ملامح جديدة للأزمة السياسية في مصر

اقرأ في هذا المقال
  • على مدار الأسابيع الماضية، شهدت مصر حالة جدل سياسي بين الحكومة وبعض المعارضين، دار محورها حول الفساد في الجيش وتوسُّع نفوذ عائلة الرئيس عبد الفتاح السيسي،

على مدار الأسابيع الماضية، شهدت مصر حالة جدل سياسي بين الحكومة وبعض المعارضين، دار محورها حول الفساد في الجيش وتوسُّع نفوذ عائلة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك في سياق حملة إعلامية وسياسية أطلقها (محمد علي)، تضمَّنت اتِّهامات مباشرة بالفساد واستغلال السلطة لتحقيق مصالح خاصَّة.

وقد انتقل التناول السياسي للجدل المُثار حول توغُّل الجيش في الاقتصاد الوطني إلى اتِّهام للرئيس ودائرته الاجتماعية، ومن ثَمَّ تحوَّل الجدل إلى اتِّهام سياسي مباشر بإهدار المال العامِّ ورعاية الفساد، وتوريط الجيش في صراعات وأزمات داخلية تصرفه عن مهامِّه الأساسية. فيما مثَّل دخول الرئيس السيسي على خطِّ الأزمة تحوُّلًا في قناعات الشارع السياسي، بشكل ساهم في ظهور مطالب للجيش بعزله.

وردَّ فعل على نشر وسائط مرئية (فيديو) تتناول الفساد في قطاع (الهيئة الهندسية) في الجيش، ظهرت مؤشِّرات على وجود اختلاف في التعامل مع هذه الاتِّهامات. إذ يتَّضح من حديث السيسي في مؤتمر الشباب الأخير، أنه كان ثمَّة وجهتا نظر للتعامل مع الموقف، أولاهما في تجنُّب الردِّ على المستوى السياسي، والاقتصار على معالجة الأمر إعلاميًّا، فيما عمل الرئيس بوجهة النظر الأخرى، فكان موقفه مختلفًا، إذ تحدَّث علانيةً نافيًا تلك الاتِّهامات.

وشغلت قضية مكافحة الإرهاب محور ردِّ الحكومة في مؤتمر الشباب على الاتِّهامات الموجَّهة إلى الرئيس، وكانت المناقشات منصبَّة على محورين: دور الحكومة في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار السياسي، وطرق الدعاية لتشويه الحكومة. ويمكن ملاحظة أنه منذ انعقاد المؤتمر، كانت المواقف في حالة ردِّ فعل على آثار الحملة الإعلامية التي يقودها محمد علي، وهي حالة ظلَّت مسيطرة على المشهد السياسي، بطريقة وضعت الحكومة تحت ضغط الاستجابة لتحرُّكات الجماهير.

ولمَّا بلغت هذه الحملة ذروتها مع الدعوة إلى التظاهر في 20 سبتمبر/أيلول الماضي لأجل إسقاط السيسي، بدا موقف الدولة تجاه الاحتجاج متَّجهًا نحو تبنِّي مسارين، أوَّلهما متمثِّل في ترك المجال للمحتجِّين، إذ ظهرت مشاهد لافتة لخلوِّ الشوارع من المظاهر الأمنية، كما تضمَّنت خطبة الجمعة الحثَّ على مقاومة الظلَمة والمتكبِّرين، بصورة تكشف عن وجود جهات رسمية ترحِّب بهذه الاحتجاجات.

لكنَّ موقف الحكومة في الأيام التالية قد تغيَّر، إذ تطوَّرت سياستها إلى نشر قوَّات الأمن وتوسُّعها في الاشتباه، حتى صار كلُّ المعارضين في مرمى اعتقالاتها، بغضِّ النظر عن دورهم في التظاهر. وفي هذا السياق، اعتقلت الشرطة الكثير من الشخصيات السياسية من كلِّ الخلفيات، وزاد المشهد ارتباكًا بإخضاعها كلَّ المواطنين للتفتيش في الشوارع ثم توقيفهم في المقرَّات الأمنية، لكنها بدأت في الإفراج عن أعداد منهم في بداية أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

من جانب آخر، وعلى رغم تزامن بيان مصر في الدورة الـ74 للجمعية العامَّة للأمم المتَّحدة مع الدعوة إلى الاحتجاج وحثِّ الجيش على التدخُّل لعزل الرئيس، هيمنت العلاقات الخارجية على خطاب عبد الفتاح السيسي، إلى جانب طلب المساهمة في مكافحة الإرهاب، وربَّما يرجع هذا إلى طبيعة الاجتماع، إذ تهيمن عليه القضايا ذات الطابع الدولي. وتبدو الدلالة الواضحة في أنَّ تمثيل الرئيس لمصر وعدم إنابة أيِّ مسؤول آخر، أعطى صورة إيجابية عن تماسك الحكم، وذلك على رغم خطاب المعارضة الذي روَّج وجود صراعات تحول دون ظهور الرئيس بصفته ممثِّلًا للدولة. وعلى رغم هذا الظهور الواضح، فإنَّ شروع السيسي بعد عودته في حشد مؤتمرات جماهيرية وتوسيع الملاحقة الأمنية، يعكس جانبًا من القلق جرَّاء الانتقادات التي وُجِّهت إليه المدَّة الأخيرة.

ولهذا اتَّجه السيسي إلى شنِّ حملة علاقات عامَّة عبر مؤيِّديه، لترويج خطاب إصلاحي، تضمَّن في ثناياه الدعوة إلى قبول المعارضة وفتح المجال لحرِّية التعبير والنشاط الحزبي. وهو خطاب يتزامن مع توجُّه الحكومة نحو دعم السلع والمحروقات، إذ تخاطب الفئات الفقيرة والمتضرِّرة من التضخُّم وتحرير الأسعار. وهذه التغيُّرات قد تشير إلى وجود حزمة إجراءات تساهم في خفض الاعتراض على سياسات الحكومة، إلى جانب استعادة مؤيِّديها ومؤيِّدي الرئيس منذ 30 يونيو/حَزِيران 2013، وحشدهم.

أمَّا المسار الثاني فأنَّ الحكومة إزاء تفاقم الأزمة، قد تراجعت عن سياسة تحرير الأسعار وعادت إلى دعم السلع والخدمات، عبر قرارات تخفِّف من وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة، كزيادة دعم الفرد من السلع المدعومة، ومراجعة المستبعَدين من الدعم النقدي. وعلى رغم العجز المالي، فإنه بإمكان الحكومة تمويل تلك القرارات، لكنَّ هذه السياسة تواجه تحدِّيات من تباطؤ النموِّ الاقتصادي وتراجع معدَّل الاستثمار الأجنبي المباشر وزيادة خدمة الدين الأجنبي، ولذلك يكون من المتوقَّع أن تتَّسم الإجراءات الحكومية بالطابع المؤقَّت، إذ ساد اعتقادٌ أنَّ الاهتمام بالسياسة النقدية لم يكن إلَّا بسبب تشجيع مؤسَّسات التمويل الدولية، لكنَّ الحكومة وقعت في خطأ أنَّ استقرار الاقتصاد الكلِّي ودعم القطاع الخاصّ، كفيل بجلب رؤوس الأموال. غير أنَّ الخبرة المصرية تكشف عن أنَّ تراجع الاهتمام بتنمية القطاعات الاقتصادية ورفع طاقتها الإنتاجية، ساهم في محدودية أثر السياسة النقدية، الذي ظهر في ارتفاع مستويات التضخُّم والفقر، وهو ما يعني أنَّ استمرار المشكلات الهيكلية يمثِّل تحدِّيًا لقدرة الحكومة على تلبية الحاجات المعيشية للأفراد.

وفي هذا السياق، يرجع جانب من هذه الأزمة إلى أنَّ السياسات الاقتصادية للحكومة الحالية كانت أكثر جرأةً من الحكومات السابقة، بيدَ أنها لم تأتِ بأفكار اقتصادية مختلفة، وظلَّت تعمل على قاعدة أنَّ التغيُّر في السياسة النقدية سوف يقود الإصلاح الاقتصادي، وذلك على رغم أنَّ تجارِب الكثير من الدول النامية عانت الاهتزاز الاقتصادي، ولعلَّ هذا ما يفسِّر الكثير من المشكلات التي واجهها الاقتصاد المصري في العقود الأخيرة. وإذا كان تشوُّه السياسة الاقتصادية يشكِّل قيدًا على التنمية وخروج الاقتصاد من المشكلات المزمنة، فإنَّ ظهور أنماط احتكارية يضعف قدرة الحكومة على إدارة الموارد وعدالة توزيعها. وتكمن أهمية الشكاوى الحالية في تنامي احتكار الجيش لكثير من الأنشطة الاقتصادية، كمشروعات التشييد والمقاولات والغذاء، وهي سياسة تؤدِّي إلى تركُّز الثروة ومركزية القرار الاقتصادي، مخالفةً بذلك قواعد السوق المفتوحة في القطاع الخاصّ.

وفي سياق السياسة المالية، كان لتوسُّع الحكومة في زيادة الرسوم على الخدمات والضرائب، تأثير سلبي في كثير من الفئات الاجتماعية، التي تشمل رجال الأعمال والمهنيين. وثمَّة أمثلة كثيرة على ذلك، منها ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشواطئ.

بشكل عامّ، تكمن تحدِّيات التغيير السياسي والإصلاحات في مدى قدرة الحكومة والمحتجِّين على بناء سياسات متماسكة، وهنا تظهر ثلاثة تحدِّيات رئيسية.

وعلى الرغم من الاهتمام بأوضاع المعتقلين، كان ظهور مطالب خاصَّة بهم أمرًا ثانويًّا، وذلك على خلاف فترة ما قبل ظهور الحملة ضدَّ السيسي. فقد لقي المعتقلون في السجون المصرية اهتمامًا ملحوظًا قبل أسابيع من نشوب الجدل حول الفساد وتوسُّع نفوذ أسرة الرئيس، وكان تناول أمرهم منصبًّا على الوصول إلى حلٍّ لأجل إطلاق سراحهم وتسوية أوضاعهم القانونية. وفيما استقرَّ الإخوان المسلمون على موقفهم بعدم الاعتراف بالنظام أو جعل المعتقلين موضوعًا للتفاوض، ظهرت مواقف أخرى تتبنَّى التوصُّل إلى تسوية سياسية وخاصَّةً بعد وفاة الرئيس السابق، محمد مرسي، عبر تفعيل المادة 241 من الدستور، المتعلِّقة بالعدالة الانتقالية. وقد ظلَّ اختلاف المواقف قائمًا دون البحث عن صيغة مشتركة بين حركات المعارضة، إذ يشير عدم تقدُّمها في وضع المعتقلين إلى مدى ضعفها وانقسامها.

وعلى رغم أنَّ التكلِفة المالية لدعم السلع تشكِّل عبئًا على الموازنة العامَّة، فإنها على المدى القصير توِّفر مظلَّة أمان لصرف الانتباه عن الاستجابة للتظاهر والاعتراض على سياسات الحكومة، فقد تلقَّى الشارع أخبارًا عن سعي الحكومة إلى العودة لدعم السلع بارتياح، وعدَّها من إنجازات الدعوة إلى التظاهر. ومن ثَمَّ، وفي ظلِّ الضغوط على الموازنة العامَّة، فإنَّ الحكومة مطالبة بالإعلان عن ملامح تعديل سياستها المالية، إذ إنها استجابت للاحتجاج والدعوة إلى إسقاط رئيس الدولة، بمراجعة سياسات الدعم دون الإشارة إلى إجراءات أخرى كتقييم السياسة المالية والاقتصادية.

وفيما يتعلَّق بمحرِّكي الاحتجاج، فإنَّ النقطة الأساسية التي ركَّز عليها مؤيِّدو الحَراك قد ارتبطت بالثقة بالمعلومات التي يسردها محمد علي، بصفته قريبًا من الدوائر السياسية، لكنَّ هذه الثقة لم تتحوَّل إلى عمل مشترك.

ونظرًا إلى الصعوبات التي تواجه الحكومة والمعارضة، فضلًا عن طبيعة الأزمة المركَّبة، فإنَّ كلَّ الأطراف تواجه تحدِّيات متماثلة. فكما أنَّ الحكومة تلقى صعوبةً في تمويل أيِّ تعديل في سياساتها، فإنَّ أطراف المعارضة تفتقر إلى القدرة على تقديم مشروع بديل أو جمع شتاتها.

د. خيري عمر

مستشار منتدى السياسات
زر الذهاب إلى الأعلى