الحركات الانفصالية ومشروع تقسيم الجزائر

أ.د عمر روابحي

مقدمة:

تعبث مشاريع تقسيم الدول أساسًا بحدودها البرية والبحرية والجوية المتعارف عليها تاريخيًا، أو بعد جلاء الاستعمار الحديث عنها، وقد قام التصوّر الجزائري للحدود على التمسك والاعتراف بالحدود الموروثة عن الاستعمار الفرنسي، واستبعاد السرديات المتعلقة بالتاريخ والامتدادات الجغرافية للإمبراطوريات والممالك السابقة، غير أن هذا التصوّر الجزائري للحدود يتعارض مع السياسات الدولية “ما بعد الاستعمارية” التي تقوم على تغذية النزعات الانفصالية، بل ويتعارض حتى مع تصورات بعض دول الجوار عن الحدود؛ حيث تقبل الحدود الموروثة عن الاستعمار على مضض وتستبطن في أدبياتها ودبلوماسيتها تصوّرًا يقوم على السرديات التاريخية والولاءات القبلية القديمة.

وتستثمر مشاريع التقسيم في التنوعات العرقية، واللغوية، والمذهبية، والدينية المكوّنة للمجتمعات المستهدفة، وفي حالات نادرة فقط نجحت بعض القوى الدولية في صناعة بعض الأقليات وتوظيفها لمصلحتها على المدى البعيد؛ كما فعلت بريطانيا في شبه القارة الهندية.

ولا يُشبه التنوع في الأمة الجزائرية ـ ويمكن تعميم ذلك على دول المغرب العربي- نظيره في المشرق العربي، فإذا كانت السمة البارزة للتنوع في المغرب هي: العرق واللغة، فإن السمة البارزة للتنوع في المشرق هي المذهب والدين وهما أخطر أنواع المداخل التي يمكن أن تلج من خلالها أيّة مشاريع تقسيم خارجية، لاسيما إذا ما كانت الدولة هشّة، وبالمقارنة مع خارطة التنوّع في المشرق، يُعدُّ المغرب أكثر تجانسًا، غير أن طبيعة الاستعمار الذي تعرّض له تفقده ميزة التجانس المذهبي والديني، على اعتبار خضوع المنطقة كلها، لاسيما الجزائر، إلى المسح الانثروبولوجي القبلي الشامل للاستعمار الفرنسي، وهو المسح الذي يستثمر في التباينات العرقية اللغوية أكثر من التباينات المذهبية الدينية.

وفي الحقيقة، لا يمكن التطرق لموضوع مشروع تقسيم الجزائر، دون الرجوع إلى دور الاستعمار الفرنسي في هذا الملف، وهو ما سعى هذا التقرير إلى التركيز عليه في المحور الثاني، محاولًا استكشاف الأدوار الفرنسية في النفخ في الهويات الجزئية، وتعزيز النزعة البربرية الانفصالية، ولأنه لا يوجد دخان من دون نار، فقد تطرّق الجزء الأول من التقرير إلى ما يُعرف بالقابلية للانفصال، وذلك من خلال استعراض مختلف النزعات والحركات الانفصالية الموجودة داخل الجزائر حاليًا، والتي يدخل عليها دائمًا العامل الخارجي فيغذيها ويعززها.

أولًا: النزعات والحركات الانفصالية داخل الجزائر

تتميز النزعة الانفصالية بأنها مكوّن ثقافي خاص لمجموعة بشرية ما، مغاير لما حولها من مكونات ثقافية تتميز بها المجموعات الأخرى، أو على الأقل تحاول أن تبدو كذلك، فإذا انتقلت هذه النزعة من حالة الشعور بالتميّز إلى حالة التنظيم فإنها تتحول إلى حركة انفصالية، ويُعدُّ الشعور بالاضطهاد أو صناعة الشعور بالاضطهاد سمةً بارزةً لجميع الحركات الانفصالية في العالم، وعلى أساس هذا الشعور يُحشد الأنصار والأتباع.

وتعرف الجزائر مثل كثير من الدول نزعات انفصالية بقيت حبيسة الحالة الشعورية، وأخرى تطورت لتشكّل حركات منظمة ومؤثرة في المشهد السياسي والأمني، وتُعدُّ الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبائل (الماك) أبرز حركة انفصالية ظهرت في الجزائر في سنة 2001((Mourad Fenzi, « Entretien avec Ferhat Mehenni », Liberté , 14/12/2016, disponible sur : (shorturl.at/zFH58), visité le 20/10/2021.))، على خلفية أحداث العنف التي عرفتها منطقة القبائل بين سكان المنطقة وأجهزة الأمن لاسيما جهاز الدرك الوطني، وقد عُرفت هذه الأحداث باسم الربيع الأمازيغي، وتطالب حركة الماك باستقلال منطقة القبائل عن الجمهورية الجزائرية.

وفي عام 2010 أعلنت حركة الماك من باريس عن تشكيل حكومة قبائلية مؤقتة في المنفى، وبدأت منذ ذلك الحين في استخراج وثائق رسمية مثل جوازات السفر وبطاقات التعريف لمواطني ما تسميه بالدولة القبائلية((Siwel, « Carte d’identité kabyle (CIK) : une forte demande selon le MAK », 02/09/2012, disponible sur : (https://www.siwel.info/carte-didentite-kabyle-cik-une-forte-demande-selon-le-mak_3380.html), visité le 20/10/2021; Kabyle.com, « La Kabylie se dote d’un passeport ! », 16/06/2020, disponible sur : (https://kabyle.com/la-kabylie-se-dote-dun-passeport), visité le 20/10/2021.))، وتتبنى أدبيات حركة الماك وخطابها السياسي والإعلامي المفاصلة الشاملة مع كل ما يميز عموم الجزائريين لغةً ودينًا، فهي تَعدُّ اللغة العربية والدين الإسلامي هويةً ثقافيةً مفروضةً من طرف المحتل الجزائري؛ لذلك فهي لا تستخدم إلا اللهجة القبائلية واللغة الفرنسية في التعبير.

وعند الغوص في جذور حركة الماك، فإنَّ البعض يعدُّها جزءًا من التطور الطبيعي الذي سلكه تيار خرج من رحم الحركة البربرية، وهي حركة تطالب بالاعتراف بهوية ثقافية جزئية وليست حركة انفصالية، وقد غذّت ممارسات النظام السياسي القمعية هذا التيار ودفعته إلى تبنّي خيار الانفصال، بالإضافة إلى عوامل أخرى لعبت أيضًا دورًا مهمًّا في تشكّل خطابه السياسي كالدور الفرنسي بصفته الراعي الرسمي لقيادات حركة الماك((K.B, « Le site sioniste -Tribune Juive- sert de relais à la propagande du MAK », Algériepatriote, 17/12/2017, disponible sur : (shorturl.at/lpuKQ), visité le 19/10/2021.)).

واستفادت حركة الماك من إحجام النظام السياسي في الجزائر عن تجريمها لسنوات طويلة، وقد نسجت خلال ذلك شبكاتها وجندت الآلاف من الأتباع في منطقة القبائل – كما تظهر ذلك أعداد المتظاهرين المتعاطفين معهم في عدة مناسبات – بيد أن هذا الوضع تغيّر ابتداءً من شهر مايو 2021؛ حيث أدرجها المجلس الأعلى للأمن ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وتبع هذا القرار صدور عدة نصوص قانونية وتنظيمية تُشَرْعِن لهذا التجريم، وتحتوي على تدابير ردعية ضد منتسبي الحركة((انظر: الأمر رقم 21-08 مؤرخ في27 شوال عام 1442 الموافق 8 يونيو سنة 2021، يعدّل ويتمّم الأمر رقم 66-156 المؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 والمتضمن قانون العقوبات؛ المرسوم التنفيذي رقم 21-384 مؤرخ في 30 صفر عام 1443 الموافق 7 أكتوبر سنة 2021، ويحدد كيفيات التسجيل في القائمة الوطنية للأشخاص والكيانات الإرهابية والشطب منها والآثار المترتبة على ذلك.))، ولما اندلعت الحرائق المهولة في مناطق واسعة من غابات الشمال الجزائري صيف 2021، سارعت السلطات في الجزائر إلى اتهام حركة الماك بالوقوف وراءها مع ربطها بجهات أجنبية كالمغرب وإسرائيل((بي بي سي عربي، “ماك ورشاد: ماذا تعرف عن هاتين الحركتين؟ ولماذا صنفتهما الحكومة الجزائرية ضمن قائمة الإرهاب؟” 19/08/2021، متوفر على الرابط: (https://www.bbc.com/arabic/middleeast-58269903)، تمّت الزيارة بتاريخ 18/10/2021.)).

ويرى البعض أنه رغم احتمال استفادة حركة الماك من دعم المغرب لها كمقابل لدعم الجزائر لحركة البوليساريو، وهو الأمر الذي يعززه إقدام مندوب المغرب عمر هلال على توزيع مذكرة على الوفود الرسمية المشاركة في اجتماع منظمة عدم الانحياز بين 13 و14 يوليو/ تموز 2021، ورد فيها إعلان دعم المغرب لحقّ تقرير مصير شعب القبائل((حسن زنيند، “منطقة القبائل تغيّر قواعد الاشتباك بين المغرب والجزائر”، موقع دي دبليو DW، 01/09/2021، متاح على الرابط: (https://p.dw.com/p/3zmCO )، تمّت زيارة الموقع في 10/10/2021.))، إلا أن ربط حركة الماك بالإرهاب هو قرار مسيّس؛ لأن تعريف الارهاب مرتبط أساسًا بانتهاج العنف كوسيلة للتغيير السياسي، وهو ما لم يُعرف عن حركة الماك، اذا استثنينا دعوة زعيمها في عهد قريب إلى حمل السلاح ضد السلطات في منطقة القبائل، وهي الدعوة التي لم تلقَ أصداءً واسعةً لا في الجزائر ولا في خارجها، وقد بدت غير مقنعة لِطَيفٍ واسعٍ من الأمازيغ أنفسهم، حتى القوميين منهم((عثمان لحياني، “دعوة تسليح الأمازيغ وانفصالهم في الجزائر: قنبلة صوتية؟” العربي الجديد، 11/06/2018، متوفر على الرابط: (shorturl.at/aqB89)، تمّت زيارة الرابط بتاريخ 21/10/2021.)).

ولكن لمَ تلجأ السلطات الجزائرية إلى اتهام المعارضة الراديكالية أو الانفصاليين بتهم الإرهاب وتعدّل القوانين في هذا المسار؟ على الرغم من أن هذه القوانين ذاتها تنصّ على جرائم يمكن أن تنطبق على هذه الحركات مثل جريمة القضاء على نظام الحكم أو تغييره((قانون العقوبات الجزائري، المادة 77 (معدّلة).))، والجواب هو رغبة النظام السياسي في تكييف خطاب مقنع للدول الغربية عمومًا نظرًا لحساسيتها في قضايا الإرهاب الدولي، وبالتالي تسهيل استلام القيادات المعارضة أو الانفصالية التي تعيش معظمها في هذه الدول.

وإذا كانت حركة الماك هي الحركة الانفصالية الأظهر في الجزائر، فهناك حركة أخرى تأسست سنة 2004 على خلفية التهميش والقمع بالجنوب الجزائري، وتُدعى حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة، وفي الحقيقة لا يُعرف عن هذه الحركة تبنٍّ للانفصال بشكل علني، لكنها حركة بدأت بشكل سلمي ثم تحولت إلى العمل المسلح، وتصنفها السلطات في الجزائر كحركة إرهابية وانفصالية، وقد تراجع دورها بشكل كبير خاصة بعد مقتل زعيمها عبد السلام طرمون سنة 2018 بمنطقة سبها بليبيا((ياسر قاديري، “رمال متحركة… كيف يدفع القمع والتهميش جنوبي الجزائر إلى التمرد؟”، ساسة بوست، 20/02/2021، متاح على الرابط: (https://www.sasapost.com/algerian-south-and-the-states-opression/)، تمّت الزيارة بتاريخ 22/10/2021.)).

ويُعدُّ ملف قبائل الطوارق، التي تمتد وتتوزع على مختلف دول جنوب الصحراء كمالي والنيجر وليبيا((برباش رتيبة، “مشكلة الطوارق في منطقة الساحل الأفريقي وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري”، المجلة الجزائرية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، العدد 9، ديسمبر 2017، ص. 245.))، من الملفات بالغة الحساسية في معادلة الأمن القومي الجزائري. فقد شعرت الجزائر بثقله الاستراتيجي غداة قيام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بإنشاء معسكرات لتدريب الطوارق، ومحاولته إنشاء حركة “طارقية” تطالب بالاستقلال وإقامة دولة لها في المنطقة، وبعد سقوط نظام القذافي والتطورات المتلاحقة في شمال مالي دخلت “الجماعات المتطرفة” ((كجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تمثّل تنظيم القاعدة في مالي والساحل، وهي عبارة عن اتحاد ضمّ 4 جماعات متشددة بقيادة إياد أغ غالي زعيم جماعة أنصار الدين، وهو من قبائل طوارق شمال مالي، وجماعة تحرير ماسينا بقيادة أمادو كوفا، كما ضمّ هذا الاتحاد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب وكتيبة المرابطين. انظر تقرير وكالة الأناضول (shorturl.at/oqxQ5).))على الخط واختلطت بالجماعات الطارقية التي تناضل منذ عقود ضد تهميشها من طرف الحكومات المتعاقبة في مالي والنيجر، وكان هذا عامل تهديدٍ كبيرٍ أيضًا للأمن القومي الجزائري من ناحية الجنوب((برباش رتيبة، مرجع سابق، ص.ص 249-250.)).

وليس بعيدًا عن مناطق الطوارق بجانت وإليزي وكذلك منطقة ورقلة، شهدت منطقة غرداية تأسيس ما سمّي بـ”الحركة من أجل الحكم الذاتي” لوادي ميزاب، وهي منطقة يتعايش فيها المكوّن الإباضي الأمازيغي والمكوّن العربي المالكي منذ قرون، وقد أعلن عن إنشاء هذه الحركة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار في يونيو 2014((عبد الله إبراهيم، “الإعلان عن ميلاد الحركة من أجل حكم ذاتي لميزاب”، التحرير، 02/06/2014، متاح على الرابط: (https://www.altahrironline.dz/ara/articles/32409)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.))، وينتمي فخار لتيار هامشي داخل المكون الإباضي – الذي لا يُعرف عنه النزعة الانفصالية بقدر ما تُعرف عنه النزعة الانعزالية للحفاظ على المذهب الإباضي- وقد عُرف فخار ومجموعته بعلاقاتهم الوثيقة مع حركة الماك وقربهم من النزعة البربرية عمومًا، وقد انتهى الوجود الفعّال لهذه المجموعة بعد وفاة كمال الدين فخار في مستشفى بالبليدة (غرب العاصمة الجزائرية) تبعًا لإضراب عن الطعام دام أكثر من 50 يومًا، نفّذه احتجاجًا على ظروف سجنه((فرانس 24، “الجزائر: وفاة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار بعد إضرابه عن الطعام في السجن”، 28/05/2019، متاح على الرابط: (shorturl.at/tDIYZ)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.)).

وبالحديث عن الصحراء أو الجنوب الجزائري، لا تخطئ عين الباحث والمُلاحِظ تنامي النزعة الانفصالية لدى فئة الشباب على وجه الخصوص؛ بسبب التوزيع غير العادل للثروة والمشاريع التنموية بين مدن الشمال والجنوب، ففي حين يقف سكان الجنوب فوق مقدرات هائلة من بترول وغاز ومعادن تستخرج من تحت أرجلهم، لا يجدون عملًا ولا سكنًا ولا مستشفيات محترمة للعلاج بها((دالية غانم، “عقب أخيل الجزائر؟ جهوية الموارد في ورقلة”، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 11/05/2021، متاح على الرابط: (https://carnegie-mec.org/2021/05/11/ar-pub-84273)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.))، وبقياس وتيرة الاحتجاجات الشعبية تعرف مناطق الجنوب الجزائري وتيرة عالية جدًا مقارنة بمناطق الشمال، وعلى امتداد سنوات سابقة للحراك الشعبي الكبير في فبراير 2019((حجال سعود، “الحركات الاحتجاجية في جزائر اليوم: الفعل الاحتجاجي لدى الشباب البطّال، تحليل لأحداث الجنوب في ورقلة 2013″، مجلة مجتمع تربية عمل، عدد 1، رقم 1، ص. ص 29-46.))، بَلْهَ إن هذه الاحتجاجات المتصاعدة ساهمت بشكل فعّال في الوصول إلى لحظة الحراك الكبير التي أسقطت بوتفليقة وجزءًا من منظومة حكمه((يوسف كامل، “احتجاجات جنوب الجزائر … هل هي شرارة ثورة اجتماعية؟”، ساسة بوست، 16/07/2021، متاح على الرابط: (https://www.sasapost.com/south-algeria-protests/)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.)).

ثانيًا: مساعي تقسيم الجزائر

لا تنفّذ مشاريع التقسيم الخارجية ضد أي دولة ما لم تكن هناك قابلية داخلية للتقسيم والانفصال، فإن لم تكن هذه الثغرات الداخلية موجودة، صنعتها القوى الخارجية وصبرت عليها سنوات طوال، وفي هذا المسار الاستراتيجي طويل الأمد استثمرت فرنسا منذ احتلالها للجزائر في سياسة فَرِّقْ تَسُدْ، فدمّرت وأغلقت وحاصرت المؤسسات التي تعبّر عن الهوية الجامعة للجزائريين، والمتمثلة في اللغة العربية والدين الإسلامي، كالمدارس والكتاتيب والمساجد، ونفخت في الهويات الجزئية وعزّزتها، ففي حين كانت اللغة العربية محظورة في المؤسسات الفرنسية الرسمية للتعليم، قامت فرنسا بإنشاء شهادة البروفيهBrevet في اللهجة القبائلية بتاريخ 28/07/1885، ثم أنشأت بعدها دبلوم اللهجة البربرية بتاريخ 27/12/1887، وفي 25/02/1930 أنشأت فرنسا في كلية اللغات بجامعة الجزائر قسمًا خاصًا باللغة البربرية والحضارة البربرية يدرّسها فرنسيون((انظر الأرشيف الملحق في آخر المقال.)).

أدت هذه السياسة الاستعمارية القائمة على التمييز بين العرب والبربر، وتعزيز الهويات الجزئية إلى تفجّر ما عُرف بالأزمة البربرية سنة 1949 داخل الحركة الوطنية بقيادة الزعيم مصالي الحاج؛ حيث ظهر بشكل جلي تياران، الأول منافحٌ عن الهوية الجامعة التي تجد في اللغة والدين دعامتان أساسيتان لها، والثاني منافحٌ عن القومية البربرية ومتأثرٌ بالأطروحات التاريخية والأنثروبولوجيا الفرنسية((فاطمة لعجيمي، الأزمة البربرية 1949م وتأثيرها على مسار الحركة الوطنية الجزائرية، مذكرة لنيل شهادة الماستر في التاريخ، جامعة بسكرة، 2015، ص.10.))، وقد امتد هذا التشظّي وتوسّع إلى ما بعد قيام الدولة الجزائرية الحديثة، ولا يزال يُلقي بظلاله وبتوظيف من فرنسا إلى غاية اليوم؛ من خلال تعطيل مسيرة التعريب من طرف النخب البيروقراطية البربرية المفرنسة، وكذلك الدعم غير المحدود لحركة الماك وقياداتها المقيمة بفرنسا.

ومن ضمن مشاريع التقسيم الخارجية والتي لها جذور تاريخية أيضًا، قضية فصل الصحراء عن الجزائر المستقلة، وهي القضية التي أدت إلى استمرار حرب التحرير الجزائرية بضع سنين أخرى من أجل إسقاطها من المشروع الفرنسي((صباح نوري هادي العبيدي، مشاريع التقسيم الاستعمارية في الوطن العربي: مشروع فصل الصحراء عن الجزائر، ومحاولة تقسيم العراق، مقاربة تاريخية”، المجلة المغاربية للمخطوطات، العدد 5، جوان 2017، ص. 279.))، بيد أنها عادت لتطرح وتجد لها أنصارًا داخليين؛ بسبب فشل الدولة الجزائرية المستقلة في تنميتها وتحصينها من الناحية الديمغرافية.

الخاتمة:

من الدعائم الأساسية التي بُنيت عليها السياسة الخارجية الجزائرية، الالتزام بدعم الشعوب في تقرير مصيرها((عبد الرؤوف بن الشيهب وعبد الكريم كيبش، “السياسة الخارجية الجزائرية بين تهديدات دول الجوار ومتطلبات التكيّف”، مجلة الباحث الاجتماعي، العدد 14، 2018، ص.504.))، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول((المرجع نفسه، ص 506.))، ومدار المبدأ الأول هو مناهضة الاستعمار، أمّا المبدأ الثاني فينصرف إلى عدم الانخراط في الاضطرابات القائمة داخل الدول المستقلة. وفق هذا المنظور يمكن توصيف السياسة الخارجية الجزائرية أنها سياسة دفاعية في ردود فعلها على التهديدات الأجنبية، وهي بعد ذلك سياسة واقعية تعتدُّ بموازين الضعف والقوة في تقدير حجم ردّات الفعل ضد الاستهداف الخارجي، يتضح ذلك جليًا عند المقارنة بين مستوى الردّ الجزائري على فرنسا مع الردّ على المغرب، ففي حين لجأت السلطات في الجزائر إلى إغلاق المجال الجوي في وجه الطائرات المغربية، ثم قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب على خلفية التطبيع مع الكيان الصهيوني والتصريحات المتعلقة بالدعوة إلى تقرير مصير منطقة القبائل، لم تكن هناك إجراءات مماثلة مع فرنسا التي تحتضن كل قيادات “حركة الماك”، وصدر عن رئيسها تصريحات تلغي وجود الأمة والدولة الجزائرية برمّتها، واكتفت السلطات الجزائرية بتعليق الاتصالات الدبلوماسية مع الإليزيه واستدعاء السفير للتشاور.

ولمواجهة التهديدات الانفصالية تعتمد الجزائر على قوتها الناعمة في علاقتها مع حكومات الجوار، وعندما تفشل هذه الحكومات في إدارة حدودها والتحكم في الجماعات التي تنشط على أراضيها، فإن العمليات الأمنية هي البديل الذي تلجأ إليه السلطات في الجزائر عمومًا، وهي تمتلك المفاتيح لذلك منذ سنوات طويلة.

ورغم أن النظام السياسي لا يزال متحكمًا في الوضع إلا أن حالة الضعف التي تعيشها الجزائر كدولة منذ سنوات بسبب غياب الإرادة السياسية لانتقالٍ ديمقراطيٍ حقيقي، وغياب أيّ مسارٍ جادٍّ للحوكمة ومحاربة الفساد المستشري، وتراجع منحنى القوة بسبب الاهتزازات الكبيرة التي أحدثها الحراك الشعبي في عام 2019، ولا تزال تداعياته مستمرة إلى غاية اليوم، دون أن يكون هناك مسارٌ انتقاليٌّ وتمدين نظام الحكم، كلها تشير إلى أن الجزائر اليوم تعيش تهديدًا حقيقيًا لأمنها القومي.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى