباس للسيطرة على قطاع غزة أو اعتباره إقليما متمردا.
  • مطالبة العالم بعقد انتخابات لاختيار سلطة فلسطينية ومجلس تشريعي للتحدث باسم الشعب الفلسطيني بديلا عن سلطة دايتون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى