المشهد السياسي في المغرب: دلالات النتائج وسيناريوهات المسار الديمقراطي

اقرأ في هذا المقال
  • تعددت الأسباب التي جاءت وراء خسارة العدالة والتنمية ما بين داخلية متعلقة بالحزب ومكوناته، وما بين الأداء العام للحكومة المغربية برئاسة "سعد الدين العثماني"، ورغم أن القراءات حمّلت العدالة والتنمية نتيجة الأوضاع الاقتصادية إلا أن القراءة المعمّقة تعطى وجهًا آخر للمشهد.

بهاء محمود

باحث في النظم السياسية العربية

تمهيد:

أُجريت الانتخابات التشريعية المغربية يوم 8 من سبتمبر الجاري، والتي مثّلت الاستحقاق الثالث منذ تعديل الدستور المغربي 2011 إبّان الحراك العربي أو ما سُمّي بثورات الربيع العربي، والتي على إثرها عدّل عاهل المغرب الدستور؛ ليصبح اختيار رئيس الوزراء من قِبَل الحزب الفائز بالأغلبية، مع منحه بعض الصلاحيات وبقاء الكثير من السلطات والوزارات السيادية في يد القصر.

الانتخابات جاءت وسط أجواء متغيّرة عن الدورتين السابقتين في 2011، و2016، ما بين تعديل قانون انتخابي لاقى انتقادات من القوى السياسية، وارتفاع معدلات البطالة وتراجع السياحة، وتداعيات وباء كوفيد19، بخلاف الأزمات السياسية الداخلية والخارجية. النتائج أفرزت تغيّرًا في خريطة القوى الحزبية من صعود التيار الليبرالي والمحافظ على حساب التيار الإسلامي (العدالة والتنمية)، مع تقدّم نسبي لليسار؛ الأمر الذي يخلق تحالفات حكومية جديدة، واستبدال قوى المعارضة.

أولًا: السياق الحاكم للانتخابات:

تُعدُّ الأجواء السابقة لأي استحقاق انتخابي عاملًا مؤثرًا في مخرجات العملية الانتخابية سواء تلك المختصة ببرامج الأحزاب، أو حالة الاستقطاب السياسي، أو النظام الانتخابي، أو الظروف الاقتصادية وغيرها من عوامل محدّدة بشكل كبير في النتائج، ويمكن إبراز أهم العوامل التي أثّرت في الانتخابات التشريعية المغربية كما يأتي:

  1. تعديل القانون الانتخابي:

في 17 مايو 2021م نشرت الجريدة الرسمية بالمغرب((تعديلات القانون الانتخابي، الجريدة الرسمية عدد 6987، مادة رقم 84، صفحة 3407.))، تعديلات القانون الانتخابي الجديدة، والتي جعلت توزيع المقاعد تحسب بواسطة قاسم حسابي يقسم عدد الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية على عدد المقاعد المخصصة، على عكس النظام السابق الذي يحسب توزيع المقاعد بناء على الأصوات الصحيحة في الدائرة الانتخابية. تعديل القاسم الانتخابي صوّت عليه بالموافقة 162 صوتًا من المعارضة والائتلاف الحاكم أيضًا، فيما رفضه 104 أعضاء من حزب “العدالة والتنمية”؛ ممّا يعني أن الحزب صاحب المقاعد الأكبر في البرلمان المغربي لم يستطع السيطرة على الائتلاف الذي يقوده، ولا على كل نوابه البالغين 125عضوًا؛ حيث إنه تخلّف عنه 21 عضوًا، ربما يكون ذلك بسبب الانقسام الداخلي على سياسات الأمين العام السابق “سعد الدين العثماني”. كانت مبررات “العدالة والتنمية” في رفضه للقاسم الانتخابي أنه يساعد على تفتيت البرلمان، كما أنه يجازي الأحزاب التي ليس لها قاعدة شعبية ((

بأربع مستجدات تنظيمية كيف تأتى الانتخابات العامة في المغرب؟، TRTعربي، 2021.

https://cutt.us/F90oT

)).

  1. مؤشرات اقتصادية سلبية:

أجريت الانتخابات المغربية وسط أوضاع اقتصادية يمكن القول عنها أنها سيئة؛ مردّها الأساسي تداعيات وباء كوفيد 19، والتي بسببها تراجعت السياحة، وزادت معدلات البطالة من 9,2% في 2019م لتصل بنهاية 2020م لمعدل 11.9%، وخلال النصف الأول من العام الجاري أي قبل عقد الانتخابات بثلاث أشهر بلغت النسبة 12.8%((

المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب،

https://cutt.us/ZRmpK

)) .

  1. تراجع التيار الإسلامي في المنطقة:

قبل الانتخابات المغربية، كان حزب العدالة والتنمية آخر ممثّل رسمي موجود لتيار الإسلام السياسي في حكومة عربية، عقب الأزمة التونسية وحلّ البرلمان، وخسارة حركة مجتمع السلم في الجزائر الانتخابات، ومن قبلهم خروج حزب “الحرية والعدالة” المصري الظهير السياسي لجماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي المصري منذ 2013م، وبقاء الأوضاع في ليبيا كما هي دون حسم. بالإضافة لما سبق خسر “العدالة والتنمية” انتخابات الغرف المهنية في أغسطس الماضي 2021م، ولم يحصل سوى على 49 مقعدًا فقط((

نتائج انتخابات الغرف المهنية، موقع البوابة الوطنية المغربية.

https://cutt.us/JyxbC

)) .

  1. حملات انتخابية إلكترونية:

تماشيًا مع أزمة وباء كوفيد 19 كان محظورًا أن تتجاوز التجمعات الانتخابية 25 فردًا، كما جري حصر الحملات الميدانية في 10 أفراد فقط، وبالتالي كان اللجوء لخيار مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الأحزاب الالكترونية الحل الأفضل؛ لنشر برامج الأحزاب ودعاياتهم وشعاراتهم. ويذكر أن حزب التجمع الوطني للأحرار أنفق خلال الست أشهر السابقة للانتخابات حوالي 270 ألف دولار على الحملات الدعائية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، وأنفق في الفترة الممتدة بين 29 أغسطس و4 سبتمبر حوالي 65 ألف دولار، في حين إجمالي إنفاق حزب الاستقلال الذى حل ثالثا في الترتيب ، 29 ألف دولار فقط ، بما يعنى حزب التجمع الوطني للأحرار أنفق 9أضعاف إنفاق حزب الاستقلال، أما بقية الاحزاب فمجمل إنفاقها بلغ 26 ألف دولار منها 8 ألف دولار أنفقها حزب الاصالة والمعاصرة ,التقدم والاشتراكية 5500 دولار , 1000 دولار حزب العدالة والتنمية، وبقية الاحزاب أنفقت الباقي((

عبد المجيد أمياى، “عشية الانتخابات كم أنفقت أحزاب المغرب على الدعاية الرقمية”، الاناضول.

https://cutt.us/aRElK)).

ثانيًا: مؤشرات ودلالات النتائج:

شهدت الانتخابات التشريعية المغربية زيادة نسبة المشاركة على عكس ما توقع البعض؛ حيث زادت النسبة من 43% في انتخابات 2016م، لتصل إلى 50,18 % في انتخابات 2021،((بيان وزارة الداخلية المغربية حول نتائج الانتخابات البرلمانية المغربية ، فرانس 24. https://www.youtube.com/watch?v=IH65G6P_4FY)) فيما عكست النتائج النهائية تغيرًا في المزاج العام للناخب المغربي يمكن رصده عبر المقارنة بين نتائج الانتخابات التشريعية الثلاث من 2011م كما يلي:

 توزيع عدد المقاعد للنتائج النهائية للانتخابات التشريعية حسب احصائيات وزارة الداخلية بالمغرب.((

2 “بلاغ حول النتائج العامة للانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية”، موقع وزارة الداخلية المغربية.

http://www.elections.ma/communiques/legislatives/communiques.aspx))

ممّا سبق نلاحظ أولًا؛ صعود شعبية الأحزاب الليبرالية واليمينية بما يزيد عن الضعف (التجمع – الاستقلال) مع ثبات نسبي عند (الحركة الشعبية – الاتحاد الدستوري). ثانيا؛ اقتراب القوى اليسارية إلى ما سبق عهدها في انتخابات 2011م (الاتحاد الاشتراكي – التقدم والاشتراكية). ثالثًا؛ تراجع حزب الأصالة والمعاصرة بمقدار 8%، وخسارة العدالة والتنمية حوالي 90% من مقاعدها، ويعزو خسارة الأصالة والمعاصرة ما بين الأزمات الداخلية، والميل العام نحو الأحزاب التقليدية ما بين اليسار واليمين، بخلاف الأصالة والمعاصرة الذي يجمع عدة حركات وأيدولوجيات متباينة. أما عن خسارة حزب العدالة والتنمية فتعود مقدمة إلى الإخفاق الذي واجه حكوماته طوال عشر سنوات في ملفات الفساد والبطالة من جانب، وقراراته التي أضرّت بالشرائح الاجتماعية من الطبقتين الوسطى والدنيا لاسيما رفع سن التقاعد، وخفض الأجور، وتقليص الدعم، وبالإضافة لما سبق تقنين القنب الهندي؛ مما جعل هناك توجّهًا عامًّا للتحوّل عن الحزب الذي يحمل مرجعية إسلامية، وعدم قبول شعاراته ومبرراته في إسقاط إخفاقه على القوى الأخرى المشاركة له في الحكم والأخرى التي وصفها بالمفسدة.((منتصر حمادة ، “قراءة أولية في هزيمة العدالة والتنمية”، الملف الاستراتيجي،shorturl.at/fzQR4))

ثالثًا: خسارة حزب العدالة والتنمية وتداعياتها:

تعددت الأسباب التي جاءت وراء خسارة العدالة والتنمية ما بين داخلية متعلقة بالحزب ومكوناته، وما بين الأداء العام للحكومة المغربية برئاسة “سعد الدين العثماني”، ورغم أن القراءات حمّلت العدالة والتنمية نتيجة الأوضاع الاقتصادية إلا أن القراءة المعمّقة تعطى وجهًا آخر للمشهد؛ ومن ثمّ نتائجه. ويمكن توضيح ذلك كالآتي:

  1. تشكيل الحكومة:

عقب فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية عام 2016 بدأ الرئيس الأسبق للحكومة المغربية “عبد الإله بن كيران” مشاوراته لتشكيل ائتلاف يكمل النصاب البالغ 198 مقعدًا. خلال خمسة أشهر لم يستطع بن كيران تشكيل ائتلاف مع حليفه الرئيسي حزب التقدم والاشتراكية، رغم موافقة حزب الاستقلال الذي جاء ثالثًا في ترتيب الانتخابات المغربية بعد الأصالة والمعاصرة الذي؛ رفض دخول الحكومة. فيما تكوّنت جبهة ترأسها عزيز أخنوش رئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار”، ترفض دخول حزب “الاستقلال” الائتلاف وترغب في ضم “الاتحاد الاشتراكي” بدلًا منه، وهو ما رفضه بن كيران؛ ليتدخل الملك في 17 مارس 2017((تعقيدات تشكيل الحكومة المغربية وتأثيراتها على مستقبلها السياسي”، مركز الجزيرة للدراسات،https://studies.aljazeera.net/ar/article/588))، ويعفي بن كيران، ويسند بدلًا منه “سعد الدين العثماني” الذي من جانبه وافق على شروط أخنوش وحزبه، علمًا بأن التجمع الوطني للأحرار جاء في الترتيب الرابع بـــ 37 مقعدًا فقط، ومع ذلك كان المتحكم الرئيسي في تشكيل الحكومة بعد تمسكه بالوزارات الاقتصادية والتنموية.

تشكّلت الحكومة المغربية وحصل عزيز أخنوش على وزارة الزراعة والفلاحة، فيما حصل ثلاثةٌ من أعضاء حزبه على وزارات: (الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي والأخضر) للوزير مولاي حفيظ، و(الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة) لمحمد بن شعبون، فيما حصلت السيدة نادية فتاح على وزارة (السياحة والصناعة التقليدية والنقل الجوي)، وطبقًا للتقليد المتبع في تشكيل الحكومات المغربية يعيّن الملك الوزارات السيادية مثل الخارجية والداخلية والأوقاف. أمّا عن حزب العدالة والتنمية الحزب الفائز بالأغلبية فلم يحصل على أي وزارة ذات بعد اقتصادي سوى “الطاقة والمعادن”، بالإضافة لوزارات أخري مثل التضامن والعدالة الاجتماعية((

“تشكيل الحكومة المغربية برئاسة العثماني”

https://www.cg.gov.ma/ar/%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D8%A9- %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-0

)). الثابت من تشكيل الحكومة مسألتان: الأولى؛ أن العدالة والتنمية لم يكن له يدٌ حقيقية في الأداء الاقتصادي للحكومة التي يترأسها، ومن ثم لو أن هناك إخفاقًا يتحمله الملك وحزب التجمع الوطني للأحرار، على عكس ما يوجّه للعدالة والتنمية من تحميلها مسؤولية الأوضاع الاقتصادية السيئة، والتي جزء منها مرده لتداعيات وباء كوفيد 19. المسألة الثانية؛ أن امتلاك العاهل المغربي قدرة على التدخل في تشكيل الحكومة واختيارات وزارت بعينها، ثم تحكّم التجمع الوطني للأحرار (القريب من القصر الملكي) بزمام الائتلاف ضمنيًا يعنى أن العدالة والتنمية ورئيسها السابق العثماني بمثابة سكرتير منتخب، وليس رئيسًا للوزراء في دولة نظامها سياسي هجين.

  1. الانقسام الداخلي وتأثيره: مَثَّل إعفاء بن كيران من تشكيل الحكومة المغربية انقسامًا داخل العدالة والتنمية؛ لاسيما وأن الذي توّلى خلفه رجلٌ توافقيٌ وهو العثماني، الذي بدا مهادنًا للقصر في كل شيء على حساب قواعد الحزب الشعبية ومكانته؛ بدايةً بموافقة العثماني على تطبيع المغرب مع إسرائيل على عكس موقف بن كيران، مرورًا بالعجز عن التصدي لتقنين القنب الهندي، ونهايةً بقرارات زيادة سن التقاعد وغيرها من التوجّهات التي قسمت الحزب وأثّرت على شعبيته؛ حيث بدا أن الحزب يملك خطابًا متناقضًا على عكس توجهاته.

أمّا على مستوى تداعيات خسارة العدالة والتنمية فقد تزامن ذلك مع تراجع في مجالس الجماعات والمقاطعات؛ حيث جاءت في الترتيب الثامن، وحصلت فقط على 777 مقعدًا؛ حيث تصدّر الترتيب أحزاب التجمع الوطني للأحرار بـــ 9995 مقعدًا، والأصالة والمعاصرة بـــ 6210 مقاعد، والاستقلال بـــ 5600 مقعد، وبالتالي فإن مرتبة العدالة والتنمية لم تختلف في البرلمان عن المحليات، فضلًا عن خسارته في الانتخابات المهنية؛ ممّا يعنى أن هناك خسارة عامة للعدالة والتنمية على كافة الأصعدة الانتخابية. الأمر الذي انعكس بداية على المشهد الداخلي للحزب من استقالة الأمانة العامة برئاسة رئيس الوزراء “سعد الدين العثماني” الذي لقي انتقادات من الزعيم السابق للحزب والحكومة عبد الإله بن كيران، محمِّلًا العثماني نتيجة خسارة الحزب، وهو ما جعل كيران يدرس العودة مرة أخرى لمكانته السابقة. ((عادل نجدى ، “هل تمهد الهزيمة الانتخابية للعدالة والتنمية لعودة بين كيران إلي قيادة العدالة والتنمية المغربي”، https://cutt.us/hi1mE))

أما على مستوى مكانة العدالة والتنمية في الحياة السياسية فجليٌ أن مقاعد الحزب لن تمكّنه من تشكيل جبهة معارضة قوية، إلا لو تحالف مع حزب “الأصالة والمعاصرة”، حال خرج الأخير من الائتلافات الحكومية المحتملة. كما أن العدالة والتنمية بمفرده لا يستطيع تشكيل كتلة نيابية، والتي تتطلب 20 مقعدًا على الأقل. ومن ثَمَّ لن يكون هناك دور أو وزن للعدالة والتنمية كقوى معارضة في البرلمان المغربي. وتبقّى أن سيناريوهات وضع ومستقبل العدالة والتنمية مرهونٌ بسياقين: الأول؛ هو إخفاق الحكومة القادمة خلال الخمس السنوات الآتية في إصلاح الأوضاع الاقتصادية، وتبنّي مطالب الطبقتين الوسطى والدنيا، والسياق الثاني؛ هو قدرة العدالة والتنمية على تبنّي خطابٍ مغايرٍ جديد يضع حلولًا وبرامجَ قادرة على المنافسة على السلطة، وعدم اعتماد سياق الخطاب الديني الذي لم يعد مقبولًا على المستوى الداخلي في المغرب أو في الإقليم عامّة؛ في ظل عدم وجود تجربة ناجحة اقتصاديًا قادها التيار الإسلامي في المنطقة، لاسيما مع الاحتجاجات الأخيرة بتونس، والتي جاءت اعتراضًا على سياسات وإدارة حركة النهضة. ومن ثمّ تُعدُّ النتائج الحالية لحزب العدالة والتنمية في البرلمان بمثابة العودة للوراء مرة أخرى إلى ما قبل التأسيس عام 1967م؛ كون مشاركة الحزب الحالية هي الأسوأ منذ دخول البرلمان المغربي لأول مرة عام 1997م عندما حصد الحزب حينها 9 مقاعًد.((

نتائج الانتخابات التشريعية المغربية 1997،

https://cutt.us/RDnAV))

رابعًا: تشكيل الحكومة ومستقبل التحوّل الديمقراطي.

السمة الرئيسية في الأحزاب المغربية هي غلبة البرجماتية على الأيدلوجية، ولعل تاريخ الائتلافات الحكومية خير شاهد؛ فالحكومة الحالية مكوّنة من تيارات (إسلام سياسي +الليبرالي+ الوسط اليسار)، وبالتالي مع خروج حزب العدالة والتنمية من الائتلاف الحاكم تظل التعددية الأيدلوجية مستمرة، الفارق فقط في تبدّل المقاعد بين المعارضة والائتلاف الحاكم، في ضوء معيارين: الأول؛ أن القوانين المنظّمة قد حددت الحد الأدنى للكتلة النيابية عند 20 مقعدًا، وهو ما لا يتوفر حاليًا عند حزب العدالة والتنمية؛ بما يعنى أنها لا تمثل صوت معارضة قوي يعول عليه، والمعيار الثاني؛ أن الأغلبية اللازمة لمنحة الثقة للحكومة 198 مقعدًا؛ وهو حجم لم يصل إليه أيٌّ من الأحزاب مطلقًا، في ضوء أن الدستور المغربي يلزم الملك اختيار رئيس الوزراء من الحزب الفائز بأكبر المقاعد، وهو حاليًا وزير الزراعة ورجل الأعمال “عزيز أخنوش” رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وتبدو حتى الآن الائتلافات الممكنة كالآتي:

1. ائتلاف القصر: في مقدمة النتائج تصدّر حزبَي “التجمع الوطني للأحرار” الذي تأسس عام 1977م على يد “أحمد عصمان” صهر الملك الراحل الحسن الثاني، وحزب “الأصالة والمعاصرة” الذي أسسّه “فؤاد عالي الهمة” مستشار الملك محمد السادس عام 2008م، وهما يملكان 188 مقعدًا، ويحتاجان فقط لعشرة مقاعد يمكن الحصول عليها من بقية الأحزاب الأخرى مثل: (الاتحاد الدستوري – والاتحاد الاشتراكي – والحركة الشعبية).

2. الائتلاف الكبير: الائتلاف الحكومي الثاني المرجح هو ضمّ الأحزاب الثلاثة المتصدّرة (التجمع الوطني للأحرار – والأصالة والمعاصرة- والاستقلال) بمجموع مقاعد 269 مقعدًا، مع إتاحة الفرصة لضمّ أحزاب أخرى ما عدا حزب العدالة والتنمية غير المرجّح ضمّه لأي ائتلاف. وقد أعلن مبدئيا عن حصول توافق في هذا الاتجاه في انتظار مصادقة رسمية من قبل البرلمان والقصر. وفي صورة عدم حصول اعتراضات جوهرية يبدو هذا السيناريو الأكثر قابلية للتنفيذ.

3. ائتلاف الليبراليين: في صورة تعثّر الائتلاف المعلن عنه من قبل رئيس الوزراء المكلّف ورئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار” عزيز أخنوش، واذا رغب في تشكيل حكومة متقاربة فكريًا، وحتى يتكوّن ائتلاف أكبر يمكن ضمّ حزب الحركة الشعبية، وحزب الاتحاد الدستوري؛ ليكون إجمالي مقاعد الليبراليين واليمين الوسط حوالي 230 مقعدًا، وهو حدٌّ كافٍ لمنح الثقة وتكوين حكومة متجانسة. حتى لو انضمت أحزاب من اليسار؛ فلن تكون ذات قوى تمنع قيام حكومة موحّدة الفكر والتوجّه.

على مستوى مستقبل التحوّل الديمقراطي في المغرب عقب خروج حزب العدالة والتنمية من المشهد السياسي، فإن ثمّة محددات توضّح المسارات المحتملة في المغرب، والتي يجب الأخذ بها في الحسبان عند تقييم التجربة المغربية ومنها:

1. الدستور المغربي والملك: طبقًا لصلاحيات الملك في الدستور المغربي بوضعه فوق مسألة النقد والمحاسبة، ومع وجود صلاحيات كبيرة له تجعله يملك سلطة حلّ البرلمان، والتدخّل في تشكيل الحكومات، والاحتفاظ بالوزارات السيادية، مع تقديم مبادرات في عدد من المجالات يتحكم بها في مجمل المشهد العام؛ يمكن القول أن النظام المغربي لا يُعدُّ نظامًا برلمانيًا تقليديا، ولا يعدُّ ملكية دستورية بالمعنى المتعارف عليه سياسيًا، وبالتالي افتقد مبدئيًا سمات النظام الديمقراطي؛ كون أي انتخابات تأتى ومهما تغيرت نتائجها فإن الحاكم الرئيسي للمشهد هو الملك، وبالتالي هو المسؤول الأول والأخير عن الأوضاع الاقتصادية في المقام الأول، وليس حزبًا بعينه؛ ولذا فإن أيّ تحوّلٍ ديمقراطي حقيقي يلزمه تغيّر النظام السياسي برمّته سواء بتحويله لنظام رئاسي واضح، أو برلماني أو حتى ملكية دستورية يملك فيها الملك ولا يحكم.

2. برجماتية الأحزاب: تُعدُّ تجربة ألمانيا استثناءً في تشكيل حكومة ائتلافية من حزبين لهما أيدولوجيات مختلفة (محافظين+ اشتراكيين) فيما عدا ذلك لا تنجح تلك الائتلافات غير المتوافقة، وهو ما يؤثر بالفعل على شعبية الأحزاب من جانب، وعلى تجانس الحكومات من جانب آخر، ولعل تجربة المغرب خير دليل فالحكومات المغربية غير المتجانسة بُنيتْ على سياقين: الأول؛ برجماتية الأحزاب وتخليها عن التزامها الأيديولوجي أو برامجها وقواعدها الشعبية، والثاني؛ الحرص على رضى الملك؛ وبالتالي المـُخرَج النهائي دولةٌ بلا أحزاب حقيقية، وتحوّلٌ ديمقراطي غير مكتمل.

إجمالًا يمكن القول إن التجربة التعددية المغربية لم تحسم بعد صراعات الانتقال الديمقراطي الأساسية، وأن تعثر حزب العدالة والتنمية ساهم في رجوع المشهد السياسي المغربي برمّته لما قبل 2011م، وفعليًا -وبغض النظر عن شكل الحكومة القادمة حال تأكيد الائتلاف الحكومي المعلن-فإننا سنكون أمام حكومة تقريبًا بلا معارضة برلمانية ولو صُورية. أمّا في صورة استبعاد حزب الأصالة والمعاصرة من الائتلاف الحكومي القادم؛ نظرًا لتوتّر العلاقات مع حزب التجمع الوطني للأحرار، على خلفية توجيه الأصالة اتهام التجمع الوطني بشراء الأصوات، ممّا يجعله منطقيًا يمكن أن يكون خارج التشكيل القادم؛ فإنه يمكن على الأقل اعتبارها معارضة تكمل المشهد، وإن كانت المؤشرات الحالية لا تبرهن على ذلك.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى