التحول السياسي في الجزائر من مأزق النظام إلى مأزق الحراك

اقرأ في هذا المقال
  • هل تُعد الانتخابات الرئاسية فرصة للاستجابة لمطالب الحراك بالتغيير والتحول الديمقراطي، أم إجهاضًا له؟ وهل كانت إجراءات (هيئة الوساطة والحوار) و(السلطة المستقلة للانتخابات) أرضية بناء الثقة مع الشارع؟

 

تشابهت ظروف نهاية العهدة الرابعة لبوتفليقة 2019م وبداية العهدة الأولى له 1999م، فالبلد كان خارجًا من أسوأ مراحل تاريخه المعاصر بعد العشرية السوداء1، وبدأ يعيش مرحلة السلم والأمن متجاوزًا مرحلة الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية، عبر سياسات قانون المصالحة الوطنية. وتزامن ذلك مع طفرة مالية نتيجة ارتفاع أسعار البترول، التي ساهمت بشكل بكبير في استدراك التأخر في التنمية المحلية للبلد، إلا إن سنوات بوتفليقة العشرين في الحكم خلصت إلى أن تعيد البلد إلى ظروف بدايتها نفسها، فصار يعيش أزمات جديدة قديمة، كانت سياقًا لبيئة منتجة لحَراك شعبي.

وكان الإعلان أن الترشح لعهدة خامسة لبوتفليقة هو السبب المباشر في إخراج الملايين من الجزائريين في جمعة 22 فبراير/شباط 2019م، وما بلغ هذا الحراك الشعبي أسابيعه الأولى حتى أظهر انكشافًا عميقًا للنظام السياسي، كان من نتائجه إسقاط مشروع العهدة الخامسة، وتأجيل العهدة وتمديدها، ودفع مؤسسة الجيش بوتفليقةَ إلى الاستقالة. وبات واضحًا أن هذه المؤسسة استرجعت مقاليد الحكم وزمام الأمور، بعد تحييدها وإضعافها لأدوات وأذرع كلٍّ من مؤسسة الرئاسة والدولة العميقة (المخابرات).

والآن، بعد أكثر من عشرة أشهر من الحراك الشعبي، والتي تُعد كافية لقراءة صيرورته من مختلِف جوانبه، فالمشهد السياسي مستقر على وضعه بعد الانتخابات الرئاسية.

يتناول هذا التقرير موضوع الحراك الشعبي الجزائري، مركِّزًا على الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية التي كانت البيئة المنتجة له. كما يبيِّن كيف كان مسار الحراك الشعبي بين فرص الاستجابة وتحديات الإجهاض، متناولًا انفجار الأحداث وانكشاف النظام، ودور الجيش بين المرافقة وإعادة إنتاج النظام، ثم يختتم بالانتخابات الرئاسية ومأزق الحراك.

أولًا: أزمات ما قبل الحراك الشعبي:

الأزمة السياسية:

لقد عمل النظام لسنوات طويلة على عدم إرساء قواعد تداول السلطة، من خلال منع التفعيل الحقيقي للتعددية الحزبية، وعُطِّلت الأطر الوسيطة من مؤسسات سياسية وأحزاب ومجتمع مدني، على رغم وجود العشرات من الأحزاب ووسائل الإعلام، ومئات الجمعيات والمؤسسات المنتخبة (البلدية – الولائية – الوطنية). إلا إنها صارت أطرًا معطَّلة وظيفيًّا وغير مفعلة عمليًّا، ويفتقر أغلبها إلى المصداقية، وذلك بسبب تمييع الفضاء السياسي، وصار المشهد التعددي في الجزائر شكليًّا وصوريًّا فقط، كما يُسمى بديمقراطية الواجهة. وفي العهدة الأولى لبوتفليقة، أُغلقت اللعبة السياسية بالتحالفات الحزبية، وحُوفِظ على عدم تعطيل المسارات الانتخابية، لأنه يتحكم فيها بيسر عبر التزوير الناعم، باستعمال وزارة الداخلية التي تشرف على تنظيمها2.

لم تخرج الجزائر عبر عقود عن نموذج الدولة الريعية، إذ تعتمد على النفط والغاز مشكِّلين معًا نسبة 35% من إجمالي الناتج المحلي، و62 % من عائدات الحكومة، و98% من مداخيل التصدير. وعليه فالبلد يُصنف ضمن الاقتصاديات الأقل تنوعًا، مما يجعله رهينة تقلب أسعار المحروقات في الأسواق العالمي

ثم انعدمت التنافسية السياسية عبر توزيع الكوطات (المحاصصة) على بعض التشكيلات السياسية، كما ضُربت عملية الانتخاب في الصميم بتقزيم المسؤول المُنتخب وإضعاف سلطته وصلاحيته، وتعظيم دور المسؤول المُعيَّن، مما أدى إلى تراجع مصداقية المجالس المنتخبة محليًّا ووطنيًّا. ثم زاد من تعقيد العملية تدخل المال السياسي، الذي أوصل الكثير من رجال المال إلى البرلمان بحثًا عن الحصانة والامتيازات، فسرعان ما آلت إلى بعضهم السلطة حتى في تعيين وزراء في الحكومات. كما تميز المشهد السياسي بغياب رئيس الجمهورية -الذي يملك صلاحيات دستورية واسعة جدًّا- بسبب المرض، منذ العام 2013م.

وكان ترشح بوتفليقة للعهدة الرابعة 2014م -لا سيما لحظة تأدية اليمين الدستوري بعد فوزه- مُهينًا ويبعث على الاحتقان للشعب الجزائري. كيف لا وهم يشاهدون أمامهم رئيسًا عاجزًا عن الحركة والنطق؟ ومع مرور الوقت، صار جليًّا للجزائريين أنهم يشعرون بشغور منصب الرئيس، مع العلم أن البعض منهم عارض العهدة الرابعة في الشارع، فقُمعوا وجرى التصدي لهم بقوة. وصارت هناك فواعل داخل النظام هي التي تحكم في غياب الرئيس، وتستعمل صلاحياته الدستورية، على رأسهم أخوه ومستشاره السعيد بوتفليقة. وكان الحفاظ على بقاء بوتفليقة في الواجهة هدفًا، كونه يُعد توافق مجموعةٍ من المصالح وفواعل النظام، وهذا ما كان دافعًا قويًّا وراء ترشيحه لعهدة خامسة، والتي بدورها خلقت ترددًا كبيرًا وانقسامًا واضحًا داخل النظام نفسه3.

الأزمة الاقتصادية:

لم تخرج الجزائر عبر عقود عن نموذج الدولة الريعية، إذ تعتمد على النفط والغاز مشكِّلين معًا نسبة 35% من إجمالي الناتج المحلي، و62 % من عائدات الحكومة، و98% من مداخيل التصدير. وعليه فالبلد يُصنف ضمن الاقتصاديات الأقل تنوعًا، مما يجعله رهينة تقلب أسعار المحروقات في الأسواق العالمية، لا سيما في ظل التراجع الكبير لها. ولا يزيد تعقيد المشهد الاقتصادي تراجع الأسعار فقط -بصفته سببًا خارجيًّا- بل تراجع الإنتاج وارتفاع الاستهلاك الداخليَّين أيضًا.

ويرجع المشكل إلى إخفاق السياسات المتبعة طَوال عقود في التحرر من التبعية لقطاع المحروقات، مما أدخل البلد في ركود تنموي تزامن مع نمو ديمغرافي كبير، أنتج لنا معدلات كبيرة للبطالة والفقر وانهيار القدرة الشرائية، واجهتها الحكومات المتعاقبة في آخر عهدة لبوتفليقة بسياسات الترقيع والتقشف، وتفعيل الضرائب والتمويل التقليدي عبر طبع الأموال، وارتفاع الأسعار التي تمس المواطن البسيط، والذي بدوره يطَّلع يوميًّا في الإعلام على تسريب عشرات ملفات الفساد، في إطار صراع الفواعل داخل النظام، لتكشف عن نهب مليارات الدولارات من المال العامّ (ملف سونطراك – الطريق السيّار – تركيب السيارات – …). كما يُلاحظ علنًا تشكُّل طبقة رجال أعمال جُدد، مُنحت لهم امتيازات كبيرة من العقار الصناعي والقروض الضخمة والتنازل عن الشركات الوطنية، كرّستها قوانين المالية في السنوات الأخيرة4.

الأزمة الاجتماعية:

لعل أهم ما حرك الجزائريين في السنوات الأخيرة هي الظروف الاجتماعية، وهو ما يُعبَّر عنه يوميًّا بمظاهر الاحتجاجات الشعبية والفئوية والنقابية، وأعمال الشغب العفْوية، وقطع الطرق وإشعال إطارات السيارات، وهي مرتبطة أساسًا باللاعدالة الاجتماعية، التي يرفضها الجزائري بتاتًا ويسميها «الحقرة». فالإحصائيات تقول إن ما يقارب 12 ألف احتجاج -سنويًّا- لهو ذو مطالب اجتماعية وفئوية، من توزيع السكنات إلى التوظيف ورفع الأجور، ونقص التزود بالماء والكهرباء والغاز، وتسوية الأوضاع الاجتماعية للموظفين وغيرهم، إضافة إلى انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية (الحرقة) لمئات الشباب المستعدين للموت في عرض البحر المتوسط، الذين كانت صور جثث بعضهم صادمة فحركت مشاعر الغضب والتذمر عند الجزائريين. وتكشف هذه الأزمات الاجتماعية وغيرها -من انتشار الآفات المجتمعية والعنف في الأحياء، وظاهرة اختطاف الأطفال، وتغذية الاصطفاف الجهوي- عن قصور فادح في البرامج والسياسات الحكومية، وشراء السلم الاجتماعي في معالجة هذه القضايا المجتمعية5.

أزمة السياسة الخارجية:

يُعد هذا البعد الخارجي تجاوزًا للأبعاد الداخلية السالفة الذكر، فالجزائر تشهد في جوارها الإقليمي بيئة مضطربة وغير مستقلة سياسيًّا وأمنيًّا، إذ تعيش في ساحل من الأزمات الممتدة على حدود تتجاوز 6343 كم، ترتبط أساسًا بعدد من المعضلات الأمنية، التي تتمثل في مؤشرات الدولة المخفقة، والبنى الاقتصادية الهشة،وضعف الأداء السياسي، وانتشار التهديدات الأمنية الجديدة العابرة للحدود (الظاهرة الإرهابية – الجريمة المنظمة – تجارة البشر – تجارة الأسلحة – مشكلة اللاجئين – …)، التي تؤكدها تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. وهذا يزيد من الأعباء الأمنية والسياسية والتكاليف الاقتصادية على الجزائر لمواجهة تلك التهديدات، فمن المعلوم أن البلدان المتاخمة لمناطق الصراع تواجه ضغوطًا هائلة على موارد ميزانياتها، وتذهب تقديرات مثلًا إلى أن الجزائر أنفقت نحو ملياري دولار منذ بداية الحرب في ليبيا6.

ثانيًا: مسار الحراك الشعبي بين فرص الاستجابة وتحديات الإجهاض:

انفجار الأحداث وانكشاف النظام:

كان الدافع المباشر لخروج ملايين الجزائريين، إحساسهم بالإهانة والمذلة بعد تأكد ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، فالرجل غائب منذ سنوات بسبب المرض والعجز وفقدان النطق، وقد توالت الدعوات التي لم يتبنَّها أي أحد في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك مثلًا) للخروج يوم الجمعة 22 فبراير/شباط 2019م. وعلى رغم أن البعض أوعز ذلك إلى دور خفي للدولة العميقة (المخابرات) المتصارعة مع مؤسسة الرئاسة، فإن هذا لم يكن بإمكانه أن يُخرج الملايين من الجزائريين، بل تأكد أنه اتجاه قوي في الشارع الجزائري، رافض للعهدة الخامسة، ومن دون أي راية أو تأطير أو تصدر من أحزاب أو منظمات أو أشخاص. كما لم يكن وقفة عقل أو إدراكًا أو اختيارًا عقلانيًّا، بل لحظة عاطفية لاندفاع الملايين سلميًّا وفي كل مدن الجزائر، رفضًا للوضع القائم واستمرارية العهد البوتفليقي7.

الجيش الجزائري يُعد العامل الحاسم الذي أنقذ النظام الجزائري في كل محطات الانتقال السياسي، إلا إنه في حراك 22 فبراير/شباط 2019م، انحاز إلى الشعب وأسقط نظام بوتفليقة، واحترم الدستور بالحفاظ على المؤسسات المدنية دون المغامرة بانقلاب عسكري. بل إنه كان الفاعل الجوهري في عدم إراقة قطرة دم واحدة، وتجنيب البلاد تهديد تَكرار تجرِبة العشرية السوداء

وعلى رغم أن الجزائريين ما زالوا يستحضرون التوجس والخوف من آثار العشرية السوداء وآلامها، فإن مسيرات 22 فبراير/شباط كانت حقًّا مفاجئة للجميع (النظام والشعب وسفارات الدول الأجنبية)، سواءٌ بالأعداد الكبيرة والتنظيم والطابع السلمي. وتجدر الإشارة إلى أن سلوك الأجهزة الأمنية -التي لم تعترضها أو تقمعها- كان سببًا آخر لدفع ملايين أخرى إلى الخروج في الجمعة الثانية، التي وافقت الفاتح من مارس/آذار، حيث قُدرت الأعداد بأكثر من 16 مليون مشارك. ثم كانت الجمعة الثالثة من الحَراك، 8 مارس/آذار، الجمعة الأكثر حضورًا حسب متابعين (22 مليون مشارك)، فكانت ردًّا قويًّا على رسالة بوتفليقة التي أعلن فيها ترشحه رسميًّا. كما شهدت بمناسبة عيد المرأة العالمي مشاركة واسعة للنساء والأطفال، وهو ما كرس السلمية والمظاهر الحضارية والأخلاقية8.

لقد كانت الأسابيع الستة الأولى كافية لانكشاف عميق داخل النظام، إذ عُطِّلت العهدة الخامسة ومشروع التأجيل والتمديد لعهدة بوتفليقة، وانتهت هذه الأسابيع بإزاحة الوزير الأول، ودفع بوتفليقة إلى الاستقالة عبر تفعيل المادة 102 من الدستور، التي تتحدث عن شغور منصب رئيس الجمهورية، وبات واضحًا أن مؤسسة العسكر قد استرجعت مقاليد الحكم وزمام المبادرة، عبر تحييد وإضعاف أدوات وأذرع كلٍّ من مؤسسة الرئاسة والدولة العميقة، ابتداء برجال المال والخصوم السياسيين والأمنيين، ورجال القضاء ووسائل الإعلام.

وإن كان نجاح الثورات أو إخفاقها مرتبطًا بموقف مؤسسة الجيش منها، فإن الجيش الجزائري يُعد العامل الحاسم الذي أنقذ النظام الجزائري في كل محطات الانتقال السياسي، إلا إنه في حراك 22 فبراير/شباط 2019م، انحاز إلى الشعب وأسقط نظام بوتفليقة، واحترم الدستور بالحفاظ على المؤسسات المدنية دون المغامرة بانقلاب عسكري. بل إنه كان الفاعل الجوهري في عدم إراقة قطرة دم واحدة، وتجنيب البلاد تهديد تَكرار تجرِبة العشرية السوداء، عبر عزل وتحييد الرؤوس المدبرة لكلٍّ من مؤسسة الرئاسة والدولة العميقة (المخابرات)، التي خططت لتغيير قيادة الأركان بتوقيع قرارات باسم رئيس الجمهورية العاجز، وهو ما تنبه له الجيش الذي تحرك بضربات استباقية وسريعة9.

الجيش بين التحول وإعادة إنتاج النظام:

بعد الجمعة الأولى من الحراك، خرج الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش بخطاب يقول فيه إن المسيرات نداءات مشبوهة، ووصف المتظاهرين بالمُغرَّر بهم. لكنه سرعان ما استدرك في خطاب لاحق بأن الجيش يتقاسم مع الشعب «نفس القيم والمبادئ»، وصارت بيانات الجيش وتصريحات قائد أركانه تتماهى مع مطالب الحراك الضاغطة على مؤسسة الرئاسة يوميًّا. ثم جاءت مخرجات لقاء التحالف بين الرئاسة والدولة العميقة -المتمثلة في اللقاء الذي كان بين السعيد بوتفليقة مستشار الرئيس، ورئيس المخابرات السابق الجنرال محمد مدين (توفيق)، ومجموعة من السياسيين- لتعجّل إنهاء علاقة الجيش بالرئاسة، وسحب الغطاء الأمني من السلطة. وهو اللقاء الذي كُشف محتواه لاحقًا، إذ كان راميًا إلى وضع مخطط لتسيير الأزمة وإقالة قائد الأركان، وهذا يمثل انشقاقًا عميقًا داخل النظام، يُعد أبرز تحول في الحراك الجزائري.

وفي 26 مارس/آذار، اقترح رئيس أركان الجيش مخرجًا دستوريًّا للأزمة، يتمثل في تطبيق المادة 102 من الدستور، التي تحدد إجراءات إعلان (ثبوت المانع) لرئيس الجمهورية، واستحالة ممارسة مهامه، لأسباب بينها «المرض الخطير والمزمن». وفي 2 أبريل/نيسان، دعا القايد صالح إلى «التطبيق الفوري للحل الدستوري» الذي يتيح عزل الرئيس، حتى أُعلنت بعده بوقت قصير استقالة بوتفليقة10.

ثم جاء استحواذ الجيش على مقاليد القرار ابتداء من الأسبوع السادس للحراك تحت غطاء المادة 102 من الدستور، بعد أن كان منذ الأسبوع الثاني للحراك يباركه ويمدحه، وهو ما شجع الكثير على القول بأنه لم يُقمع. حينها صار الجيش هو السلطة الفعلية، وبدأ في تنفيذ رؤيته متماهيًا مع الحراك، تلك الرؤية التي كانت مطالبة بمحاسبة المسؤولين والفاسدين ناهبي المال العامّ، فبدأت تتساقط بعض الأسماء التي لم يكن يحلم أي جزائري بسقوطها يومًا، وصار الحراك يطالب يوم الجمعة، ليستجيب الجيش -عبر خطابات قائد الأركان- يوم الثلاثاء.

ومع مرور الأسابيع بدأ النقاش حول مستقبل الجزائر، وظهرت عشرات المبادرات المختلفة لحلول وتصورات ورؤًى للوضع. وعلى رغم المسار الاحتجاجي السلمي، فقد كانت المطالب راديكالية ثورية عبّر عنها الشعار «يتنحّاو قاع»، بمعنى رحيل الجميع. وهذا ما كان يصطدم برؤية الجيش، لا سيما مطلب رحيل كلٍّ من رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، والوزير الأول نور الدين بدوي، ورئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، وهو الذي رفض تنحيتهم لأسباب متعددة، منها التقيد بالدستور، والخوف من الفراغ المؤسساتي وفخ الوقوع في تهمة الانقلاب العسكري. وذهب الحراك في مطالبه إلى حد المطالبة بإقصاء أحزاب الموالاة، وطرد كثير من السياسيين ورؤساء الأحزاب من المسيرات (وكأنه عزل سياسي عمليًّا)، وتعدَّى الأمر ذلك إلى طرد وزراء الحكومة من الشارع، ودعوات إلى العصيان المدني، وغلق مداخل مقرات البلديات.

لقد كانت كل الرؤى المطروحة لحل الوضع متباينة، ما بين الأغلبية التي ترى أن الأزمة سياسية وتحتاج إلى حلول سياسية، على اختلاف هذه الحلول، فالبعض كان ينادي بمرحلة انتقالية، والبعض بمجلس تأسيسي أو مجلس أعلى للدولة، وآخرون بضرورة الانتخابات بشروط نزيهة ولجنة مستقلة للإشراف على عليها، وبين رؤية الحلول الدستورية التي كان تتبناها السلطة الفعلية (الجيش) بصفتها خِيارًا مفصولًا فيه. وهو الدور الذي بدأت تُطرح حوله الأسئلة من قِبَل: هل الثقة بمؤسسة الجيش ممكنة؟ وهل الثقة تُبنى أم تُصدر؟ وبدأت تَخلق توجسًا من عسكرة الدولة على رغم الحفاظ على الواجهة المدنية، وبات شعار (مدنية وليست عسكرية) حاضرًا بقوة، إذ شهد الحراك منذ الجمعة العشرين شعارات ضد الجنرال القايد صالح قائد الأركان11.

إن تقيد مؤسسة الجيش بالدستور، وحرصها على الانتخابات الرئاسية التي كان من المفروض أن تكون بعد تسعين يومًا من استقالة بوتفليقة، وهو ما يصادف الرابع من شهر يونيو/حَزِيران، لم يكن كافيًا لتنظيمها عمليًّا في ظلِّ رفض الحراك لها، وهو ما حدث فعليًّا بعد إعلان المجلس الدستوري استحالة إجرائها. وبمرور الأشهر، ظهرت بوادر الانقسام في الحراك حول الرؤى والحلول، وهو ما يعكس ضعفًا وعجزًا في تصور خريطة طريق، إذ صار الحراك يرفض أي طرح أو حلول، دون تقديم بديل لها، كما لم يستطع -عبر شهور- إخراج ممثلين له، وكانت تغذية الاصطفاف الجهوي والعرقي (الراية الأمازيغية) مما زاد في تسميمه. وفي ظلِّ تنصيب هيئة الحوار والوساطة، التي اجتمعت بعدد كبير من رؤساء الأحزاب والجمعيات والنقابات وبعض شباب الحراك، كان عامل الزمن لصالح مؤسسة الجيش، التي أعلنت بحلول الشهر السادس للحراك (3 سبتمبر/أيلول) عن ضرورة استدعاء الهيئة الناخبة يوم 15 سبتمبر/أيلول، وتنصيب الهيئة المستقلة لمراقبة الانتخابات، وإذا استجاب رئيس الدولة المؤقت بن صالح، وحدد موعد إجراء الاستحقاق الرئاسي في 12 ديسمبر/كانون الأول12.

الانتخابات الرئاسية ومأزق الحراك:

بعد أكثر من تسعة أشهر من الحراك الشعبي المستمر في المطالبة بتغييرات جذرية، ما زالت بعض الأصوات ترفض إجراء الانتخابات الرئاسية بصفته أحد الحلول المطروحة، وترى أن الظروف العامة ما زالت لم تتوافر لتنظيمها في وجود نور الدين بدوي، وزيرًا أولَ متهمًا بالتزوير بصفته وزير الداخلية في محطات انتخابية سابقة، ومنها جمع أكثر من ستة ملايين استمارة للمترشح بوتفليقة. في حين تصر المؤسسة العسكرية على تنظيم الانتخابية الرئاسية مهما كلف الأمر، وهو ما صرح به قائد الأركان في أحد خطاباته في شهر سبتمبر/أيلول، لا سيما أن الحراك نجح في تعطيل موعدين انتخابيين رئاسيين وقت الحراك الشعبي (18 أبريل/نيسان و4 يوليو/تمُّوز). من أجل لذلك عملت المؤسسة العسكرية -بصفتها سلطة فعلية في مدة ما بعد 4 يوليو/تمُّوز- جاهدةً لتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات رئاسية، فشُكلت هيئة الوساطة والحوار الوطني برئاسة كريم يونس رئيس البرلمان الأسبق13، وكان هدفها إيجاد نهج توافقي للخروج من المأزق السياسي، بالحوار مع مختلِف الفواعل السياسية ونشطاء المجتمع المدني وممثلي الحراك الشعبي، وكان من مخرجاتها التي رُفعت إلى رئيس الجمهورية المؤقت بن صالح، تعديل القانون العضوي للانتخابات، وإنشاء السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، التي تأسست لاحقًا برئاسة محمد شرفي وزير العدل الأسبق، وحُدد موعد نهائي لإجراء الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر/كانون الأول14.

وهنا طُرح النقاش مجددًا: هل تُعد الانتخابات الرئاسية فرصة للاستجابة لمطالب الحراك بالتغيير والتحول الديمقراطي، أم إجهاضًا له؟ وهل كانت إجراءات (هيئة الوساطة والحوار) و(السلطة المستقلة للانتخابات) أرضية بناء الثقة مع الشارع؟ فالبعض يرى في اختيار شخصيات من أرشيف النظام على رأس الهيئتين مؤشرًا من مؤشرات إعادة إنتاج النظام نفسه، وهو ما أكدته الأسماء الخمسة المرشحة لغمار خوض الرئاسيات، والتي نالت موافقة السلطة المستقلة للانتخابات عليها، إذ يُذكر أن اثنين منهما شغلا منصب رئيس الوزراء تحت حكم الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة.

وفي انتخابات رئاسية اتسمت بأدنى مستوى مشاركة في تاريخ الانتخابات الرئاسية في البلاد، إذ بلغت نسبة المشاركة نحو 39.9%، أفرزت فوز المرشح الحر عبد المجيد تبون، الذي شغل منصب الوزير الأول سابقًا، والعضو القيادي في حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم منذ استقلال البلد. وفي أول خطاب له بعد إعلان فوزه، أكد عزمه الحوار الجاد مع الحراك الشعبي، وهو ما عدَّه البعض هدية مسمومة تهدف إلى تفكيك الحراك. لتأتي لاحقًا مجموعة إجراءات منها إطلاق سراح الكثير من السجناء على خلفية الاحتجاجات، ووجود بعض وجوه الحراك في تشكيلة الحكومة الجديدة، لتزيد في انقسام مواقف الشارع وتباينها. ففي حين يرى البعض أن مشروعية المطالب تبقى قائمة متمثلة في القطيعة النهائية مع النظام السياسي ورحيل جميع رموزه، يرى آخرون أن الحراك فقدَ جميع مسوِّغاته مع الانتخابات الرئاسية وإعلان رئيس جديد15.


قائمة المصادر والمراجع:

  1. العشرية السوداء هي صراع مسلح قام بين النظام الجزائري والجماعات الإسلامية المسلحة، ودامت في الفترة ما بين 1992 و2002، وراح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل.
  2. جابي، ناصر. الجزائر: أحزاب ما قبل الحراك. القدس العربي. نشر في 11 أغسطس/آب 2019، شوهد في 26 ديسمبر/كانون الأول 2019، الرابط https://bit.ly/2tkNjZo
  3. الصيداوي، رياض. نهاية زمن بوتفليقة.ـ صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر. المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية، تونس – جنيف
  4. قشي، عشور. الجزائر استقرار هش في إقليم مضطرب. جريدة الحوار، العدد 21، فبراير/شباط 2016، شوهد في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، الرابط https://bit.ly/2TqfbG4
  5. قشي، عشور. نفس المرجع.
  6. قوي، بوحنية. إستراتيجية الجزائر تجاه التطورات الأمنية في الساحل الأفريقي. مركز الجزيرة للدراسات، نشر في 03/06/2012، شوهد في 1 ديسمبر/كانون الأول 2019، الرابط https://bit.ly/2NA5d0Y
  7. بكيس، نور الدين. الحراك الشعبي الجزائري: النسخة المنقحة لثورات الربيع العربي. النشر الجامعي الجديد، 2019.
  8. فاروق، طيفور. الحراك الشعبي الجزائري في موجته الثالثة: الفرص، المخاطر، المناعة المستقبلية، الجزائر. منشورات السائحي، 2019.
  9. بكيس، نور الدين. مرجع سبق ذكره.
  10. افتتاحية الجيش: التبصر والحكمة لإجهاض كل الدسائس، مجلة الجيش، عدد 670، مايو/أيّار 2019.
  11. بكيس، نور الدين. مرجع سبق ذكره.
  12. بلغيث، عبد الله. الانتخابات الرئاسية في الجزائر ديسمبر 2019 وتحديات الاستقرار السياسي. مركز الجزيرة للدراسات، نشر في 11/12/2019، شوهد في 05 يناير/كانون الثاني 2020، الرابط https://bit.ly/2TyVqMD
  13. حاورت هيئة الوساطة والحوار 4271 من فواعل الحراك الولائي والمشتركين في الجلسات الولائية، و51 جمعية وتنظيمًا وطنيًّا، إضافة إلى 55 جمعية محلية، و17 حركة شعبية ومنتدًى، و267 من النخب الجامعية، و51 طالبًا جامعيًّا. كما حاورت هيئة كريم يونس 49 شخصية من الأعيان والحكماء، إضافة إلى 521 شابًّا، و331 ناشطًا حقوقيًّا، و65 من نخبة النساء، و25 حزبًا سياسيًّا.
  14. عبد العال، محمود. مأزق الحراك: تحديات ما بعد فوز تبون برئاسة الجزائر. المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، نشر في 15 ديسمبر/كانون الأول 2019، شوهد في 12 يناير/كانون الثاني 2020، الرابط https://bit.ly/35XuatO
  15. كمال، عبد الله. ما مصير الحراك الجزائري بعد أن أصبح تبون رئيسًا؟ ساسة بوست، نشر في 21 ديسمبر/كانون الأول 2019، شوهد في 10 يناير/كانون الثاني 2020، الرابط https://bit.ly/2tsxEHv

 

 

 

 

 

قرن محمد إسلام

باحث في العلاقات الدولية - الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى